سلسلة إمام أهل السنة - [4] أسباب ثباته رحمه الله
إذا لمْ يكنْ عَونٌ من اللهِ لِلفتى *** فأولُ ما يجني عليهِ اجتهادُهُ
أسباب ثباته رحمه الله:
أولها: تثبيت الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74-75].
إذا لمْ يكنْ عَونٌ من اللهِ لِلفتى *** فأولُ ما يجني عليهِ اجتهادُهُ [1]
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فاتِّجهْ إلى الله تعالى، واعتصم بالله، وتوكل على الله، وآمن بالله، وسلم إلى الله، وعلم أنه لا ينجو بنفسه ولا بقوته ولا بحوله، وإنما بالله تعالى ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وأخبر أنها كنز من كنوز الجنة [2].
"لا حول ولا قوة إلا بالله" معناها: فلا تحول للعبد من معصية إلى طاعة، أو من بدعة إلى سنة، أو من ضلالة إلى هدى إلا بالله تعالى.
ولا قوة للإنسان ولا صبر له على طاعة الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصبر على ما يلقاه إلا بعون الله تعالى وتأييده وتسديده.
السبب الثاني: البينة والعلم الذي كان يحمله، فكان على بينة من أمر دينه، تلقى كتاب الله، وكان عالمًا إمامًا في القرآن، وتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: إنه يحفظ ألف ألف [3] من الأحاديث بأسانيدها، وعرف وعلم فلم يكن عنده في ذلك شك ولا تردد ولا ريبة، فعلم أنه على الحق فصبر وصابر!
السبب الثالث: وهو الأمة التي كانت وراء الإمام أحمد، نعم كانت وراءه أمة تؤيده وتساعده وتصبره.
قال أبو جعفر الأنباري: "لما حمل أحمد بن حنبل يراد به المأمون اجتزت، فعبرت الفرات إليه، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه. فقال: يا أبا جعفر! تعنيت -أي: تعبت في سبيل المجيء إلي-. فقلت: ليس هذا عناء. قال: فقلت له: يا هذا! أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل -أي: المأمون- إن لم يقتلك فإنك تموت غير بعيد ولا بد لك من الموت، فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي وهو يقول: ما شاء الله ما شاء الله يا أبا جعفر أعد عليّ ما قلت، قال: فأعدته عليه، فجعل يقول: ما شاء الله ما شاء الله !!" [4].
وأعجب من ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "كنت كثيرًا أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم، فقلت: يا أبه! من أبو الهيثم؟ قال: ألا تعرفه؟! قلت: لا. قال: أبو الهيثم الحداد. اليوم الذي أخرجا فيه للسياط، ومدت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين" [5].
ولما عاد للتدريس كان في مجلسه زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، منهم خمسمائة يكتبون العلم، والباقون يتعلمون من الإمام أحمد الأدب والهدي والسمت، كما ذكر ذلك الذهبي وغيره [6].
ثم مات رحمه الله فصلى عليه خلق كثيرون، حتى قيل: إنهم مليون نسمة [7]، فضلًا عمن صلوا عليه في السفن والبيوت والأسواق، وازدحمت شوارع بغداد وغصت بمن فيها، واجتمع خلق كثير، وقال بعض المؤرخين: إنه لم يجتمع في الإسلام قط كما اجتمع على جنازة الإمام أحمد [8].
شهرته رحمه الله:
ضربت شهرته الآفاق وسارت بذكره الركبان، وصار محمودًا على كل لسان، حتى صار هو يضيق بذلك ويقول: "اشتهرت اشتهرت" [9].
وكان يقول: "طوبى لمن أخمل الله ذكره" [10]. وكان يرى عليه الحزن أحيانًا من كثرة ذكر الناس له.
وقال: "لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر".
وقال: "أريد أن أكون في بعض تلك الشعاب بمكة، حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني لأتمنى الموت صباحاً ومساءً" [11].
بل لعل من الطريف أن الحسين بن الحسن الرازي كان يقول: "حضرت بمصر عند بقال فأحسن إلينا، ثم جرى بيننا وبينه الحديث، فسألني عن أحمد بن حنبل فقلت: كتبت عنه. فلم يأخذ ما أعطيته وقال: لا آخذ أنا ثمن المتاع ممن يعرف أحمد بن حنبل أو رآه" [12].
وقال فتح بن نوح: سمعتُ أحمد يقول: "أشتهي ما لا يكون! أشتهي مكانًا لا يكون فيه أحد من الناس" [13].
وقال: "رأيتُ الخَلوة أَرْوح لقلبي" [14].
فكان يميل بطبعه للانزواء، ويحب الخمول وعدم الذكر، ويعود المريض، ويكره المشي في الأسواق، ويؤثر الوحدة [15].
وكان يقول رحمه الله: "وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا علي" [16].
وقال له مرة رجل: "جزاك الله عن الإسلام خيرًا. فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيراً" [17]. ثم قال: "ومن أنا ومن أنا" [18].
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: "إن فلانًا قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس؟ فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس، الناس يريدون أن يزهدوا في" [19].
فلسان الصدق من الثناء هو عاجل بشرى المؤمن، وقد دعا به إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
والشهرة في الغالب أحد مطالب النفس لدى فِئام من الناس، مثل المال والمنصب ونحوها من الحاجات الفطرية القائمة، والتي يتفاوت الناس فيها، فمنهم من هَمُّه المال، ومنهم من هَمُّه الجاه، أو المنصب، أو الشهوات... وأصل هذه الغرائز محايدة قابلة للاستخدام في الخير أو الشر: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
ولكن من الناس من يكره شيئًا منها؛ لأنه لا يتوافق مع طبعه وميله وما نذر نفسه له، كأن يكره مخالطة الناس والاحتكاك الدائم بهم؛ لأنه يُوحِش قلبه، ويُعّرِّضه لكلام لا يحتمله، إما من شدة المدح والثناء، أو شدة الذم والتنقص، والغالب أن المرء إذا اشتهر ابتُلي بهما معًا، فلا يزال يَعْرِض له من يمدحه بما ليس فيه، أو يذمُّه بما ليس فيه، ويؤثر السلامة والعافية، ويزيد هذا مع تقدم العمر والإحساس بالرغبة في التعبد والنُّسُك والقُرَب الربانية.
[1] البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في ديوانه (ص/63).
[2] رواه البخاري (6409)، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] السير (11/187).
[4] انظر: تهذيب الكمال (1/460)، (مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/423-424).
[5] انظر: صفة الصفوة (2/351)، مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي (ص333-334)، تهذيب الكمال (1/461).
[6] انظر: الآداب الشرعية (2/14)، سير أعلام النبلاء (11/316).
[7] تاريخ الإسلام حوادث (41-50) (ص/141)، وسير أعلام النبلاء (11/339).
[8] انظر: حلية الأولياء (9/180)، البداية والنهاية (10/341).
[9] انظر: سير أعلام النبلاء (11/216).
[10] انظر: تاريخ دمشق (5/309)، طبقات الحنابلة (1/12)، الآداب الشرعية (2/29).
[11] السير (11/216)، وتاريخ الإسلام حوادث (241-250هـ) (ص/81-82).
[12] انظر: الجرح والتعديل (1/307).
[13] انظر: سير أعلام النبلاء (11/226).
[14] المرجع السابق.
[15] المناقب (ص/373)
[16] انظر: سير أعلام النبلاء (11/227).
[17] انظر: طبقات الحنابلة (1/298)، الآداب الشرعية لابن مفلح (2/24).
[18] مناقب الإمام أحمد (ص/368).
[19] انظر: الورع لأحمد بن حنبل (ص152)، تاريخ الإسلام (18/82)، والمناقب (ص/368).
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف:
- المصدر: