متى يجلس الغرب على مائدة المفاوضات
أسطر هذه الكلمات في الوقت الذي يجري فيه إطلاق نار بأحد المراكز التجارية في مدينة ميونخ الألمانية، في هجوم ينفذه ثلاث مسلحين وعدد القتلى الأولي ستة غير الجرحى، وفق ما أعلنته وكالات الأنباء.
أسطر هذه الكلمات في الوقت الذي يجري فيه إطلاق نار بأحد المراكز التجارية في مدينة ميونخ الألمانية، في هجوم ينفذه ثلاث مسلحين وعدد القتلى الأولي ستة غير الجرحى، وفق ما أعلنته وكالات الأنباء، كما تفصلنا عن هذه الحادثة أيام قلائل من هجوم لاجئ بالسكين والفأس الذي أصاب أربعة من ركاب قطار وأحد المارة في ألمانيا، وقبل أسبوع تحديدا خلف هجوم وقع فجر الجمعة في مدينة نيس الفرنسية، 84 قتيلاً من جنسيات متعددة، علاوة على إصابة المئات، وكان المهاجم المنفذ محمد لهوج بوهلال التونسي الأصل، أقدم على عملية دهس للمصطفين على الكورنيش أثناء الإحتفالات الوطنية الفرنسية.
هذا في الوقت الذي صرح فيه الإعلام الغربي مهللاً أن تنظيم داعش خسر خلال الشهور الخمس عشرة الماضية، نحو 22 % من إجمالي الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقاً، فوفقًا لتحليل صدر مؤخرًا، فقد خسر التنظيم في الفترة بين 1 يناير 2015 حتى 15 ديسمبر من العام نفسه، قرابة 16% من الأراضي التي سيطر عليها سابقاً.
أشارت تقارير إلى أنه خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، خسر داعش مزيدًا من الأراضي، تقدر نسبتها بنحو 8 %.
كما قال مؤخراً جون كيري وزير خارجية أمريكا من العراق: إن تنظيم الدولة خسر أكثر من مائة من قادته، وإنه يعمل على تجنيد الأطفال والزج بهم كانتحاريين في أرض المعارك، وأضاف: داعش يخسر دون شك الأرض، ويخسر قادة، ويخسر مقاتلين، ويخسر الأموال، وليس مستغرباً أن عدداً من قادته باتوا يفقدون الأمل.
كل هذه المعطيات الإخبارية مجتمعة تشير إلى أن النصر الأخير للتحالف الغربي على داعش لم يكن نهاية المطاف ولا الفصل النهائي في المعركة كما أوهمنا الإعلام الغربي عندما طبل وزمر لهذا التقدم الذي صورة بأنه ساحقاً ماحقاً، وأن "عدداً من قادة داعش باتوا يفقدون الأمل" بحسب وصف جون كيري.
كما أن هذه المعطيات تشير إلى أن داعش تلقى الصدمة وغير التكتيك الحربي، وإن كان قد انسحب من بعض الأراضي إلا أنه تمدد في قلب أوروبا، وهذا أخطر وأبشع، لأن نقل المعركة إلى قلب بلاد الخصم أفتك لشعبه وأحرج للقيادة السياسية وأقلق للجماهير التي ربما تمارس ضغوطاً على قيادتها لا يمكن التنصل منها أو تجاهلها، فضلاً عن تخلخل البنية الإقتصادية والإجتماعية.
وبعيدًا عن الضجيج الإعلامي لا يمكن تجاهل قلق الغرب من طبيعة المقاتلين من تنظيم الدولة الذي يختلفون جوهرياً عن الضحايا العربية التقليدية.
فقد قالت صحف أميركية إن الشرطة البلجيكية عثرت على دليل يشير إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية يسعى لإنتاج قنبلة إشعاعية "قذرة"، وعلقت إحداها بأن هذه هي المرة الأولى التي يتأكد فيها سعي التنظيم لهذه القنبلة.
وأوردت مجلة فورين بوليسي وصحيفة واشنطن تايمز أن الشرطة البلجيكية أثناء تفتيشها منزل مشتبه في الإنتماء إلى تنظيم الدولة عقب هجمات باريس العام المنصرم، عثرت على أفلام لمراقبة أحد كبار الباحثين بمركز نووي بلجيكي ينتج نسبة كبيرة مما ينتجه العالم من "النظائر المشعة"، بالإضافة إلى مراقبة أسرته أيضاً، وأشارت إلى أن الشرطة تشتبه في أن أفراد تنظيم الدولة كانوا يرغبون في أخذ الباحث أو أفراد أسرته رهائن من أجل الحصول على مواد نووية.
وقالت واشنطن تايمز: إن احتمال الحصول على مواد نووية بهذه الوسيلة أمر يثير القلق، نظراً إلى أن هناك مئات الآلاف من المباني الخاصة بذلك حول العالم في المواقع الطبية والصناعية التي لا تتمتع بحماية كافية.
كما رأى مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية جون برينان بهجمات باريس وبيروت وإسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء أولى نتائج حملة لتنظيم الدولة الإسلامية. وقال: إن لجنة في التنظيم تخطط وتضع الأهداف، وتدرب وتمول، لكنها تترك للمنفذين اختيار التوقيت والمكان والأسلوب.
بل خلفت المجموعات الجهادية المسلحة بصماتها على المشهد الأمني في أوروبا وأميركا الشمالية وأفريقيا خلال العام 2015 تاركة الأجهزة الأمنية لدول -كفرنسا وبلجيكا- في حالة استنفار أو تعقب اتخذت أحيانًا طابعاً دموياً، وفي حالة بلجيكا تم إنزال وحدات من الجيش إلى الشوارع.
إذن العدو اليوم مختلف، ولا بد لصناع القرار الغربي أن لا يتجاهلوا هذه الحقيقة، فالزمان تغير، والعناد والغطرسة القديمة ربما لا تخلف اليوم إلا مزيداً من الأشلاء والدماء، بل ربما ستكون الفاتورة باهظة بصورة لم يتعود عليها عالم الكبار الغربي.
أنا لست داعشيًا، ولا أفرح بالدماء المسالة في غزة والعراق وسوريا واليمن وبورما وفرنسا وألمانيا وأمريكا، فالدماء دماء، والأبرياء أبرياء مهما اختلفت الديانات والجنسيات.
ولكنه الأفق الغربي الضيق المتغطرس، الذي لا يكف عن آلاف الألوف من الطلعات الجوية التي دكت مدن بأكملها، وتوريد أطنان الأسلحة إلى المناطق الملتهبة، وإنفاق المليارات من الدولارات لإنتاج المزيد من المفقودين والمشردين واللاجئين، ولم تحل المشكلة، بل وتطاير الشرر إليها رغماً عنها.
ويلخص الأستاذ عبد الباري عطوان المشهد بقوله: أولويات تتغير في غضون أشهر من النقيض إلى النقيض، وحكومات "تتوب" وتغير مواقفها فجأة عندما ينقلب سحرها عليها، ويبدأ الإرهاب يضرب في عمق مدنها، ويحصد أرواح مواطنيها، ويدمر اقتصادها وأعمدته، ودول عظمى تغير حلفاءها بين ليلة وضحاها، مثلما تغير تكتيكاتها وإستراتيجياتها، وفي مثل هذه الأجواء والتقلبات، علينا أن نتوقع امتداد هذه الفوضى إرهابا في الغرب ومدنه وعواصمه.
لقد صدعنا الساسة بالحديث عن البراجماتية السياسية، وأن السياسة لا تعرف سوى لغة المصالح، وأن الغرب يتعامل مع الشرق وفق أجندة المكسب والخسارة وأن، وأن.....
فهل من عاقل غربي يحمل قومه على لغةٍ أخرى غير هذه اللغة العقيمة العفنة، وهل من قيادي متعقل يصغي لمشاكل الشرق الأوسط بعين الإنصاف، وهل من قلبٍ غربي يتألم من مناظر الدماء والأشلاء.
لا بد للعالم السياسي أن يتغير، ولا بد من حلول منصفة وعادلة للجميع، ولا بد من تبني أجندة محايدة تتبنى سياسة (التعايش السلمي) حقيقة لا شعارات جوفاء يرددها الساسة أمام الكاميرات.
لا بد للضمير العالمي أن يستيقظ، ولرجال الدين أن يتحركوا يأخذوا على أيدي السفهاء من بني جلدتهم، لابد من تخلي الغرب عن النظرة الإستعلائية تجاه الإسلام والمسلمين، ولابد من تبادل الرحمات كما تتبادل المعلومات الاستخباراتية والأمنية.
لا بد ولا بد .. والحلول كثر.
والخلاصة أنه لابد من سلام عالمي حتى لو اضطر الغرب للجلوس مع داعش على مائدة المفاوضات، وتذكروا جيدًا...أنا لست داعشياً، ولكني قلب عاقل يتألم لما يجري.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: