كيف تأثروا بالقرآن؟
لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، قولًا وعملًا ومنهجًا، وإن رمضان كما هو فرصة للتوبة من الذنوب بمعناها المعروف، فهو فرصة للأوبة الصادقة إلى كتاب الله، أوبةٍ تجلو أنوارها ما علق بالقلوب من قسوة وشقاء.
إن الحمد لله، أما بعد:
فإنك لو سألت كلّ مسلم: أتؤمن أن كتاب الله هدى، وشفاء، ورحمة، وبركة؟ وأن الأخذ به سبب للعزة؟ فسيجيبك فورًا: نعم! ثم تقلّب نظرك في واقع الأمّة التي نزل عليها هذا القرآنُ فيرجع بصرُك خاسئًا وهو حسير؛ على هذا البون الكبير بين واقع هذه الأمة، وبين ما يُرْشِدُ إليه كتابها، وتتساءل كما تساءل من قبلك: بأيمانهم نوران: ذِكر، وسنةٌ، فما بالهم في حالكِ الظلماتِ
والجواب عن هذا السؤال الكبير يوجب علينا البحثَ عن الحلقة المفقودة في تعاملنا مع كتاب الله، وما الفرق بين تلقّي صدر هذه الأمة لكتاب الله وبين تلقي مَن بعدهم لهذا الكتاب، وواسطة عقد هذا الجواب تُظهِر حقيقةً كبرى في الفرق بيننا وبينهم!
إن المؤمن ليتساءل وهو يقرأ تلك المشاهد التي تأخذ بالقلب، وربُّنا يصف فيها حالَ الأنبياءِ والأولياء عند سماع كلامه، كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا . وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. وكقوله تعالى في الثناء العاطر على صفوة الخلق حين يسمعون آيات الله التي تنزلت عليهم في كتبهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وكقوله تعالى عن أولئك القسسيسين بعد سماع آيات الله: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]، إن المؤمن ليتساءل: ما سرُّ ذوقهم لكتاب الله؟ وما الأمور التي جعلتهم يتلذذون هذه اللذة التي ترجمتها الدموع؟
إنها مشاهد عظيمة ـ يا عباد الله ـ ليس غرضُ القرآنِ منها أن يخبرنا مجردَ إخبارٍ عن بكائهم وتأثّرهم بها، بل المقصود أن ننتقل إلى السؤال التالي: كيف نبلغ هذه الحال؟ وكيف ننتقل بقلوبنا من حال الغفلة إلى حال الحضور؟ ومِن شؤمِ قسوةِ القلوب إلى نعيم لينها؟ ومن ضعف التأثر إلى قوّة التأثير؟ وإن هذه الأمة التي تُقبِل على كتاب الله تعالى في رمضان، عليها أن تفكّر جليًا: أين أثره العملي في حياتها؟ أيعقلُ أن كتابًا يقول الله فيه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر: 21]، ويقول فيه: {ولَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] أيعقل أن يُقْرأ كثيرًا ثم لا يكون له ذاك التأثير الذي ينبغي لمثله؟! أين الخلل؟ وكيف تأثَّر به السلفُ أعظم منّا؟ وما السرّ الذي جعل أسلافَنا يعيشون مع القرآن عيشًا آخر؟
إن مقامًا كهذا لا يسمح بأكثر من التنبيه على بعض الإجابات المختصرة؛ لعلها تذكّر ناسيًا وتنبّه غافلًا، فمن ذلك:
أولًا: حفاوتُهم وفرحُهم بالقرآن عند قراءته: وهذا ما يفقده الكثيرون، إن أحدَنا ربما أمسك المصحف وفتحه وكأنه يقرأ في أي كتابٍ من الكتب النافعة، من غير أن يتملّكه شعورٌ بالغبطة والفرح بتلاوة كلام الله، وإحضارٍ للقلب عند تلاوته، والتأثرِ بوعظه، يقول مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ: "إن الصدّيقين إذا قُرئ عليهم القرآنُ طرِبت قلوبهم للآخرة، ثم يبدأ في التلاوة ويقول: اسمعوا إلى قول الصادق مِن فوق عرشه"
فإذا أردتً التاثّر بالقرآن ـ يا عبد الله ـ فلتملأ قلبَك الفرحةُ بالقرآن واستشعر عظيمَ منّة الله عليك إذْ أمكنك من تلاوة أعظم كلام في الوجود! وأن الله اختارك من بين مليارات البشر لتقرأ كلامه! إنها نعمةٌ لا يعرف قدرها إلا من وُفّق، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح البخاري: 5026]، ومن عظيم فقه البخاري أنه بوّب على هذا الحديث بقوله: (بَاب اِغْتِبَاط صَاحِب الْقُرْآن)، فهل أنت تشعر بالغبطة والفرحة عند فتح المصحف؟
ثانيًا: من أهمّ أسباب تأثّر السلف بالقرآن أنهم كانوا مستعدين للعمل قبل القراءة، ففتحوا صفحات قلوبهم قبل أن يفتحوا صفحات المصحف، مستشعرين دلالات قول ربهم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، إن مشاهد التسليم المطلق هذه، وتلقّي رسالات هذا القرآن بالتعظيم التام لقائله، والاستعداد للتنفيذ دون تردد أو تباطؤ، هذه المشاهد والأحوال هي من أعظم ما ميّز السلف عمن بعدهم، ومن أراد ذوق عزتهم، فليركب معهم.
ولندرك الفرق بيننا وبينهم فلنعرض هذا المثال الواقعي: كم في القرآن من آية تقرع الأسماع، وتنخلع لها القلوب في التحذير من الربا، وجَعْلِ آكله في خندقِ حرب مع الله ورسوله، وتهديد بالمحق! ومع هذا فالواقع يشهد ألوانًا من التحايل على أكل الربا بأنواعه!
وفي الواقع الاجتماعي؛ كم هي الآيات التي تأمر الزوجين جميعًا بالمعاشرة بالمعروف، ومع هذا لا يبالي رجالٌ ونساءٌ بتطبيقها والعمل بها؟ وقس على هذا الكثير، والله المستعان.
ثالثًا: من أسباب تأثّر سلفنا الصالح بالقرآن: حرصهم على العمل به، وخوفهم من مخالفة أوامره، ومحاسبة أنفسهم في ذلك كله؛ لأنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: « » [صحيح مسلم: 223]، فخافوا أن يكون شاهدًا عليهم، إذْ علموا وقرأوا فلم يعملوا، يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "رحم الله امرءًا عرض نفسه وعملَه على كتاب الله، فإن وافق كتابَ الله حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف أعتبَ نفسه وحاسبها، ورجع من قريب"، ويقول رحمه الله: "والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله! ما يُرى له القرآن في خُلق ولا عمل".
وقد ذكر ابن ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيانه لأنواع هجر القرآن: "هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به". بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
الخطبة الثانية
الحمد لله...، أما بعد:
رابعًا: من أسباب تأثر السلف بالقرآن: اهتمامهم بتدبره، عملًا بوصية الله عز وجل حيث يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] وفي قراءة: {لِتَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، فهم يتدبرونه لعلمهم بأن ذلك من مقاصد نزول القرآن الثلاثة، ويتدبرونه خوفًا من الوقوع في حال المنافقين الذين قال الله عنهم: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، قال أهل العلم: "وهذا دليل على أن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود"، ويقول بعض السلف: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين".
إن الحرص على كثرة القراءة طيب، وأطيب منه أن يصحب ذلك تدبرٌ وتأمل، ووالله لأن يخرج الإنسان من رمضان بختمة واحد متدبرًا متأملًا، طالبًا منه الهدى؛ خير من ختمات همُّ صاحبها مجرد القراءة فحسب.
وختامًا: فإن عرض مثل هذه الأخبار ليس الغرض منه التيئيس، كلا، بل الغرض شحذ الهمم، ومعرفة مقادير أنفسنا، وأننا بحاجة إلى إصلاحها، وألا يغتر أحدُنا بقليل إذا قارن نفسه بكثرة الغافلين، وفي الناس بقية من خير ـ ولله الحمد ـ
وأن ندرك تلك الحقيقة: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، قولًا وعملًا ومنهجًا، وإن رمضان كما هو فرصة للتوبة من الذنوب بمعناها المعروف، فهو فرصة للأوبة الصادقة إلى كتاب الله، أوبةٍ تجلو أنوارها ما علق بالقلوب من قسوة وشقاء.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم ارزقنا تلاوته.
عمر بن عبد الله المقبل
الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.
- التصنيف:
- المصدر: