ثلاثة مشاهد من سجون مبارك
دور السجون الجديدة في التنكيل بالمعتقلين.. نفسية عملاء أمن الدولة.. المناقشات الفكرية بالمعتقلات
ثلاثة مشاهد نريد أن نتنقل بالقارئ بينها في هذه الحلقة:
المشهد الأول: الأجواء الداخلية للسجون الجديدة:
سببت الضغوط المختلفة على أسر المعتقلين وعلى زيارة المعتقلين معاناة وضغوطًا نفسيةً على المعتقلين داخل السجن، ولكن لم تكن هذه هي الأسباب الوحيدة لمعاناة المعتقلين بل كانت هناك أسبابٌ أخرى عديدة سببت معاناةً للمعتقلين في السجون التي صارت كلها تقريبًا سجونًا جديدةً بعد عام 1993م، منها أن ابتعاد هذه السجون عن العمران وعن موطن أسر المعتقلين أشعر الكثيرين من المعتقلين بالوحشة وشئٍ من الضعف، كما كانت هذه السجون ذات طقسٍ سيءٍ جدًا فسجون الواحات (الوادي الجديد) والفيوم ووادي النطرون (1) ووادي النطرون (2) كلها في مناطق صحراوية شديدة الحرارة وضاعف من حرارة السجن سوء التهوية في العنابر والزنازين حيث حرص مصمم كل السجون الجديدة على تضييق كل منافذ التهوية في كل الزنازين، علما أن السجون الجديدة كلها مبنيةٌ على تصميمٍ واحد مع اختلافاتٍ بسيطةٍ جدًا لا تذكر، أما سجون ليمان أبي زعبل وشديد الحراسة بأبي زعبل والمرج ودمنهور فجمعت بين شدة الحرارة بسبب سوء التهوية وشدة الرطوبة بسبب الطبيعة الزراعية للمنطقة الواقع فيها كل سجنٍ من هذه السجون.
والعجيب أن كلها أو أغلبها كان باردًا جدًا شتاءً لا أتذكر الآن لماذا؟؟ هل بسبب الجوع الذي كنا نعانيه؟؟ أم بسبب ندرة وخفة الملابس التي كانت متاحةً لنا حينئذ؟؟ أم كان بسبب قلة ورقة الأغطية والمفروشات التي سمحوا لنا بها؟؟ لا أستطيع أن أحدد ذلك بدقة الآن لكن أستطيع أن أؤكد أن كل هذا قد حدث بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة.
كما كانت كل السجون الجديدة ذات فناءٍ سيءٍ من جهة إمكانية التريض فيه ومن جهة أن أرضها من الخرسانة المسلحة وكنا جميعًا حفاة لسنواتٍ طويلة، كما كان ذلك الفناء ضيقًا ومسقوفًا بشبكةٍ ضيقةٍ نسبيًا من السلك تقلل أحيانا من كمية الشمس المتسربة لهذا الفناء، مما يقلل الاستفادة من هذا الفناء في ممارسة رياضةٍ ما، لكن على العموم لم تكن هذه هي مشاكل هذا الفناء الأساسية وإنما كانت المشكلة الأساسية أننا لم يكن مسموحًا لنا أن نخرج من الزنازين إلى هذا الفناء إلا نادرًا في السنوات الأولى، و كان الخروج لهذا الفناء هو وسيلتنا الوحيدة لرؤية الشمس.
وهكذا كانت مرافق كل السجون الجديدة أشد قسوةً من السجون التي بناها الإنجليز أيام الاحتلال، كما أن السجون القديمة التي بناها الاحتلال الإنجليزي كليمان طره و ليمان أبي زعبل وغيرها قد تم بناء عنابر جديدة بها بنفس المواصفات القاسية التي في السجون الجديدة بل أقسى خلال منتصف الثمانينات من القرن العشرين، و لكن لماذا كانت هذه المباني ذات تكلفةٍ عالية؟؟
طبعا للسبب المعروف للجميع من ارتفاع تكلفة المباني الحكومية للأسباب الإدارية المعروفة من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تم تصميم هذه المباني بمواصفات تتيح قمع المعتقلين بأقل عددٍ من الجنود، فالعنبر الذي به عشرون زنزانة بكل زنزانة ثلاثون معتقل يديره ويسطيرعليه جنديٌ واحد، لأنه مقسم لأقسام أربعة لكل منها عدة أبواب تفصل بين باب الزنزانة وباب العنبر الخارجي والذي يجتاز ذلك كله يظل مسجونًا بين جدران السجن العالية أيضًا لوجود نطاقاتٍ أخرى من الأبواب والأسوار، وكان المعتقلون يعملون مسابقات حول من يتمكن من عد الأبواب التي تفصل المعتقل في زنزانته عن باب السجن الخارجي وكان هذا سؤالًا صعبًا يفشل الكثيرون في الإجابة عليه لكثرة الأبواب.
يضاف لذلك أن المعاناة والعُقد التي أصابت بعض العاملين بهذه السجون لبعدها عن العمران قد انعكست على سلوكهم في معاملة المعتقلين، فأكثرهم تعامل مع المعتقلين بقسوة كأن المعتقلين هم السبب في نقله لهذا المكان، وقليلٌ منهم تعامل مع المعتقلين بشفقة باعتبارهم شركاءه في نفس المحنة.
المشهد الثاني: تعاون بعض المعتقلين مع الأجهزة الأمنية ونفسية المتعاونين:
في مثل هذه الظروف التي ذكرناها في كل المقالات السابقة كانت أراء المعتقلين متعددة إزاء تقييم الموقف الذي نعيشه وكيفية الخروج منه، فقد هناك موقف التيارات الفكرية التي تمثل الحركات الإسلامية الموجودة بالساحة المصرية، وهذه المواقف معروفة وهي ذات طبيعةٍ سياسية ولها حديثٌ أخر ليس هنا مجاله، لكن الذي يعنينا هنا هو ذكر المواقف العملية وما لها من أبعادٍ نفسيةٍ واجتماعية، وذلك لأني لاحظت أن المواقف العملية هذه ترتبط بالطبيعة النفسية والاجتماعية للأشخاص أكثر من إرتباطها بانتمائهم الفكري أو التنظيمي، وكان ذلك على النحو التالي:
افترق الناس أربع فرق إزاء ما حدث من سوء معاملةٍ وتعذيب في السجون واعتقالٍ لأجلٍ غير محدد رغم قرارات القضاء بالإفراج النهائي، وذلك بدءًا من ما عرف باسم أحداث سجن أبي زعبل الصناعي في صيف 1993م وحتى عام 2004م عندما بدأت أحوال السجون تتحسن نسبيًا بشكلٍ تفاوت من سجنٍ لآخر، وحتى الآن.
فالفريق الأول: رأى أن ما يحدث هو محاولة من الشرطة لتعويدنا على نمطٍ محددٍ من المعاملة السيئة بحيث لو تقبلناها فإنهم يكونوا قد نجحوا معنا وتترسخ لديهم هذه الأساليب في المعاملة مع أي معتقلٍ إسلامي دائمًا و أبدًا أما لو رفضنا هذا النمط من المعاملة وقاومناه وعصينا تعليماتهم بهذا الشأن فإن الأمن سيشعر بالفشل معنا وسيتراجع عن التعذيب وعن هذه المعاملة السيئة وما نحوهما، وهذا الفريق يرى أن المعتقلين الإسلاميين يعبرون عن تياراتٍ سياسيةٍ مصريةٍ ناجحةٍ و منتصرة، وبالتالي فهم يتعاملون من هذا المنطلق، و يصفون معظم من يخالفهم في هذا الرأي بأنه منهزمٌ نفسيًا، أو جاهلٌ بالواقع و بالسياسة بل و بالإسلام.
أما الفريق الثاني: فرأيه قريب من رأي الفريق الأول بدرجة ما لكنه يرى أن الضغوط ينبغى أن تكون عبر المحاميين والصحافة ومنظمات حقوق الإنسان ونحو ذلك، وليس عبر المعتقلين أنفسهم لكنهم لم يكونوا يمانعون في ممارسة المعتقلين لشيءٍ من العصيان كما يرى الفريق الأول لكن بأسلوب جس النبض بحيث لو أتت بنتيجةٍ فوريةٍ مناسبة يتم التمادي فيها أما إن وجدوا عواقب سيئة فإنهم يتراجعون عن عملية العصيان هذه.
و رأي فريق ثالث: أنه ينبغي التعامل بحذر مع ما يجري بحيث يتم جمع المعلومات وتحليلها بشأن ما جرى و يجري داخل وخارج السجن لمعرفة أبعاد الهجمة الشرسة التي شنتها الشرطة على المعتقلين في السجون و معرفة ما هي أجدى الطرق لمواجهتها ومن القوى السياسية والإعلامية والحقوقية التي يمكن أن تساند مواقف المعتقلين في هذه المحنة وبعد ذلك يتحدد ما العمل الذي يتوجب على المعتقلين عمله، أما قبل ذلك فإنهم كانوا حذرين بشأن كيفية التعامل مع ما يجري معهم مترددين بين العصيان والاضرابات وبين الصمت، كما إنهم بعدما عرفوا بغياب أي منظومةٍ حقوقيةٍ قويةٍ للدفاع عن المعتقلين كانوا يقولون أنه سيأتي وقتٌ تتغير فيه الأمور وتتغير موازين القوى السياسية ومن ثم تتغير السياسة الأمنية.
وكانت هذه الفرق الثلاث ترى أيضًا أن ما نحن فيه هو ابتلاء من الله، والله تعالى له فيه حكمةٌ لا نعلمها ويجب الصبر على هذا البلاء حتى يزول.
لكن أغلب الفريق الأول كان يقول أنه لرفع الدرجات كما كان يحدث مع الأنبياء والصالحين.
أما الباقون فكانوا يقولون أنه ابتلاءٌ كأي ابتلاء إما لرفع الدرجات وإما لتكفير السيئات وكذلك لاختبار صدق الإيمان لقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء جزء من الآية: 35] وقوله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] ومعلوم أن الفتنة هى الإختبار والتمحيص، و قد قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل». (السلسلة الصحيحة: 1/225)
وبالتالي فجميعهم كانوا يرون وجوب الصبر عن ما يجري حتى يزول، وأن الأمر كله بيد الله وقدرته، ولكن هناك أسباب والله هو مسبب الأسباب وقادرٌ على تغييرها.
و كانت هذه الفرق الثلاث تمثل القسم الأكبر من المعتقلين، كما كانت كلها ترى أن التيارات الفكرية التي يمثلونها هي على الصواب من حيث العقيدة أو حتى المذهب السياسي وإن رأى كثيرون أنه ربما وقعت أخطاء في الأساليب وليس في المنطلق أو أصل وحقيقة الفكرة.
وكان يوجد قسم أخر أقل بكثير شأنًا مما سبق وأقل أيضًا من حيث العدد يرى أن ما يجري هو دليل على أن الحكومة وأجهزتها الأمنية لها قوةٌ مطلقةٌ لا يمكن أن تلين كما أن لها إرادةً مطلقةً لا يمكن لأحدٍ أن يغيرها ومن ثم فيجب التسليم لها والخضوع لأمرها دون أدنى نقاش أو أي نوع من المعارضة كما كانوا يرون أن الأمر والنهي كله في يد الحكومة وأجهزتها الأمنية فبيدهم اعتقال من شاؤوا أو إطلاق سراح من شاؤوا، وهذا القسم هم من تعاملوا مع الأمن فيما أطلق عليه اسم المرشدين، فكانوا عيونا للأمن على بقية زملائهم المعتقلين.
صحيح أن أكثرهم كان يعتقد في قرارة نفسه أن الحكومة على باطل وظلم لكنهم لم يكونوا يجاهرون بذلك أبدًا، كما أنهم جميعًا كانوا مقتنعين بأن أمر مشكلة الاعتقال كله بيد الأمن وأنه لا حل له أبدًا إلا بالإذعان التام لرغبات جهاز الأمن، ومن هنا جاءت عمالتهم للأمن وتجسسهم على زملائهم بل وإيذائهم لزملائهم بالكذب والباطل من أجل التقرب للأمن.
ومما أثار عجبي أننى وجدت أن هؤلاء العملاء قد تشربت عقولهم بأفكار الأمن فهم يفكرون بنفس أسلوب الأمن ويروجون وجهات نظره في كل شيء لدرجة أن كثيرًا منهم كانوا يضعون تقارير للأمن يوضحون فيها سبل إيقاع الإيذاء المعنوي أو المادي بالمعتقلين الإسلاميين لدرجة أن بعضهم وضع مقترحات بإطالة مدة الإعتقال لأن ذلك يؤدي لتفكيك الأفكار حسب رأيهم كما أن بعضهم وضع خططًا لكيفية القضاء على الحركة الإسلامية ضمنها القضاء على الحركات الإسلامية التي تعمل من خلال قانون الجمعيات الأهلية مثل أنصار السنة والجمعية الشرعية.
ومما أثار عجبي أكثر من ذلك إيمانهم الذي لا يتزعزع بأن جميع أوراق اللعبة بيد الأمن وطاعتهم العمياء للأمن رغم مكثهم في السجن لنفس المدد الطويلة التى عشناها.
المشهد الثالث: السجال الفكري في المعتقلات
من الطبيعى أن تكثر النقاشات الفكرية في المعتقلات السياسية لكننا نريد هنا أن نعرض طرفًا منها لنعطي صورةً للقارئ عن أهم القضايا التي دارت حولها النقاشات الفكرية كي تتضح للقراء اهتمامات المعتقلين ومواقفهم الفكرية.
كان من القضايا التى حظيت بقدرٍ كبيرٍ ومتكرر من النقاش قضية الصراع العربي الإسرائيلي والسلام مع إسرائيل والحروب العربية التي جرت معها منذ حرب 1948م ومرورًا بحروب 1956م و1967م و1973م و1982م وانتهاءً بحرب 2006م مع حزب الله، كما جرت مناقشات ودراسات حول تاريخ ومواقف حزب الله نفسه.
وارتبط بذلك النقاش حول سبب عدم امتلاك مصر لرادع استراتيجي سواء إزاء إسرائيل أم أمريكا أو أي قوةٍ دوليةٍ أو إقليمية أخرى، كما جرى النقاش حول سبل أو إمكانية امتلاك مصر لمثل هذا الرادع أو ما يشبهه.
كما جرى النقاش حول ثورة يوليو 1952م وما إذا كانت ثورةً وطنيةً أم صناعةً أمريكية أم حركتها رغبة الحصول على السلطة لا أكثر ولا أقل، كما جرى النقاش كثيرًا حول طبيعة علاقة ثورة يوليو بالإخوان المسلمين.
وجرت نقاشات عديدة وكثيرة وطويلة جدًا حول ما إذا كان حكام العالم الثالث عامة وحكام العالم الإسلامي بخاصة عملاء أم وطنيون لكنهم أغبياء جدًا وعندهم خللٌ ما في طريقة تفكيرهم جعلتهم يوصلون أوطانهم إلى ما وصلت إليه من التدهور والتخلف والخراب؟؟؟
ودافع كثيرون باستماتة عن الرأي القائل بعمالتهم لأمريكا وإسرائيل والغرب، بينما رأى آخرون أن إضرارهم بشعوبهم ليس بسبب عمالة وإنما بسبب غباءٍ و خللٍ في طريقة التفكير، وأرجع آخرون الأمر كله إلى شهوة السلطة و جاذبية كرسي الحكم.
كما جرى النقاش عدة مرات حول مسائل اقتصادية عديدة من قبيل حقوق العمال و لأجر العادل وهل الأجر له معايير معينة أم أنه وليد العرض والطلب
وهل ما نص عليه بعض فقهاء الإسلام من وجوب الأجر العادل هو وليد فقهٍ إسلاميٍ أصيل أم أنه من جراء التأثر بفلاسفة من حضاراتٍ غير إسلامية، وكذلك جرت نقاشات عديدة حول القطاع العام والخصخصة، وهذا كله ارتبط بموضوع الاقتصاد الإسلامي وهل هو اقتصاد سوقٍ حرةٍ مفتوحة لآليات العرض والطلب أم إنه سوق تخطيط مركزي أم أنه مختلط بين هذا وذاك أم أنه متميز عن ذلك كله بخصائصه الإسلامية المتميزة؟؟
ومن القضايا التي ظلت تثير جدلاً واسعًا قضية عمليات القاعدة ابتداءًا من ضرب سفارات أمريكا في كينيا وتنزانيا في 1998م و مرورًا بأحداث 11سبتمبر 2001م وعمليات أخرى عديدة مثل عمليات مدريد ولندن والأردن وغيرها.
ولقد كنت على وشك التعافي في مستشفى سجن ليمان طره عندما جرى ضرب السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا بعد إضرابي عن الطعام بسجن الواحات (الوادى الجديد) لمدة خمسين يومًا متواصلة، و استأت جدًا من هذه العمليات حينئذ، ودخلت في نقاشاتٍ كثيرة مع المعتقلين حول ذلك، وكان أحد قادة الجماعة الإسلامية معي بالمستشفى ولم تنفع مناقشاتي معه بل ظل مُصرًا على تأييد هذه العمليات بشدة وكان فرحًا جدًا بها، بينما نجحت نقاشاتي مع بعض قادة الجهاد في تخفيف تأييدهم لها، وكنت وقتها أود كتابة مقال عبارة عن خطاب مفتوح لأيمن الظواهري أرد فيه على توجهه من واقع كلام سابق له في السبعينات لكن لم يكن مسموحًا لي بالكتابة في السجن بل مقابلتي لأسرتي ولإبني كان عليها قيودٌ كثيرةٌ جدًا في السجن.
و عندما جرى ضرب البرجين في نيويورك في 11سبتمبر 2001م كنت مضربًا عن الطعام في سجن الفيوم منذ 10 أغسطس 2001م، و لما وصلتنا الصحف الحكومية في اليوم التالي و كانت قد سمحوا بها للتو كنت مستلقيًا في إعياء بسبب الإضراب و سمعت الأخوة يقرؤون عناوبن جريدة الأخبار فقلت لهم عارف هذا سيناريو متخيل و ضعوه في صورة مانشيت ليجذبوا القراء لشرائها.
فرد الأخوة: لا، هذه حقائق حدثت فعلًا بالأمس.
فقلت لهم: هاتوا الجرائد.
وأخذت الجريدتين كلتاهما معي و قرأتهما أولًا قبل الأخوة، ثم جلست مستاءً جدًا، و ظهر ذلك في كلامي.
فسألني الأخوة: معقول أخوة الجهاد أو القاعدة هم الذين عملوا ذلك؟
قلت لهم: هذا أكيد.
قالوا لي كيف تؤكد وأنت جالس معنا ومهما كانت خبرتك فأنت الآن مثلنا لا تصلك أخبار ولا تقابل مصادر للأخبار؟؟
قلت لهم: أحيانًا أطمئن لتحليلٍ معين اطمئنانًا يجعله كأنه اليقين.
ثم سقت لهم الدلائل التي جعلتني أتوقع أن القاعدة بمساعدة الجهاد المصري هي التي نفذت هذه العملية.
ثم دخلنا في نقاش حول صحة هذه العملية أو خطأها.
في البداية كان جميع من بالزنزانة -إلا أنا- يؤيدون العملية بشدة بسبب كراهيتهم للإدارة الأمريكية وكانوا فخورين بتوجيه ضربة لأمريكا التي أذلت وتذل المسلمين كل يوم.
لكنني نجحت في نهاية النقاش في استمالة قلة من الحاضرين لوجهة نظري الرافضة للعملية، كما نجحت في كسب تعاطف قلة أخرى مع وجهة نظرى وإن لم يؤيدوها بالكلية.
وظل مؤيدو العملية يطلقون بالليل الأناشيد الإسلامية الحماسية بشكل جماعي ابتهاجًا بالعملية.
والعجيب أن أغلب من أيدوا العملية في هذه الزنزانة كانوا من منتسبي الجماعة الإسلامية أو من منتسبي الجهاد الذين كانوا قد كتبوا إقرارات توبة ولم يكن قد تم عزلهم عن بقية المعتقلين حينئذ.
وجاءني أحد الأخوة بمرجع مهم من مراجع الفقه الإسلامي وطلب مني قراءة باب حدده لي في الكتاب فأغلقت الكتاب وهو بيده قبل أن أقرأ أي شيءٍ منه و قلت له يا أخي كل هذا وغيره قد قرأته من زمن بعيد و أعرفه جيدًا لكن حضرتك تفهمه خطأ لأنه يؤيد رأيي أنا في معارضة العملية ولا يؤيد رأيك أنت في تأييدها.
ومن يومها لم أعول كثيرًا في مناقشاتي على الجوانب الفقهية البحته لطول حبال النقاش فيها وإنما كنت أركز على الجوانب الواقعية والسياسة الشرعية.
ولم يكن كل المعتقلين يؤيدون عمليات القاعدة كما قد يظن البعض، بل كان هناك تباين في الأراء وقد تندر بعض المعتقلين على عملية البرجين بإطلاق نكته تقول "باعوا دولة أفغانستان بعمارتين في نيويورك".
وكنت مستاءً ومتعجبًا من معظم عمليات القاعدة سواء فى المدن الإسلامية أو المدن الأوروبية، و أحد أسباب استيائي عدم شرعية القتل الذي جرى في هذه العمليات، كما كنت أقول للأخوة بشأن العمليات التي تجري في أوروبا:
"يعنى واحد أوروبي ليس له أىيعلاقة بالإسلام من قريب أو من بعيد، و يوماً ما يعرف شيئاً ذا أهمية عن الإسلام يكون هذا الشيء الذي عرفه هو أن الإسلام تسبب في قتل أو بتر أو تشويه أحد أقاربه أو أحد أصدقائه؟؟؟"
وأمام أحد الأخوة ذات مرة كنت أعبر عن إستيائي من عملية تفجير لفندق في الأردن فوجدته متعاطفًا مع العملية وأذهلنى ذلك ليس لفجاجة الأخطاء الشرعية التي وقعت فيها العملية فقط لكن أيضًا لأن هذا الأخ كان حاصلًا على ماجستير من إحدى كليات القمة وكان على وشك الحصول على الدكتوراه إلا أن هذا الاعتقال منعه من ذلك، وصورة أي شخص متميز علميًا عندي هو أن يكون متميز أيضًا في معرفة الحلال والحرام لأن هذا هو التميز الأهم لارتباط مصيرنا في الأخرة بذلك إما جنة أبدية و إما نار أبدية.
كل ذلك أفزعني وجعلني أحتد عليه بأكثر مما في طبيعتي.
قال لي (عن مرتادي الفندق القتلى) : هم قليلو الأدب، و هل يمكث بالفندق حتى الثانية بعد منتصف الليل إلا من بهذه الصفة؟!؟!
قلت له (محتدًا): هو فيه شيء في أحكام القتل اسمه ما هو قليل الأدب؟؟
قال لي: أعني أنهم آكيد كانوا يشربون الخمر أو يزنون و نحو ذلك.
قلت له (بحدة أكثر): وهل يوجد شيء في الشرع يقول القتل بسبب احتمالية شرب الخمر أو احتمالية الزنا؟؟؟
بل الحديث يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: التارك لدينه المفارق للجماعة، و الثيب الزانى، و النفس بالنفس".
وكنت محتدًا جدًا أثناء النقاش، وسكت هو ربما احترامًا لي وإيثارًا لعدم إثارة غضبي أكثر من ذلك، علمًا أنه كان شخصًا حسن الخلق، أما أنا فكانت حدتي سببها أنني مدرك لعظم الأضرار التي تصيب االدعوة الإسلامية وتصيب المسلمين بسبب هذه العمليات.
كما كان يغضبنى بشدة أن الذين ينفذون هذه العمليات يحركهم حماس و عواطف شديدة غيرة على الإسلام والمسلمين ولكنها للأسف عارية من الفقه الشرعى الذى وضع معايير محددة تحفظ حرمة الدماء و الأموال و الممِتلكات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد المنعم منيب
صحفي و كاتب إسلامي مصري
- التصنيف: