لحظة صدق!

منذ 2016-12-06

ربّما كانت الشدائد سببا يعيد للإنسان العنيد شيئا من سليم الفطرة، حين يشعر بضعفه الذي هو مخلوق به أصلا؛ عندما لا يملك لنفسه النجاة ويشعر بهيمنة الله الذي يملك ما لا يملكه..

"ما زلنا  لم نعرف بعد من أين تأتي غريزة الحقيقة" ! ـ نيتشه.

إذا كانت حياة الفرد على هذا الكوكب ليست سوى نتاج عشوائية غير حكيمة قذفَت به في دورة منتهية وجوباً ، ليسود بعدها سكون العدَم الدائم، وتنمحي مع آثارها الذكريات السعيدة والتعيسة على السواء .. 
إذا كنا حتما سنموت.. سنموت ثمّ لا شيء! ..

فـ"من كان ذلك الحكيم الذي حاول أن يعلّم تلاميذه أن ينفّذوا عن طواعية ما يأمر به القانون، أن يقولوا نعم للضرورة، أن يحوّلوا ما لابد منه إلى إرادة حرة؟! " (1).

في لحظة صدق كهذه.. يتقلّب الملحد في تساؤلاته الحائرة، بين بعثرة روحه التي تمزقت أشلاؤها في حروب الأفكار وبين إحكام الكون من حوله يُرسل إلى أسماع قلبه نداء الإيمان فيصمّها عمدا!

يبحث عن ريّ السعادة في كلّ أماكن السراب، بينما تتجلّى أمامه فيتعامى ويتناسى ويتكبّر!
أما في حال رخائه، فجدير به أن يكون الأضعف على الإطلاق أمام شهوة .. الأدنى على الإطلاق أمام نزوة .. الأطغى على الإطلاق إذا لاحت له فرصة الطغيان!

لا يعرف إلّا عِشقه لأنفاسه، فحياته في خياله صدفة نعَم، لكنّها أجمل صدفة عرفها تاريخُه! ..
إنها هي ما يعطيه قيمته، فهو لا يريد أن يغادر من هنا أبداً، ليبقى مناضلا في سبيل دقّات قلبه بكلّ ما يملك دفاعا و هجوما!

ربّما كان هذا هو ما دفع الفيلسوف البريطاني ماكس مور أن يفضّل حفظ جسده في حاوية من النيتروجين السائل بعد وفاته، على أمَل أن يعود للحياة مرّة أخرى إذا تقدّم العلم واستطاع أن يبثّ فيه الرّوح!

يقول مور "إننا نكره هذه الفكرة في الحقيقة .. إن البقاء في حاوية من النيتروجين السائل مع عدم قدرتنا على التحكم في مصائرنا ليس أمرا جذّابا، ولكنه يمكن أن يروق لنا مقارنة ببدائل أخرى، مثل أن تلتهمنا الديدان أو النيران وهو ما لا يستهوينا على الإطلاق" (2)
إلى هذه الدرجة يحرص على بقائه قيد الحياة!  

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] ؛ نعم سيعود ليعيش حياة جديدة، لكنه لن يعمل فيها، بل سيجازى على ما عمل في حياته الأولى، فما لمغبون في العمل يروم علّوا في الجزاء؟!

وأمّا في حال الشدّة، فجدير به أن يكون أجزع الناس في مصاب وأسخطهم على عيش، ماذا يدفعه للصبر؟! ولأجل ماذا يتحمّل الأذى؟! ..
ـ من أجل العدَم؟! 
ألا سُحقاً للعدَم !
بالنسبة للملحد..

عند الأزمات ـ والأزمات النفسيّة خصوصاـ لا بدّ أن ننحّي الموضوعية جانباً، لأن التفكير بموضوعيّة هنا سيؤدي إلى كوارث.. 
ـ ستصير ترابا ثم لا شيء (مقدمة)
ـ أن تصير تراباً خير لك من العذاب (مقدمة)
"اختصر طريقك و انتحر!" (نتيجة بتفكير موضوعي!)
ولا عجب في هذا، فإنّ مَن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، أو كما يعبر فريدريك نيتشه بقوله: 

“he who has a why can endure any how” 

وهذا الملحد، لماذا يتحمل مشقة البذل والحرمان؟! .. إنّه لا يملك جواب لماذا!
إنّه لا يجد سببا منطقيّاً للتحمّل سوى المجهول إن قال "لا أدري"، أو ما هو أبأس منه إذا عصفت به ريح العدم .. ريح فيها عذاب أليم، فليته ما درى! 

هكذا يجب أن تسقط الموضوعية ضحيّة لأزمات الملحد إذا أراد أن يعيش! سيعيش ذليلا ! .. نعَم، لكن يكفيه أنه لا زال على قيد الحياة..{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]

وأمّا إن أبَت نفسه إلا التمرّد .. فلعلّه يخترع عزماً مكذوبا يصطنع به عزّة مُختلَقة ليواجه بهما مصائبه  .. 
ربّما يتخيّل أنه يتحدّى قوة، من صفاتها أنّها خفيّة و شرّيرة ـ لتكتمل حبكة الوهم ـ ، ثمّ هو ـ بروحه المتبعثرة وأشلاء أفكاره المتناثرة ـ يريد أن ينتصر عليها، فيواجه الأزمات بضحك صارخ ورقص مكلوم ولامبالاة هو فيها أكثر مَن يبالي .. حتى يصرعه الموت!

لا ينبغي أن ننسى أنه بشَر، وأنّ الكيان البشري مهما بلغ من الطغيان لا يمكن أن يتمحّض للشر في مجموعه.. (3) فحتى هذا الجاحد ليس  شريرا خالصا، بل فيه أصل الخير  المصاحب لأصل خلقته، ذلك أنّ الفطرة الصافية لا تزال مغروسة في نفس كلّ إنسان، مهما نُكّست ودُنّست، لابدّ أن تبقى لها بقايا خير وجمال وإن قلّت..

ولربّما تكون "تجربة إلقاء الملحدين في المخاطر والمآزق التي لا يجدون لدفعها سببا ماديّا من أعظم التجارب التي تكشف عن فطرتهم الأولى السليمة الصافية، والتي دخل إليها فيما بعد دخيل الفساد والشذوذ والإجرام، منذ شذّوا وجنحوا عن الحقّ بشهواتهم وأنانيتهم.

إن هذه التجربة لتكشف عن فطرتهم فيعلنون من حيث يشعرون أو لا يشعرون أن الله وراء المادة هو الواحد العليم القادر المريد المتصرّف بكلّ شيء" (4)

ربّما كانت الشدائد سببا يعيد للإنسان العنيد شيئا من سليم الفطرة، حين يشعر بضعفه الذي هو مخلوق به أصلا {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28] عندما لا يملك لنفسه النجاة ويشعر بهيمنة الله الذي يملك ما لا يملكه..

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[يونس:22]

انظر لتلك النفس الخسيسة.. لا تلبث أن تنقض العهد وتنساه {فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:من الآية 23]؛ فيأتي البيان الإلهيّ الحكيم القاهر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:من الآية 23].

إنّ نقض هذه النفس عهدَها مع ربّها، لا يضرّ الله شيئا بل يضرّ هذا العبد الآبق من سيّده، لأنّه سيعود إليه حتما، وعندئذ لا إنكار ولا مفرّ! إنّ هذا العبد الآبق حين ينقض عهده مع الله، يتناسى هذه الحقيقة.. حقيقة أنه عائد إليه شاء أم أبى! {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة:8]؛ يتناسى كلّ العِبَر التي رآها فيمن سبقوه، وكأنّ حياته في هذه الدنيا قطعة من الحلوى لا يريد أن ينغّص حلاوتها وهو يأكلها باستحضار كونها فانية حتما! .. بمعنى أنه يمارس على نفسه نوعا من التدليس والخداع حتى تفنى قطعة الحلوى و يبغته الموت!

هكذا يجب أن تسقط الموضوعيّة ضحيّة لشهوات الملحد إذا أراد أن يعيش! سيخدع نفسه؟ .. نعَم، لكن يكفيه أنه لا زال على قيد الحياة.. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]؛ ورغم خداعه، تأبى الحقيقة إلا أن تتجلّى، تغصّصه بريقه وتقضّ مضجعه حتى يهلَك أو يعود، والحقّ باق لا يَبيد!

في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
لمّا رأيتُ مواردا للقوم ليس لها مصادر
و رأيت قومي نحوها يمضي الأكابر و الأصاغر
لا مَن مضى يأتي إليك ولا من الباقين غابر
أيقنتُ أنّي لا محالة حيث صار القوم صائر! (6)

------------------------------
(1)نيكوس كازانتزاكي ـ في روايته: زوربا اليوناني ص 274
(2)http://www.bbc.com/f...ozen-when-i-die
(3)جاهلية القرن العشرين ـ محمد قطب ص 149
(4)الوجيزة في العقيدة الإسلامية ـ عبد الرحمن حبنّكة الميداني ص 66
(5) قس بن ساعدة، السيرة لابن كثير 1/148

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام