المسلمون و التناقضات الدولية المقبلة
إن تعدد الأقطاب في النظام الدولي بما يصحبه من تناقضاتٍ واختلافاتٍ دولية يحمل بين طياته العديد من الفرص والمخاطر
خلال فترة تترواح ما بين سنة وثلاث سنوات سوف يتبلور نظام دولي جديد وسيكون متعدد الأقطاب، وتعدد أقطاب القوى الدولية يعكس في حقيقة الأمر شكلًا من أشكال الاختلاف أو التناقض الدولي، فماذا يفعل المسلمون ازاء هذا الوضع الجديد في السياسة الدولية؟؟
إن تعدد الأقطاب في النظام الدولي بما يصحبه من تناقضات واختلافات دولية يحمل بين طياته العديد من الفرص والمخاطر، ولندع المخاطر جانبًا في هذا المقال ولنركز على الفرص. الفرص تتمثل في إمكانيات تبديد قوى العدو واستنزافها بل تحجيمها باستغلال مساندة قوة قطبٍ آخر متناقض مع العدو، كما تتمثل في الحصول على فوائد من أحد الأقطاب بحجة التحالف معه ضد قطبٍ أخر أو بحجة نبذ التحالف مع عدوه من الأقطاب الأخرى. ورغم أن النظام الدولي متعدد الأقطاب يتيح فرصًا أكبر من النظام ثنائي القطبية إلا أن العديد من القوى الدولية الصاعدة الآن والتي من المنتظر أن تلعب دورًا كبيرًا كأقطابٍ دولية في النظام الدولي الذي نقف على أعتابه استفادت من الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة في بناء قوتها الذاتية الاستراتيجية والاقتصادية والتكنولوجية ومن هذه الدول: الهند والصين والكوريتين وتايوان واليابان ودول الإتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب أفريقيا.
فالهند وكوريا الشمالية استفادتا من علاقاتهما بالإتحاد السوفيتي السابق في بناء قوتهما العسكرية الذاتية القائمة على تصنيع محلي إلى حد كبير لا سيما في مجال الأسلحة الاستراتيجية كالصواريخ متوسطة وبعيدة المدى والأسلحة النووية والكيميائية وجانب من قطع الغيار المهمة وأسلحة ثقيلة اخرى، وكذلك فعلت الصين في سنوات نشأتها الأربع الأولى والتي حازت فيها ركيزتها الصناعية العسكرية الرئيسة والأولى في الصواريخ والطائرات والدبابات والأسلحة النووية عبر علاقاتها السوفيتية فصنعت نسخًا صينية بحتة من الطائرات والدبابات والصواريخ السوفيتية في هذا الوقت، هذا بجانب استفادتهم جميعًا في مجال دعم قواهم الاقتصادية والتكنولوجية بعامة.
كوريا الجنوبية وتايوان واليابان ودول الإتحاد الأوروبي والبرازيل وجنوب أفريقيا استفادوا جميعًا من علاقاتهم بشكل أو بأخر بالولايات المتحدة الأمريكية القطب المناوئ والمنافس للإتحاد السوفيتي السابق فانتفعوا في تطوير اقتصادياتهم وتصنيعهم وتعليمهم وتسليحهم مما أهلهم الآن للعب دور محوري في نظام دولي جديد متعدد الاقطاب.الهند التي كانت حليفة للاتحاد السوفيتي السابق سرعان ما استوعبت حقيقة انهياره فنقلت صداقتها إلى السيد الأوحد (الولايات المتحدة) لتواصل تطوير اقتصادها وتصنيعها وتسليحها كما استفادت من مرحلة الإنهيار السوفيتي بأن اشترت منه سلاحًا وتكنولوجيا متقدمةٍ جدًا بأثمانٍ زهيدة.
الصين عندما قاطعها الإتحاد السوفيتي في منتصف الخمسينات تقريبًا ظلت محاصرة نسبيًا من القوتين العظميين الى أن نجحت في إقامة علاقاتٍ مع الولايات المتحدة مطلع السبعينات لتستفيد اقتصاديًا وسياسيًا وبدرجةٍ كبيرة تكنولوجيا. هكذا تستفيد الدول والقوى من السياسة الدولة وتعدد الأقطاب فيها.
أما في عالمنا العربي والإسلامي فلا تكاد تجد نموذجًا يشبه هذه النماذج التي بنت مستقبلها بتخطيط وتنفيذ استراتيجي دقيق، ففي حالة مصر التي بدأت عهدًا جديدًا بانقلاب 23 يوليو 1952 م بفارق ثلاث سنوات فقط عن نشأة دولة الصين الشعبية التي نشأت بالثورة الشيوعية عام 1949م وفي طور نشأة دولة الهند (استقلت عن التاج البريطاني عام1947م وأعلنت الجمهورية 1950م) مع ذلك فالمقارن لحال الهند والصين اليوم من جهة وحال مصر من جهة أخرى لا يجد وجهًا للمقارنة لا اقتصاديًا ولا تكنولوجيا ولا استراتيجيًا.
و هكذا استفادت العديد من القوى الدولية بالثنائية القطبية سابقًا مما يشير إلى استفادة قوى دولية عديدة في المستقبل القريب بالتعددية القطبية المنتظرة في النظام الدولي الجديد، لكن ذلك يشير أيضا لعدم استفادة القوى العربية والاسلامية بهذه التعددية القطبية المنتظرة بالضبط كما لم يستفيدوا بالثنائية القطبية السابقة.
أما الحركة الإسلامية بكافة أطيافها الفكرية فهي لا تكاد تلقي بالًا لهذه الأمور رغم اهميتها.
و لعل من المفيد هنا أن نشير في عجالة ليس فقط إلى استفادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التناقضات الدولية بل وسعيه إلى خلق هذه التناقضات كي يستفيد منها:
فمن أمثلة استفادته بالتناقضات الدولية القائمة اقامته صلى الله عليه وآله وسلم للتحالفات مع القبائل المحيطة بقريش من عدة جوانب مما سهل له عملية حصار قريش اقتصاديًا مما أدى بعد عدة سنوات لعقد هدنة صلح الحديبية مع قريش بعدما عضتها الحرب والحصار الاقتصادي النبوي.
أما من أمثلة خلقه للتناقضات الدولية كي يستفيد منها في عمله السياسي والاستراتيجي فهو ما فعله أيام غزوة الأحزاب من تسريبه معلوماتٍ حددها بدقة زرعت بذور التناقض والشقاق بين يهود خيبر وقريش مما فصم عرى التحالف بينهما، ذلك التحالف الذي كان قادرًا بأن يهدد دولة المدينة استراتيجيًا لو أنه استمر قائمًا.
كذلك فإن من أمثلة سعي النبي صلى الله عليه وآله و سلم لخلق التناقضات الدولية بين أعدائه ما حاوله من بذل جزء من ثمار المدينة لثقيف مقابل تخليهم عن تحالفهم مع قريش وتركها والرجوع عن غزو المدينة أيام غزوة الخندق.
ولعل الإشارة الأقوى في هذا المجال تأتي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما أملى نص وثيقة صلح الحديبية نص فيها على بندٍ غايةً في الأهمية فيما يتعلق بموضوعنا وهذا البند هو الذي يقول أن من أراد أن يدخل في حلف مع قريش فليدخل ويصير بذلك ملتزمًا بموقف قريش في الاتفاقية ومن أراد أن يدخل في حلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليدخل و يصير بذلك ملتزما بموقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الاتفاقية، ليعزز بهذا النص حالة الاستقطاب بين القبائل ما بين محالف للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و ما بين محالف لقريش تمهيدا لساعة الحسم التى حانت فيما بعد يوم فتح مكة عندما سار النبي صلى الله عليه و آله و سلم اليها بعشرة آلاف مقاتل كثير منهم كانوا من القبائل التي دخلت في جانب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أسلمت و اطاعته.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري