خواطر حول آيات من كتاب الله تعالى - [06] خاطرة حول قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]
إنَّ هذا الوجود الذي تَهواه معنًى، وتتعلَّق به، وتتألَّم لشقائه واضطرابه، وتحسُّ بعجزك عن إصلاحه، هذا الوجود كله ملك لقادِرٍ رحيم.
وفيها الكشف عن محور السورة، وارتباط اﻵيات به.
تأمَّلتُ سورة تبارك، فرأيتُ أنَّ محور هذه السورة يدور حول صِفتين من صِفات الله العليا، هما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، فهو سبحانه بيَده الملك، وغيره لا يَملك شيئًا، وهو القادر على كلِّ شيء، وغيره عاجِز عن كلِّ شيء.
ومَن يدقِّق في آيات هذه السورة المباركة، يجد ذلك واضحًا، ومن الأمثلة على ذلك:
• أنَّ الذي بيده الملك، هو القادر على الخَلق والتدبير، والإحياء والإماتة، والعطاءِ والمنع، والمحاسبة، والإثابة والعقاب، قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ . الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ . وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 2 - 5].
وإذا كان الله هو الذي بيَده الملك، فنحن نَأكل من رِزقه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
وهو قادر على أن يخسف الأرض، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
وهكذا في بقيَّة الآيات، فكلُّ آية أو آيات تجدها مرتبطة بصِفة المالك، أو القادر، فدقِّق ذلك تجده واضحًا.
1- نعم، إن الله سبحانه له الملك، والسموات والأرض ملكه، ونحن عَبيده، وهو سبحانه مطَّلع على تفاصيل حياتنا ظاهرًا وباطنًا؛ فهو يَعلم نَظرات الأعين، وخفايا الصدور؛ قال تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
2- وسمعه وَسِع الأصوات، بشتَّى العبارات، وتعدُّد القائلين واللُّغات؛ قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: "الحمد لله الذي وَسِع سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم تكلِّمه، وأنا في ناحية البيت ما أسمَع ما تقول، فأنزَل الله عزَّ وجل: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}؛ إلى آخر الآية [المجادلة: 1]
3- وهو مطَّلِع على خَطرات القلوب، وسرائر الضَّمائر؛ قال تعالى: { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
فالله سبحانه هنا يخبِرنا كيف أَصبح فؤاد أمِّ موسى حين ذهَب ولدها فارغًا.
4- وهو سبحانه يَعلم السرَّ وأَخفى، قال تعالى:{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى . وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 6 - 8].
والإله الذي يتَّصف بهذه الصِّفات العليا لا يُتَّهم بالغفلة والنسيان.
• وإذا كان الله سبحانه هو المالِك، فهو المتصرِّف المطلق في كونه، وأفعاله كلها هي عين الحكمة، وعين العدل.
5- وما أدراك أيها الإنسان، أنَّ المصائب والآلام التي تَنزل بك وسيلة تقرِّبك من الرحمن؟ قال الإمام ابن الجوزي: "تأمَّلتُ فإذا الله سبحانه يَغار على قلب المؤمن أن يَجعل له شيئًا يَأنس به، فهو يكدِّر عليه الدنيا وأهلها؛ ليكون أُنسه بالله وحده".
ولكن لماذا يَغار على قلب المؤمن؟
الجواب ما قاله الشيخ ابن تيمية رحمه الله: "والقلب إنما خُلِق لأجل حبِّ الله تعالى".
لا من أجل حبِّ الدنيا.
6- ورحم الله الأستاذ بديع الزمان عندما عبَّر عن هذه الحقيقة أجمل تَعبير، فقال:
"إنَّ الملك كلَّه له دون استثناء، وأنت أيضًا ملكه، كما أنَّك عبده ومملوكه، وأنت عامل في ملكه؛ فهذه الكلمة تَفوح أملًا، وتقطر بُشرى شافية، وتقول:
أيها الإنسان!
لا تحسب أنَّك مالك نفسك، كلَّا؛ لأنك لا تَقدر أن تُدير أمورَ نفسك، وذلك حمل ثقيل، وعِبءٌ كبير.
ولا يمكنك أن تحافِظ عليها، فتنجيها من البلايا والرَّزايا، وتوفِّر لها لوازم حياتك.
فلا تجرِّع نفسك إذًا الآلام سدًى، فتلقي بها في أحضان القلَق والاضطراب دون جدوى؛ فالملك ليس لك، وإنَّما لغيرك؛ وذلك المالك قادِر، وهو رَحيم، فاستنِد إلى قدرته، ولا تتَّهِم رحمته.
• دَعْ ما كَدِر.. وخذ ما صَفا.
انبذ الصِّعاب والأوصاب، وتنفَّس الصعداء، وحز على الهناء والسَّعادة.. وقل:
• إنَّ هذا الوجود الذي تَهواه معنًى، وتتعلَّق به، وتتألَّم لشقائه واضطرابه، وتحسُّ بعجزك عن إصلاحه، هذا الوجود كله ملك لقادِرٍ رحيم.
فسلِّم الملكَ لمولاه، وتخلَّ عنه فهو يتولَّاه، واسعَد بمسرَّاته وهنائه دون أن تكدِّرك معاناته.
فالمولى حَكيم ورَحيم، يتصرَّف في ملكه كيف يشاء وفق حِكمته ورحمته.
وإذا ما أخذك الروع والدَّهشة، فأطِلَّ من النوافذ ولا تقتحمها".
وإذا كان الأمر كذلك، فما عليك سوى الأخذ بالأسباب، ثم تنتظر النتائج، وقل كما قال الشاعر إبراهيم حقي:
لنرَ المولى ماذا يَفعلُ *** ما يَفعله فهو الأجمل
- التصنيف:
- المصدر: