أنور السادات ما له وما عليه
أيًا كانت حسنات أو سيئات رئيس مصر السابق محمد أنور السادات فيظل التاريخ يذكر له أنه الوحيد الذي عاشت مصر في عهده (في أخر سنة من عهده تحديدًا) بلا قانون الطوارئ منذ ثورة يوليو 1952م، كما أدخل نوعًا من التعددية الحزبية المقيدة وأطلق عنان الحرية لصحف المعارضة والصحف المستقلة في أحد مراحل حكمه كما تمتع المعارضون بقدرٍ واسع من حرية التعبير والحركة في أواخر عهده وحتى قرارات 5 سبتمبر 1981م بل إن المعتقلين الذين اعتقلهم ضمن هذه القرارات لم يلقوا أي تعذيبٍ حتى مقتله بعدها بشهر وحينئذ خرج من خرج وتعرض للتعذيب من بقي.
عندما شعر جمال عبد الناصر أن الإتحاد السوفيتي يماطل في إعطائه أسلحةً هجومية من النوع الذي يمكنه من تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في 5 يونيو1967م راوده الأمل في أن يتمكن من الحصول على أسلحةٍ غربية متقدمة بطريقة ما، و حرض عددًا من حكام الدول العربية وعلى رأسهم القذافي للحصول على أسلحةٍ غربيةٍ متقدمة ومن ثم حصل القذافي على الميراج من فرنسا كما حصلت السعودية والعراق على مقاتلات غربية أصبح لها دور فيما بعد في حرب أكتوبر 1973م، لكن الأمر لم يقتصر لدى جمال عبد الناصرعلى مرارات وعقبات السلاح السوفيتي أو الغربي بل إن جمال عبد الناصر عانى من مرارات الحصار الإقتصادي الغربي على مصر وربما يظن البعض أن هذه المرارات قاصرة على الضعف الاقتصادي الذي عانى منه الإتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية والذي انعكس تدهورًا وضعفًا في قدرته على تقديم المساعدات والاستثمارات لمصر، لكن المرارات الأبرز كانت من شعور جمال عبد الناصر من أنه صار مقيدًا وممنوعًا من أن يلعب لعبته السياسية المفضلة.
تلك اللعبة التي اعتاد أن يلعبها منذ أن كان رئيسًا لمجلس قيادة تنظيم الضباط الأحرار حتى من قبل أن ينجح في القيام بثورة يوليو 1952م بل ربما كانت هذه اللعبة المفضلة هي السبب الرئيسي في نجاح هذه الثورة، تلك اللعبة تتمثل في فتحه قنوات اتصال وإقامة علاقات مع كل القوى الدولية واستغلاله لتعدد هذه القوى وخلافاتها من أجل تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية، و كان يضم ضمن تنظيم الضباط الأحرار ضباطًا من مختلف التوجهات السياسية والأيدولوجية لتحقيق هذا الغرض فمن الضباط الإخوان إلى الضباط الشيوعيين إلى الضباط ذوي التوجه الغربي ممن يميلون للتعاون مع إنجلترا أو أمريكا أو حتى الملك فاروق، لكن الحصار الغربي على مصر منذ ستينات القرن العشرين منع جمال عبد الناصر من ممارسة اللعبة الدولية التي يفضلها للفوز على حساب الخلافات بين القوى الدولية المتعددة، فماذا فعل جمال عبد الناصر؟؟
يحكي البعض أن جمال عبد الناصر في إحدى لحظات الغضب من السوفيت قال: "أنا سأجيب لهم اللي يعرف يتعامل مع الغرب"، و هكذا صعد أنور السادات إلى واجهة المشهد السياسي في مصر بعدما وضعه جمال عبد الناصر في صدارة المرشحين لخلافته.
لكن هل كان لأنور لسادات نفس رأي جمال عبدالناصر أم كان له رأيٌ آخر؟؟
الإجابة تأتي واضحة في المشهد التالي: بعد توليه لرئاسة مصر بفترةٍ وجيزةٍ جدًا سأل السادات غبراهيم سعد الدين قائلًا: "كم قوة دولية كبرى في العالم يا إبراهيم؟؟
فرد إبراهيم: ما سيادتك عارف يا ريس.
قال له السادات: لكن أنا أريد أن أسمع الإجابة منك.
قال إبراهيم: اثنتان يا ريس الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
فرد السادات مستنكرًا: خطأ يا إبراهيم، هناك قوٌة دوليةٌ واحدة هي الولايات المتحدة فقط".
وقد يستغرب البعض من هذا التقدير السياسي لسببٍ أو لآخر لكن من يقرأ مذكرات الدكتور مراد راغب الذي ظل سفيرًا لمصر في الاتحاد السوفيتي لفترة طويلة حتى صار من أكبر الخبراء في شؤونه يدرك نفاذ بصيرة أنور السادات السياسية في هذه المسألة لا سيما وأن عددًا من قادة السوفيت كانوا منذ الستينات قلقين على مستقبل الإتحاد السوفيتي بسبب تأخره التكنولوجي والاقتصادي.
وهكذا بدأ أنور السادات حقبة رئاسته لمصر انطلاقًا من هذه القناعة.
عندما تولى أنور السادات الحكم كان أمامه عقبات عديدة لكنه تغلب عليها واحدة تلو الأخرى وكانت مواجهة كل من هذه العقبات تقوده لطريق واحد سنراه بعد قليل.
في البداية كان علي أنور السادات أن يحل مشكلة الأراضي المصرية والعربية المحتلة إن سلماً أو حربًا، وفتح أنور السادات قناة اتصال سرية مع الولايات المتحدة محاولًا حل المشكلة سلمًا لكن محاولاته باءت بالفشل، فلم يجد بُدًا من العزم على خوض الحرب ثم خاضها فعلًا في أكتوبر 1973م.
كان على أنور السادات مواجهة مشكلة الصراع على السلطة بُعيد توليه الحكم مباشرة، و فعلًا حسمه لصالحه بمساعدة العديدين ومنهم الفريق صادق والذي عينه وزيرًا للدفاع بعد حسم الصراع، لكنه لم ينس أن هؤلاء الذين واجهوه هم من اليسار الناصري وقريب منهم اليسار الماركسي، ولم يكد أنور السادات يقضي على خصومه داخل هيكل السلطة نفسه حتى بدأت الحركة اليسارية (بشقيها الناصري والماركسي على حد سواء) تتحرك بفاعلية في الجامعات والتجمعات، وكان على أنور السادات الذي يُعِد البلاد للحرب أن يواجه هذا المد اليساري لكن باسلوبٍ سياسيٍ أكثر منه بوليسي فشجع الحركة الإسلامية التي كان نشاطها يتصاعد هي الأخرى كي يوازن المد اليساري المتصاعد، البعض يبالغ في تصوير هذا الاستغلال و يزعم أن أنور السادات هو الذي أنشأ هذه الجماعات الإسلامية أصلًا لكن المصادر الموثوقة تؤكد أنه حاول أن يستغل الحركتين الصاعدتين باشغالهما ببعضهما البعض لا أكثر ولا أقل.
كان أنور السادات رغم مشاركته في عضوية محكمة الثورة التي قمعت الإخوان المسلمين وأعدمت بعضهم قد ذاق مرارة السجن السياسي، كما كان أنور السادات لصيقًا بالسياسة أكثر منه بالعسكرية فهو لم يمكث في الجيش إلا حتى رتبة رائد وبعدها تمرس في مناصب سياسية وصحفية لنحو عشرين عامًا حتى صار رئيسًا لمصر، وحتى الفترة القصيرة نسبيًا التي قضاها في الجيش كان يمارس خلالها السياسة من خلال عضويته في عدد من التنظيمات السياسية ومنها تنظيم الإخوان المسلمين كما تخللتها فترة هروب من الجيش بل ورفدٍ منه.
كان عزم أنور السادات على التوجه للتحالف مع الكتلة الغربية من أجل تحقيق أهداف مصر السياسية والأقتصادية يقتضي أن يرتب الأوضاع الداخلية سياسيًا واقتصاديا بالشكل الذي يتفهمه المجتمع الغربي ومؤسساته وحكوماته الليبرالية، كما كان الشعب المصري قد مل الحكم البوليسي والقمع والتعذيب وبدأ يتململ ومن ثم عبر الطلبة والعمال عن نبض الشعب في مظاهرات فيراير 1966م ثم في تحركات طلابية أخرى في يناير 1972م انتهت بمصادمات بين الشرطة و الطلبة واعتقل على اثرها عدد كبيرٌ من الطلبة وحينئذ تضامنت نقابات المهندسين والأطباء والصحفيين مع الطلبة المعتقلين، كما طالب العديد من المفكرين اليساريين والليبرالين بالحريات والتعددية السياسية في العديد من المواقف والمناسبات، وكان أنور السادات بحكم تكوينه وخبراته السياسية قادرًا على قيادة الدولة للتحول نحو مزيدٍ من الانفتاح السياسي وحرية التعبير والتعددية السياسية الشكلية أو الديكورية، لا سيما و أن أنور السادات كان مطلعًا على الأزمات التي كانت تعصف بالبلاد منذ نهايات حكم جمال عبد الناصر من أول الأزمة الاقتصادية التي بدأت بوادرها منذ عام 1966م وحتى أزمة المشاركة السياسية التي تبلورت بوضوح، و مرورًا طبعا بأزمة الهزيمة العسكرية في يونيو 1967م فضلًا عن حرب اليمن.
وهكذا بدأ أنور السادات حكمه بإخراج الإخوان المسلمين من السجن وإتاحة الفرصة لهم للتحرك بشكلٍ عملي دون أي اعترافٍ رسمي أو وجودٍ قانوني، و كان ذلك كله في إطار شيءٍ من الترتيبات السياسية مع قيادة الإخوان المسلمين.
لكن كان على أنور السادات أن يضع الأطر القانونية لحكمه ويؤسس لشرعيته الجديدة ومن هنا كان إصداره للدستور الدائم عام 1971م وطرح شعاري سيادة القانون ودولة المؤسسات، لكن ظلت الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية ومن خلفه السلطة التنفيذية من سمات دستور 1971م أُسوة بحال الحقبة الناصرية.
وفي إبريل 1974م أصدر أنور السادات ورقة أكتوبر والتي وإن أقرت التنظيم الواحد فإنها أشارت إلى ضرورة أن تعبر كل قوى تحالف الشعب العامل عن مصالحها المشروعة وآرائها بحيث تتضح الاتجاهات التي تحظى بتأييد الأغلبية والتي يجب أن تتبناها الدولة (و كان وقتها الإتحاد الإشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المسموح له بالوجود والعمل وكان بمثابة الحزب الواحد الحاكم ومنه تاتي الحكومة).
وبعدها بأربعة شهور أصدر أنور السادات ورقة تطوير الإتحاد الإشتراكي ودعا فيها إلى إعادة النظر في شكل التنظيم السياسي وحدد هدفه من التطوير في أن يكون الإتحاد الإشتراكي بوتقة حوارٍ تنصهر فيها الأفكار المتعارضة وتتبلور فيها الإتجاهات.
واستطرد أنور السادات قائلًا في هذه الوثيقة: أن طبيعة الأشياء أن يختلف الناس حول القضايا السياسية والاجتماعية، وأن الإتحاد الإشتراكي الذي يمثل قوى الشعب العامل أولى به أن يأخذ بأسلوب تمثيل الاتجاهات المختلفة في قيادته حتى لا يحس اتجاه له تأييد بين القواعد أنه مبعد تمامًا عن المشاركة في قيادة التنظيم فيفقد شعوره بالإنتماء إليه.
وإذا كانت ورقة أكتوبر قد مهدت للتعددية السياسية التي كان أنور السادات عازمًا عليها فإن ورفة تطوير الإتحاد الإشتراكي كانت بمثابة الشرارة التي أطلقت العنان لعملية التحول نحو التعددية السياسية الشكلية التي شهدتها مصر لأول مرة منذ ثورة يوليو 1952م.
في البداية استغرق البحث والتقصي في لجان خاصة بالإتحاد الإشتراكي نحو السنة لتخرج في النهاية اللجنة بعدة توصيات كان أغلبها يميل لعدم التعددية الحزبية فقد كانت أغلب الأراء تميل إلى عمل منابر للرأي داخل الإتحاد الإشتراكي.
وبعدها بنحو العام أي في مارس عام 1976م قرر أنور السادات إقامة ثلاثة منابر في الإتحاد الإشتراكي العربي لتمثل اليمين والوسط واليسار، فاليمين باسم "تنظيم الأحرار الإشتراكيين" والوسط باسم "تنظيم مصر العربي الإشتراكي" واليسار باسم "التجمع الوطني التقدمي الوحدوي" ودخلت هذه المنابر انتخابات مجلس الشعب في صيف نفس العام، وفي أول اجتماع لمجلس الشعب بعد هذه الإنتخابات "11 نوفمبر 1976م" أعلن أنور السادات تحويل التنظيمات السياسية الثلاثة إلى أحزاب، ثم صدر قانون الأحزاب السياسية في يونيو 1977م.
وكانت الفكرة السائدة وقتها أن أنور السادات سار بهذا التدرج الطويل ليصل بعد سبع سنوات من حكمه لنظامٍ حزبيٍ تعدديٍ يحل محل الإتحاد الإشتراكي العربي بسبب المعارضة الشديدة لذلك الإجراء من قبل قادة الإتحاد الإشتراكي والنقابات العمالية حينذاك.
وعلى كل حال فقد كان تعددًا حزبيًا شكليًا فلم يحدث أبدًا أن وصل حزب معارض لأغلبية الثلثين في مجلس الشعب، وظلت هذه الأغلبية دائمًا من نصيب حزب الرئيس حتى أن السادات لما أنشأ حزبًا جديدًا وتخلى عن عضويته لحزب مصر العربي الإشتراكي في 1978م هرول جميع أعضاء الحزب الحاكم من حزبهم "حزب مصر العربي الإشتراكي" و تركوه وانضموا للحزب الجديد الذي أنشأه الرئيس تحت "اسم الحزب الوطني الديمقراطي" وصارت للحزب الذي نشأ للتو أغلبية الثلثين بمجلس الشعب بقدرة قادر تلك الأغلبية التي كانت من دقائق هي أغلبية حزب مصر العربي الإشتراكي كما تحولت جميع المقرات التي يمتلكها حزب مصر إلى مقرات للحزب الوطني الديمقراطي والتي مازال يمتلكها حتى اليوم.
وهكذا تكون النظام الحزبي التعددي على يد رئيس مصر السابق محمد أنور السادات لكن بشكله المقيد والديكوري، فمنذ البداية كان السادات يميل لتقييد هذه التجربة الحزبية، فتم حل مجلس الشعب الذي أفرزته انتخابات 1976م وقد كانت هذه الانتخابات بها حد كبير من النزاهة فضاق أنور السادات ذرعًا بهذا المجلس و حله في عام 1979م وأجرى انتخابات أخرى لم يسمح فيها بنجاح أحد من المعارضة باستثناء ممتاز نصار الذي أفلت من مقصلة التزوير بأعجوبة.
ومع مرور الوقت بدأ أنور السادات يضيق بالديمقراطية التي أقامها وبدأ يتكلم عن ديمقراطيةٍ لها أنياب، وأصدر العديد من القوانين التي أطلقت عليها المعارضة "ترسانة القوانين سيئة السمعة" ومنها قانون الإشتباه وقانون حماية الجبهة الداخلية وغيرها من القوانين المقيدة للحريات كما ألغى اللائحة الطلابية الصادرة عام 1976م ووضع بدلًا منها لائحة عرفت بلائحة 1979م لتقييد النشاط الطلابي ومنع الطلبة من خوض غمار العمل السياسي.
وأدخل تعديلات على قانون الصحافة ليقيد من حرية الصحافة التي كانت شهدت قدرًا من الإزدهار بدءًا من 1978م، ولم يكتف أنور السادات بذلك بل حل مجلس نقابة المحامين وأصدر قرارًا بتحويل نقابة الصحفيين إلى نادي.
وظل التدهور هو سيد الموقف في العلاقة بين أنور السادات وبين حركات المعارضة السياسية العلمانية من يمين كالوفد ويسار كحزبي العمل والتجمع وكذلك حركات المعارضة الدينية الإسلامية والمسيحية على حدٍ سواء مما أدى لصدور قرارات 5 سبتمبر 1981م والتي بموجبها اعتقل السادات 1500 من قادة كافة أطياف المعارضة المصرية وصادر صحف المعارضة الحزبية بالإضافة لعدد من الصحف المستقلة الناصرية والإسلامية والمسيحية.
وسرعان ما وصلت درجة حرارة الشارع السياسي المصري إلى درجة الغليان مما فجر الأوضاع في حادث المنصة الشهير ذلك الحادث الذي وضع نهايةً لعصر الرئيس أنور السادات.
لكن أيًا كانت حسنات أو سيئات رئيس مصر السابق محمد أنور السادات فيظل التاريخ يذكر له أنه الوحيد الذي عاشت مصر في عهده (في أخر سنة من عهده تحديدًا) بلا قانون الطوارئ منذ ثورة يوليو 1952م، كما أدخل نوعًا من التعددية الحزبية المقيدة وأطلق عنان الحرية لصحف المعارضة والصحف المستقلة في أحد مراحل حكمه كما تمتع المعارضون بقدرٍ واسع من حرية التعبير والحركة في أواخر عهده وحتى قرارات 5 سبتمبر 1981م بل إن المعتقلين الذين اعتقلهم ضمن هذه القرارات لم يلقوا أي تعذيبٍ حتى مقتله بعدها بشهر وحينئذ خرج من خرج وتعرض للتعذيب من بقي.
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: