مفاتيح القلوب

منذ 2016-07-28

فما وجدت طريق أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك، وإياك وسوء الظن بهم، وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي: إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم

هي سهام صيد لكنها لصيد قلوب من حولك، وفضائل تعطف بها الشاردين إليك، وهي جنة تستر بها عيوبك وتستقيل بها عثرتك، وهي صفات لها أثر سريع وفعّال، ومصائد قل أن وضعت في مكان إلا وامتلأت، أو وجهت في مهمة إلا أفلحت وأنجحت.. إذا أردت أن تجتمع عليك القلوب وتتعلق بك الأفئدة فما عليك إلا أن تحسن التسديد والعاقبة مضمونة. فاستعن بالله.

أولاً: الابتسامة
هي أسرع سهم تملك به القلوب، وهي مع ذلك عبادة وصدقة، فـ «تبسمك في وجه أخيك صدقة» (صحيح الترمذي [1956]) كما في الترمذي، وقال عبد الله ابن الحارث: "ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ثانياً: البدء بالسلام
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء، وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي: "خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه"، وقال الحسن البصري: "المصافحة تزيد في المودة".

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (صحيح مسلم [2626]). وفي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» (الموطأ [3368]، قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه حسان كلها).

ثالثاً: الهدية
ولها تأثير عجيب باللب والسمع والبصر والقلب، ولذا قال المعصوم: «تهادوا تحابوا» (صحيح الجامع [3004]، حكمه :حسن) .وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري: "خرّجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكّر هل بقي أحد أغفلناه؟ قلت: لا. قال: بلى! رجل لقيني فسلم علي سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير" انتهى كلامه.
فانظروا كيف أثّر فيه السلام الجميل، فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك؟

رابعاً: طول الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
فإن الصمت هيبة ووقار، والكلام وقت الحاجة دون غيرها علامة كمال العقل، وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة؛ فـ «الكلمة الطيبة صدقة» كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلاً عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة_ رضي الله عنها_ قالت لليهود لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "عليك السام" يعني الموت فقالت: "وعليكم السام واللعنة"، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (صحيح البخاري [6024])، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بحسن الخلق، وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما» (صحيح الجامع [4048]، حكم: حسن).


قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه *** حذر الكلام وإنه لمفوه

خامساً: حسن الاستماع والإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به، بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد".

سادساً: حسن السمت والمظهر
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله جميل يحب الجمال» كما في صحيح مسلم برقم [91]. وعمر ابن الخطاب يقول: "إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح"، وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل: "إني ما رأيت أحداً أنظف ثوباً ولا أشد تعهداً لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً وأشده بياضاً من أحمد بن حنبل".

سابعاً: بذل المعروف وقضاء الحوائج
وهو من أعظم السهام التي تملك بها القلوب، وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

بل تملك به محبة الله عز وجل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس» (السلسلة الصحيح [906])، والله عز وجل يقول: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة من الآية:195].

إِذَا أَنْتَ صَاحَبْتَ الرِّجَالَ فَكُنْ فَتًى *** كَأَنَّكَ مَمْلُوكٌ لِكُلِّ رَفِيقِ
وَكُنْ مِثْلَ طَعْمِ الْمَاءِ عَذْبٌ وَبَارِدٌ *** عَلَى الْكَبِدِ الْحَرَّى لِكُلِّ صِدِّيقِ

عجباً لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه!!، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.

ثامناً: بذل المال
فإن لكل قلب مفتاحا، والمال مفتاح لكثير من القلوب، خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار] كما في البخاري.

صفوان بن أمية كافر، طالت محاربته للنبي وتأخر إسلامه إلى ما بعد فتح مكة، لما غنم النبي غنائم حنين، جعل صفوان ينظر في الغنائم ويطيل النظر إلى وادٍ قد امتلأ نعماً وشاء ورعاء.فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه، ثم قال له: يعجبك هذا يا أبا وهب؟
قال: نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:هو لك وما فيه.
فقال صفوان عندها: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

فكل قلب سهل فتحه لكن المهم أن تصل إلى مفتاحه.

تاسعاً: إحسان الظن بالآخرين
فما وجدت طريق أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك، وإياك وسوء الظن بهم، وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي:

إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم

عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم".

عاشراً: المداراة
وهي فن عجيب، قال عنه ابن بطال: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة".

وقيل: هي لين الكلام، والتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما هو فيه لمصلحة شرعية.

وربما يكون هذا مع الفساق، وأهل الفحش والبذاءة، أولاً: اتقاء لفحشهم، وثانياً: لعل في مداراتهم كسباً لهدايتهم بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة، فإن الفرق بينهما دقيق وأحسن ما قيل فيه قول القرطبي: "والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا".

وقال أحمد الخطابي:

ما دمتَ حيًّا فـدارِ النَّاس كلَّهم *** فإنما أنت في دارِ المدَاراةِ
من يَدرِ دارى ومن لم يَدرِ سوف يرَى ***عما قليلٍ نديمًا للنداماتِ
 

وأخيراً: أعلان المحبة
فإذا أحببت أحداً أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك؛ فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: [ «إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه» كما في صحيح الجامع برقم [281])، وزاد في رواية مرسلة: «فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة» (صحيح الجامع [280])، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].

إعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. وتنتج مجتمعاً ملؤه الحب والإخاء والائتلاف، بعيداً عن الفرقة والتناحر والاختلاف، ولذا أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشرها ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (صحيح مسلم [54]).

 

عبد الله الدويش

المصدر: من محاضرة للدويش (بتصرف)