الانقلاب العسكرى فى تركيا لماذا فشل؟ وكيف سقط؟

منذ 2016-08-03

ذكر العديد من الخبراء والمسئولون السابقون بالمخابرات الأمريكية CIA وغيرها أخطاء عدة للانقلاب التركى معتبرين أنها كانت سبب فشله، وذكروا منها عدم استخدام قوات أكبر للسيطرة على معارضة الجماهير بالشوارع وترهيبها لدفعها للاستسلام وعدم المعارضة، وعدم اعتقال رجب طيب أردوغان أو قتله من البداية... إلى غير ذلك من الأخطاء التى تصورها هؤلاء الخبراء بشأن الانقلاب، وفى واقع الأمر فإن كلام هؤلاء الخبراء يعكس غفلتهم عن استراتيجية جديدة ترسخت بالواقع ولم يدركها بعد هؤلاء الخبراء وهى استراتيجية نجاح رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية فى تركيا فى إفشال الانقلاب وهى استراتيجية جديدة في التصدى للحكم العسكرى، وقبل الخوض فى تفاصيل هذه الاستراتيجية علينا أن نراجع معا ماهية الاستراتيجيات السابقة (القريبة) فى التصدى للحكم العسكرى أو الحكم المستبد المستند للبطش العسكرى أو الأمنى..

هناك استراتيجية الثورة الإيرانية ضد الشاه حيث صمد ملايين المتظاهرين السلميين أمام بطش الدبابات بهم وتحدوا حظر التجول بحشد 10 مليون متظاهر بطهران فى يوم عاشوراء، وأدى هذا الصمود السلمى الى تفكك قوات المشاة والمدرعات وهروب أفرادها من الخدمة بسبب عدم تحملهم نفسيا لاستمرار قتل المتظاهرين السلميين مع استمرار تحدى طوفان البشر (كانت أعدادهم بالملايين) لسيطرة هذه القوات، وتلا هذا اتخاذ قادة القوات الجوية قرارا بعصيان أوامر الشاه للطيران بضرب المظاهرات، وصحب هذا كله قيام خلايا سرية مسلحة بخطف واغتيال العشرات من جنرالات الجيش والسافاك الموالين للشاه مما بث الرعب في معسكر مؤيدى الشاه فى المؤسسات الأمنية ودفع أكثرهم للهرب لخارج إيران مما ساعد فى تفكك الجيش والأجهزة الموالية للشاه ونشوء فراغ ملأه الخومينى وأنصاره وحرسه الثورى.

وهناك استراتيجية الثورات الشعبية ضد الحكم الشيوعى المستبد في أوروبا الشرقية بنهاية ثمانينات القرن العشرين وقامت هذه الاستراتيجية على محاصرة ملايين المتظاهرين لكافة المؤسسات الحكومية حتى أصيبت بالشلل وفي بعض الدول احتلوا عدد من المؤسسات وفي رومانيا صمدوا ضد القتل الحكومى حتى قام أحد أجنحة الحكم بانقلاب قصر، وأيا كانت نتائج ثورات أوروبا الشرقية من حيث عودة الثورة المضادة للانتصار على الشعب وعودتها للحكم لكن المحصلة الرئيسة هو نجاح استراتيجية الحصار السلمى للمؤسسات وشلها وإجبار الحكم الشيوعى على التنحى.

وبعد ثورات أوروبا الشرقية الشعبية السلمية  التى أطاحت بالشيوعية جاء الانقلاب على جورباتشوف في الاتحاد السوفيتى السابق وفشله ليبرز دور المقاومة الجماهيرية المدعومة بالإعلام فى إرباك هذا الانقلاب ودفع قادته الى التراجع عن انقلابهم رغم أنهم كانوا يسيطرون على كل مؤسسات الدولة خاصة الأمنية منها.

وأخيرا يأتى فشل الانقلاب ضد رجب طيب أردوغان فى تركيا ليظهر استراتيجية جديدة استخدمها أردوغان ضد الانقلاب العسكرى الذى كان قد سيطر على قيادة أركان القوات المسلحة مايعنى السيطرة على القوات المسلحة كلها بجانب السيطرة على كثير من الأماكن الحيوية بالدولة، هذه الاستراتيجية تمثلت فى توظيف الاعلام الجديد "سوشيال ميديا" بجانب الاعلام التقليدى لحشد الجماهير وتحريك الجماهير بشكل منظم وبمرافقة الشرطة وقواتها الخاصة وعناصر المخابرات لتحرير المواقع الحيوية بالدولة وأجهزة الدولة من قوات الانقلاب واعتقال الانقلابيين بشكل منتظم ومطرد حتى أنهوا الانقلاب، وهنا لدينا المتغيرات الجديدة واضحة وأبرزها كالتالى:

-جماهير مقاومة ليس بحشودها فقط بل بأيديها أيضا.

-عناصر شرطة ومخابرات مسلحة تسليحا خفيفا تواجه قوات انقلاب مسلحة بالدبابات والطائرات.

-إعلام جديد يتضافر مع اعلام تقليدى محدود ليواجه سيطرة الانقلاب على الاعلام التقليدى الكبير.

-خلطة التعاون بين عناصر الشرطة والشعب فالشعب يسانده سلاح الشرطة والمخابرات الخفيف، والحشود الجماهيرية تعوض فارق القدرة بين هذا التسليح الخفيف والتسليح الثقيل لقوات الانقلاب.

-الخطاب الإعلامى لحزب العدالة والتنمية (أردوغان وعبد الله جول وأحمد داوود أوغلو وغيرهم) الذى لم يكن لتهييج الجماهير وفقط ولكنه كان يحدد للجماهير أجندة عمل واضحة وعلى سبيل المثال لا الحصر وجدنا أردوغان يطلب من الجماهير تحرير مطار استنابول لينزل فيه وفعلا اقتحموه واعتقلوا قوات الانقلاب التى كانت تسيطر عليه ونزل أدروغان فيه وبدأ منه تحركاته على أرض اسطنبول.

و هنا لاحظنا أن الجماهير الموجهة لم يكن يوقفها شئ عن احتلال اهدافها لذلك تمكنوا من ازالة قوى الانقلاب من المواقع الحيوية على الارض، وقد أمر أحد قادة الانقلاب قوات الانقلاب فى موقع حيوى بسحق الجماهير فرد عليه قائد القوات حتى لو فتحنا عليهم النار فسوف يموت ثلاثة او خمسة ولكنهم فى النهاية سينجحوا باقتحام المكان" (وذلك وفقا لرسائل الواتس المضبوطة والمنشورة).. وغنى عن الذكر أن أى استخدام لقنابل أسلحة ثقيلة من قبل الانقلاب  كان سيؤدى لقتل عشرات الالاف وأى عقل يقول أن هذا سيجدى بالنهاية؟؟

إذ ربما بعد جرم كهذا تستمر المقاومة ويسقط الانقلاب فيترتب عليه عواقب أكثر سوءا على الانقلابيين اذ كانوا سيعدمون بالشوارع بلا اعتقال ولا محاكمة وهذا ربما تثبته رسالة الواتس التى يقول أحد قادة الانقلاب فيها لأتباعه "حافظوا على حياتكم يا قادة".

وهذا كله يؤشر لمتغير استراتيجى جديد لم تستوعبه بعد مراكز أبحاث الغرب وخبراء الـ CIA وهو متغير الجماهير المقاومة بشكل ديناميكى فى خلطة من الزخم الشعبى مضاف لها تسليح الشرطة والمخابرات وفروعهما وكلهم تحت عباءة شرعية رئيس جمهورية وحزب حاكم هاربين من الانقلاب ويتحركون بالشارع وعبر الاعلام الجديد ويقودون أطرهم الحزبية، هذا المتغير واضح بعناصره الأربعة:

-جماهير تمثل قاعدة شعبية واسعة لدرجة ما.

-شرعية رئيس وحزب حاكم وأحزاب معارضة بالبرلمان المنتخب شعبيا.

-سلاح يحتمى بالجماهير وتحتمى به الجماهير تمثل بالشرطة والمخابرات وأجزاء من الجيش الموالى للرئيس الشرعى.

-أدوات الإعلام الجديد.

وهذا جاء فى مواجهة انقلاب قوى وكبير يمثل أغلب مراكز الجيش الحيوية والمسيطرة بما فى ذلك قيادة القوات الجوية بجانب بقية الفروع برى وبحرى وقوات كوماندز.

وهكذا أثبتت هذه الاستراتيجية الجديدة نجاحها فى ضرب الاستراتيجة التقليدية للانقلابات العسكرية التى ابتدعتها الـ CIA (ونظيرتاها البريطانية والفرنسية) في نهاية أربعينات القرن العشرين، والتى اعتمدت على ترهيب الشعب بالآلة العسكرية وقمع أى معارضة بقبضة من حديد بلا أى لين أو تفاوض أو حوار، و من يقرأ التقارير والارشادات التى قدموها لجمال عبد الناصر وغيره بشأن كيفية ادارة الحكم العسكرى يدرك حجم القسوة والقمع وسفك الدماء الذى يوصى به خبراء الولايات المتحدة وأوروبا الحكام العسكريين التابعين لهم أو لنقل الأصدقاء لهم.

لقد رأينا كيف استخدم الخومينى شريط الكاسيت للتواصل مع الجماهير وتعبئتها ليضرب استراتيجية ترهيب الجماهير التى اتبعتها أجهزة الشاه، واليوم يصبح من الطبيعى استخدام شبكة الإنترنت والسوشيل ميديا لتحقيق نفس الهدف فى تركيا، ولكن كان من الممكن أن تنجح طائرات ودبابات وأسلحة الانقلاب الثقيلة فى فرض واقع جديد على الأرض رغم جرأة الجماهير وعدم خوفها ولكن دينامكية الجماهير وتوجيهها من قيادتها جعلها تدحض واقع الانقلاب من على الأرض وتشيد واقعا جديدا مازال يجرى استكماله فى تركيا حتى كتابة هذه الكلمات. 

 

عبد المنعم منيب

صحفي و كاتب إسلامي مصري