العقد السياسي بين مقتضى النظر العقلي ومقتضى النظر الشرعي

منذ 2016-11-12

من باب أولى أن الأمة إن لم تقدر على جعل العقد الاجتماعي قائم على مقتضى الشرع فلا أقل أن يجتمعوا على مقتضى العقل فإنه يبقى خير من الإبقاء عليه في مقتضى الشهوة والجبر.


يميز العلامة بن خلدون في (المقدمة) بين مقتضى الملك الطبيعي والسياسي والشرعي، ويقول: المُلك الطبيعي: هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. إن الملكية لا تبنى في الغالب إلا على أساس المصالح الذاتية للحاكم" (وهذا ما تمثله الحكومات الاستبدادية والحكم الجبري) لأن مقتضى الملك هو التغلب والقهر وهما من آثار الغضب والحيوانية.
وإذا كانت هيمنة الغرائز على الإنسان تهوي به درجات عدة في سلّم الحضارة، فإن المجتمع عندما يستسلم لحكم الغرائز، فإنه يهوي في فخ الاستبداد. عندئذ تتحكم غرائز السلطة في ممارسات الحكم على الشأن العام. والاستبداد كظاهرة اجتماعية تجسده سلطة سياسية مهيمنة على مقدرات المجتمع تخلو من الفضائل لا يتحقق لها ذلك بامتلاكها أدوات القمع والقوة فحسب بل بقابلية الأفراد للاستبداد ورضوخهم له على رغم حبهم للحرية وكرهم للقهر.
ولحظة أن تتحرك الشعوب في مسار ثورتها فإن سرعة انعتاقها من ربقة الطغيان تتناسب طردًا مع سرعة انعتاقها من سطوة الغريزة والشهوات.
وأما السياسي: وهو حمل الكافة على مقتضي النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. (وهو ما يمثله ما ينتجه البشر من نظام سياسي من نتاج العقل كالديمقراطية).
فتجربة أثينا في الحكم كأولى التجارب الديموقراطية في الغرب كانت بمثابة انتصار أولي لسلطة العقل على سلطة الغريزة والقهر بإقرار النظام الديموقراطي المباشر، إلا أن الغريزة لم تنحصر بالكلية من هذا النظام السياسي حيث اختزال حق الانتخاب لفئة محدودة بجانب إسقاطه عن النساء والاعتراف بالرق كإحدى الضروريات الاجتماعية الثابتة والذي عبر عنه أرسطو بأنه "مفيد للسيد وللعبد معًا".
ثم عادت الثورة الفرنسية لاستحياء ما وارته العصور الوسطى من ارتكاس وعودة لمقتضى الغريزة والشهوة. لتعيد صيغة العقد السياسي بناء على فلسفة جان جاك روسو وفولتير وإرساء مبادئ الديمقراطية من جديد.

وأما الخلافة: وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
لذلك نجد أن الصيرورة الاجتماعية والتطور الثقافي والتربوي والأخلاقي والفكري في المجتمع هو ما يحدد شكل النظام السياسي لهذا المجتمع وإنه لمن من العبث بمكانٍ أن ندعو أمَّةً مُغرقةً في الشَّهوات إلى أنْ تخرج بنظام سياسي يقوم على مقتضى أو حتى على مقتضى العقل.
الأمر الذي يحدونا للغوص في عمق المجتمعات وابتغاء التغير من جذر الحالة الاجتماعية وليس من المنعكسات والانبعاثات السياسية.
وهذا ما حذر منه الفيلسوف مالك بن نبي إذ اعتبر الانطلاق للإصلاح من السياسة وإهمال إصلاح الانحطاط الحضاري لا يعدو كونه عمل يشبه الشعوذة. لذلك قسم الأطوار التي مرت بها الحضارة الإسلامية إلى ثلاث مراحل:
1- طور الروح حيث تعصب المجتمع للفكرة.
2- طور العقل حيث تعصب المجتمع حول القومية.
3- طور الغريزة حيث يقوم العقد الاجتماعي حول الشهوة.
وهذا ما يمثله النظام السياسي في الإسلام وهو احتواء الشهوات في المتنفس المباح وإجراء المصالحة بين النقل والعقل بناء على تحديد مساحة الفصل بين المعقول الأحكام وبين ما هو تعبدي ولعل هذا ما يحل مشكلة الديمقراطية كمنتج عقلي مع الشورى كقيمة شرعية في استبعادها عن التشريع وتبني آلياتها في تمكين الشعب في اختيار ومحاسبة حكامها.
ثم إنه من باب أولى أن الأمة إن لم تقدر على جعل العقد الاجتماعي قائم على مقتضى الشرع فلا أقل أن يجتمعوا على مقتضى العقل فإنه يبقى خير من الإبقاء عليه في مقتضى الشهوة والجبر. وهذا يدخل في باب تعارض المصالح والموازنة بين المفاسد والمصالح في الاختيارات السياسية.

عباس أبو تيم شريفة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام