مشاهدٌ في وداع حلب
ما يظهر لنا كحجارةٍ مكوّمة، هو في الواقع قصص حياةٍ.. قصصٌٌ حاولوا دفنها، فخرج من بينها زرع.. وسيعود هذا الزّرع بثماره يوماً.
ككثيرٍ من النّاس كنت قد نفرت من صور الدّماء والجثث، وأثرها عليّ لم يعد كالسّابق، الكثير من صور الجثث المنقطة بفتحات الرّصاص في أرجلها أو رؤوسها تذكّرني بتلك التي في غزّة أو مدن سوريّا الأخرى، توقّفتُ عند سلسلةٍ من مقاطع الفيديو بدأ ينشرها أهل حلب بعنوان "الرّسالة الأخيرة".
المشهد الأوّل:
رجلٌ حلبيّ يخبرنا من تحت سقف منزله المتراقص بينما تُغطّي عدسة هاتفه الأمطار ما يريده من هذه الدّنيا قبل أن يرحل: "ادعولنا".. "وين العرب؟!".. "اللّهم عليك بالمجرمين".. "احنا ما عنّا أكل، ما عنّا شي.. راحت بيوتنا".
أمّا المقطع الذّي أصابني كالسّهم كان من أستاذ سوريّ يجلس بين الرّكام، اختار التّحدّث باللّغة الإنجليزية ربّما لتصل رسالته لكلّ العالم "انّو احنا خلص، جاهزين نموت" رفع هاتفه وقال "ما بدّي شي منكم ولا من العالم، غير إنكم تتذكّرونا"، حكى جملته بحرقةٍ ملتهبة، صوته على حافّة النّحيب. لقد فقد الأمل في كلّ شيء ولا يريد منّا سوى أن نتذكر أنّه كان هناك إنسان، باسمه، وشكله، وصوته يمشي يومًا على ذات الأرض التي نمشي عليها. كان له قصص مراهقته ودراسته وقصص الحبّ والأعراس والأبوّة. كل ما يريده منّا أن لا ننسى أنّه كان معنا حيٌ.. إنسان مثلنا..
المشهد الثّاني:
وجاء يوم الرّحيل.. استيقظ سُكّان الرّكام على أصوات محرّكاتٍ جاءت لتخرجهم من تحت التّراب، "الرّحيل" كان خيارهم الأخير بعد أن فقدوا كُلّ احتياجات الحياة. باصات خضراء تصطفّ على طول شارع من يمينه ويساره آلاف الجثث التي كُتِبَ لها أن تُعجن مع حجارة بيتها وتُدفن هناك. ربّما اعتقد العالم أنّ أهل ذلك الحيّ في حلب سيتصارعون للوصول إلى الباصات، سيتسابقون لحجز المقاعد ونقل أمتعتهم.
وقف شابّ حلبيّ وقد لبس الأنظف من لباسه، وقف بينما مشى من خلفه البعض يزحفون صوب الباصات. كان ينظر لما تبقّى من حلب جاهشاً في البكاء، كان يحاول وبسرعة أن يطرّز ذكريات طفولته وحياته في عقله، قبل أن تُمحى تماماً، كيف يترك داره؟ كيف يترك شارع مدرسته؟ كيف يترك منزل أجداده؟ وكيف يترك أجداده تحت أنقاض ذلك المنزل؟ لم يدرس يومًا في مدرسته ولا جامعته، كيف لإنسانٍ أن يفقد كامل ماضيه، ويعيش!
المشهد الثّالث:
زوجان حلبيّان، وقفا أمام ما يشبه بقايا مسكن، سورٌ يحاول الصّمود، كتبوا عليه "راجعين يا هوا".. ليس استسلاماً، لا! وقفوا أمام الصّورة والشّاب يحمل سلاحه الذي أطلق منه أصوات الحريّة، وقف وذراعه حول زوجته التي شدّت من أزره قبل كلّ معركة وخاطت له جرحه. هذان لا يمثّلان الرّحيل، بل يمثّلان خطّة العودة.
المشهد الأخير:
لم نعش النّكبة الفلسطينية نحن كشباب، ولا نعلم إلا من أجدادنا ما هو شعور فقد المسكن والأهل والحيّ. ولكنّنا الآن نعيش نكبةً أسوأ، ربّما لأنّ العدوّ هو ذاته ابن البلد، هو الصّديق الذي شاركك مقاعد الدّراسة، وهو في ذات الآن من كان يحتفل على الطّرف الآخر من حلب بسماع نحيب زوجتك وصرخات ابنتك تُغتَصَب. العدوّ عندما يكون قريباً، يكون قاتلاً.
نكبة جديدة، تلمّ الأمّ ما بقي لها في منزلها، بقايا طعام، أقمشةً باليةً مغبرّة، أدواتٌ مطبخيّة، تحملها جميعًا في كيسٍ أسود. تصل غرفة ابنتها لتجد لعبةً جديدةً لا تزال تنتظر من يفتحها. ترمي الأمّ كلّ شيء وتحمل اللّعبة. تخرج من منزلها، نظرةٌ أخيرةٌ لبيتٍ دخلته يومًا تلبس الأبيض عروسًا، وثمّ تنضمّ لبقايا حلب تمشي معهم صوت الباصات وفي يدها اللّعبة. أين ابنتها؟ ماذا حلّ بها؟ أهذه اللّعبة آخر ما تبقّي منها؟
هذه المشاهد جميعها حقيقيّة عن صور من يوم الرّحيل عن حلب، أمّا تفاصيلها فقد تركت مخيّلتي تسر.. لا أعلم ما حلّ بالأستاذ، ولكنّني حتماً لن أنساه.. ولا أعلم متى سيعود أهل حلب لها، ومتى سيشيدونها من جديد.. ولكن ما أعلمه أنّ ما يظهر لنا كحجارة مكوّمة، هو في الواقع قصص حياة.. قصصٌ حاولوا دفنها، فخرج من بينها زرع.. وسيعود هذا الزّرع بثماره يوماً.
ألاء حمدان
- التصنيف: