سلسلة إمام أهل السنة - [7] بين الإمام أحمد وعلماء عصره

منذ 2017-01-18

علماء عصره كثير، وقلَّ منهم أحد إلا ولقي أحمد وأخذ عنه، أو تتلمذ الإمام أحمد عليه

بين الإمام أحمد وعلماء عصره:

علماء عصره كثير، وقلَّ منهم أحد إلا ولقي أحمد وأخذ عنه، أو تتلمذ الإمام أحمد عليه، ومن ذلك:

أولًا: الإمام الشافعي رحمه الله، فقد أخذ عنه الإمام أحمد نحو عشرين حديثًا [1]، مع أن الإمام أحمد أبصر منه بالحديث، وأوسع منه في الرواية، وكان الإمام أحمد يقول لإسحاق: "يا أبا يعقوب! تعال أريك رجلًا لم تر عيناك مثله. فقال له إسحاق: لم تر عيناي مثله؟! قال: نعم فجاء به فأوقفه على الشافعي رحمه الله" [2].

كما أخذ عن الشافعي جملة من كلام العرب [3].

ولما مات أحمد وجِد في تركته كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وكان أحمد يقرأ فيه، ويستفيد منه، ويدعو للشافعي ويثني عليه [4] .

وقد روى أحمد عن الشافعي حديثًا طريفًا مسلسلًا بالأئمة: رواه أحمد عن الشافعي عن مالك وهم ثلاثة أئمة متبوعون، عن ابن شهاب الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى تعود إلى جسدها» [5].

ولما لقي الإمام الشافعي أحمد في رحلته الثانية إلى بغداد قال الشافعي لأحمد: "يا أبا عبد الله! إذا صح الحديث عندكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمني به حتى أذهب إليه حجازياً كان الحديث أو شامياً أو عراقياً أو يمنياً" [6]. يقول الشافعي هذا لإنسان يصغره بسنوات.

وكان الإمام أحمد يقول لولد الشافعي محمد بن محمد: "أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سحراً" [7].

وكان الإمام أحمد في حداثته يختلف إلى مجالس علماء آخرين، كالقاضي أبي يوسف، وقد كتب روايات علماء الرأي، وروايات أهل العراق، ثم أقبل على الحديث والسنة.

ثانيًا: الحارث بن أسد المحاسبي، وهو من المشهورين بالزهد والتقوى والورع والصلاح، بل بالتشديد في ذلك والتنقيب فيه.

قال إسماعيل بن إسحاق السراج: "قال لي أحمد بن حنبل: هل تستطيع أن تريني الحارث المحاسبي إذا جاء منزلك؟ فقلت: نعم وفرحت بذلك فرحاً شديداً. ثم ذهبت إلى الحارث فقلت له: إني أحب أن تحضر الليلة عندي أنت وأصحابك فقال: إنهم كثير، فأحضر لهم التمر والكسب. فلما كان بين العشاءين جاؤوا، وكان الإمام أحمد قد سبقهم، فجلس في غرفة بحيث يراهم ويسمع كلامهم ولا يرونه، فلما صلوا العشاء الآخرة لم يصلوا بعدها شيئًا بل جاءوا بين يدي الحارث سكوتًا مطرقي الرءوس، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى إذا كان قريبًا من نصف الليل سأله رجل مسألة، فشرع الحارث يتكلم عليها وعلى ما يتعلق بها من الزهد والورع والوعظ، فجعل هذا يبكي وهذا يئن وهذا يزعق. قال: فصعدت إلى الإمام أحمد إلى الغرفة فإذا هو يبكي حتى كاد يغشى عليه، ثم لم يزالوا كذلك حتى الصباح، فلما أرادوا الانصراف قلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله؟ فقال: ما رأيت أحدًا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء، ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم" [8].

لماذا؟

أولًا: قيل: لأنه كان عند الحارث شيء من علم الكلام.

ثانيًا: قال البيهقي: "كره له صحبتهم من أجل أنه لا يطيق سلوك طريقتهم وما هم عليه من الزهد والورع".

ثالثًا: وهذا الذي رجحه ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: "بل إنما كره ذلك لأن في كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر" [9]، فلذلك تركهم ونصح هذا الرجل بأن لا يصحبهم، وأن يقبل على العلم والحديث والزهد المعتدل الذي لا يكون فيه إسراف.

ولهذا لما وقف أبو زرعة الرازي على كتاب الحارث المسمى بالرعاية قال: هذا بدعة، ثم قال للرجل الذي جاء بالكتاب: عليك بما كان عليه مالك والثوري والأوزاعي والليث، ودع عنك هذا فإنه بدعة [10].

ثالثًا: ابن أبي دؤاد، وكان يسمى قاضي القضاة، وكان عالم الخليفة، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وهو الذي تسبب في المحنة وناظر الإمام أحمد ووقف على رأسه، وأغرى به وآذاه وحصل منه ما حصل، ثم دارت الدائرة عليه فجرد من منصبه، وبيعت أمواله بالمزاد العلني، وأخرج من بغداد، واضطهد وضيق عليه، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحاً في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك، ومات ولم يحضر جنازته إلا عدد قليل.

وقد سئل عنه الإمام أحمد فلم يجب عنه بشيء، فسئل في أمواله فأعرض عنها..

قال إبراهيم الحربي: أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه، وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي دؤاد داعية لأحللته [11].

فهذا أنموذج سريع لمواقفه من علماء عصره.

فرحم الله الإمام أحمد، ورفع من درجته في المهديين، وألحقنا به في الصالحين؛ إنه على كل شيء قدير.

 

[1] البداية والنهاية (10/326).

[2] انظر: حلية الأولياء (9/97)، معرفة السنن والآثار (4/423).

[3]  البداية والنهاية (10/326).

[4]  البداية والنهاية (10/326)، والمناقب للبيهقي (1/235).

[5] مسند أحمد (15759). وأخرجه النسائي (2073)، وابن ماجه (4271)، وصححه ابن حبان (4657).

[6] انظر: طبقات الحنابلة (2/51)، والبداية والنهاية (10/327).

[7] انظر: الوافي بالوفيات (1/107)، السير (11/227).

[8]  السير (11/326-327).

[9] انظر: البداية والنهاية (10/329).

[10]  البداية والنهاية (10/330).

[11] صفة الصفوة (1/448).

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

المقال السابق
[6] أخلاقه ومناقبه رحمه الله