سلسلة إمام أهل السنة - [6] أخلاقه ومناقبه رحمه الله
قال أبو بكر المروذي: "كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه حَلُمَ واحتمل، ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين اشتد غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران"
أخلاقه ومناقبه رحمه الله:
قال أبو بكر المروذي: "كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه حَلُمَ واحتمل، ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، كثير التواضع، حسن الخلق، دائم البشر لين الجانب، ليس بفظ، وكان يحب في الله، ويبغض في الله، وإذا كان في أمر من الدين اشتد غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران" [1].
أُوذِي الإمام أحمد وضُرِب، وقضى حياته كلها بين السجون، فماذا كان موقفه؟ سامح من آذاه وضربه وقال: "جعلت الميت في حل من ضربه إياي، ثم جعل يقول: وما على رجل ألا يعذِّب الله أحداً بسببه" [2].
وقد تلقى عنه هذا الهدي والسمت تلاميذه ومحبوه وأتباعه فكان الإمام ابن تيمية مثلًا قد ضُرِب أيضًا وأُوذي واعتُدِي عليه وسُجِن وكان إذا أصرَّ عليه طلابه يقول لهم: "الحق إن كان لي فقد عفوت عنهم، وإن كان لله، فالله تعالى يتولاهم، أما أنتم فليس لكم بذلك شأن" [3].
قيل للإمام أحمد: "قد مكنَّك الله من عدوك ابن أبي دؤاد. فلم يرد عليه جوابًا" [4].
فلم ينتقم منه ولا اتخذها فرصة للأخذ بحقه، بل أعرض عنه متمثلًا بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» [5].
واستفتوه في أموالٍ لابن أبي دؤاد وكانت أموالًا قد جاءته من السلاطين فلم يرد منها شيئًا وما أفتاهم بشيء [6].
بل ذكر البيهقي حكاية عجيبة عن أبي الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه: "كان يدعو في سجوده: اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق، فرده إليه حتى يكون على الحق حقاً" [7].
وكان يقول: "اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فداء، فاجعلني فداء لهم" [8].
إمام الجرح والتعديل:
ولم يكن الإمام أحمد رحمه الله يغلظ في القول ولا يبالغ في ذلك، وإنما كان في كلامه إجمال وعفة وإعراض، فربما قال: لا تأخذ الحديث عن فلان، أو اتركه أو ما أشبه ذلك أو يشيح بوجهه إذا سئل عنه، فلم ينقل عنه الكلام الغليظ، فالكلمات المعروفة بالقسوة والشدة قلما تسمع من فيِّ الإمام أحمد رحمه الله.
تواضع الإمام أحمد:
ومن تواضعه رحمه الله: أنه لم يكن يدع أحدًا يستقي له الوضوء [9]، بل كان يأخذ الماء بنفسه، وربما خاط الإمام أحمد قلنسوته بيده، ويتولى شأنه مباشرة ويعمل فيه بيده [10]، وربما خرج إلى البقال يشتري حاجته، ويحملها بيده، كما قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20].
وكان خلقه التواضع، والبساطة، والبعد عن الأبهة، «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [11].
قال له رجل: يا أحمد! هذا العلم تعلمته لله؟ فقال: "هذا شرط شديد" [12]. وفي رواية أنه قال: "أما لله فعزيز، ولكن حبب إلي شيء فجمعته" [13].
وقال رجل: "كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة فقالت لي يومًا: اذهب إلى أحمد بن حنبل فاسأله أن يدعو الله لي. فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه، فلم يفتح لي وقال: من هذا؟ فقلت: أنا رجل من أهل ذاك الجانب، سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها. فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج إلى أن تدعو الله لنا. فوليت منصرفًا، فخرجت امرأة عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم. قالت: قد تركته يدعو الله لها. قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي حتى فتحت الباب. فقالت: قد وهب الله لي العافية" [14].
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجل: من هنا إلى بلاد الترك يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك، وما بَثَّ لك في الناس؟ فقال: أسأل الله ألا يجعلنا مرائين [15].
قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: "قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء: ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقة، فذهب برأسه وبالدرقة. قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجًا. قلت: كلا" [16].
ولما ترك التحديث في آخر عمره، وجعل يقول: أستخير الله مرات أني أعطي الله عهداً إن عهده كان مسؤولاً، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: من الآية1] أني لا أحدّث بحديث تمام أبداً حتى ألقى الله [17]. وأعرض عن الناس، قال قائل في مجلسه: "إن فلانًا قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، قد زهد في الناس؟ فقال: ومن أنا حتى أزهد في الناس، الناس يريدون أن يزهدوا في" [18].
ما كان أحمد رحمه الله يرى أنه هو الإمام المبجل الذي اتسم بالورع حين خلّط الناس، والتقوى حين فجر الناس، والتزم بالسنة حين خالفها الناس، وأنه وحيد زمانه وفريد أوانه، بل كان متواضعًا لا يرى لنفسه حقًّا.
ذكروا له: أن فلانًا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك ويثني عليك، ويقول: اصبر، فكان يبكي وينفض يده، ويقول: "الرؤيا تسر المؤمن ولا تَغُرهُ" [19].
[1] السير (11/220-221).
[2] انظر: سير أعلام النبلاء (11/261)، تهذيب الكمال (1/464).
[3] العقود الدرية لابن عبد الهادي (ص/265).
[4] انظر: البداية والنهاية (10/338).
[5] أخرجه أحمد (15462)، وأبو داود (3534)، والترمذي (1264) وقال: (حسن غريب).
[6] انظر: سير أعلام النبلاء (11/276)، مناقب أحمد (ص/496)، الحلية (9/210).
[7] انظر: البداية والنهاية (10/329).
[8] تاريخ دمشق (7/278).
[9] طبقات الحنابلة (1/12).
[10] المناقب (ص/384).
[11] أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] انظر: البداية والنهاية (10/330)، المناقب (ص/367).
[13] المرجع السابق.
[14] انظر: حلية الأولياء (9/186-187)، صفة الصفوة (2/349-350)، سير أعلام النبلاء (11/211-212).
[15] السير (11/312).
[16] انظر: سير أعلام النبلاء (11/210).
[17] السير (11/277).
[18] السير (11/216).
[19] انظر: الآداب الشرعية (3/436)، والسير (11/227).
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف:
- المصدر: