المنهج العقلي عند الإمام أحمد بن حنبل
شاع في الأوساط الفكرية نتيجة لبعض الرواسب التاريخية عن المنهج السلفي وعن الإمام أحمد على الخصوص أنه معرض عن التفكير العقلي ومبتعد عن المنهجية العقلية في الاستدلال، ولعل من أسباب تكريس هذا التصور ما تواتر عن موقف الإمام أحمد وقت فتنة خلق القرآن
قراءة تحليلية
شاع في الأوساط الفكرية نتيجة لبعض الرواسب التاريخية عن المنهج السلفي وعن الإمام أحمد على الخصوص أنه معرض عن التفكير العقلي ومبتعد عن المنهجية العقلية في الاستدلال، ولعل من أسباب تكريس هذا التصور ما تواتر عن موقف الإمام أحمد وقت فتنة خلق القرآن، فإنه كان يطالبهم بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة على صحة قولهم، ويأبى أن يخوض في المسألة من غير هذا الطريق، فتعمق بناءً على هذا المنقول عنه أنه عالِم خبري محض لا يعطي أهمية للدليل العقلي فضلاً عن أن يكون لديه منهجًا مبنيًا على العقل.
وقد تبنى هذا التصور طائفتان:
أما الطائفة الأولى: فهم كثير ممن لا ينتسب إلى المنهج السلفي جملة من المذاهب الكلامية المختلفة أو من المدارس الفكرية المعاصرة.
وأما الطائفة الثانية: فهم بعض أتباع المذهب السلفي، الذين ظنوا أن الطريق الوحيد للاستدلال على القضايا الدينية هو الطريق النقلي، وأهملوا بناءً على ذلك الطريق العقلي باعتباره طريقًا غير شرعي يمثل الطريقة القبيحة في الدين، حتى غدا المنهج العقلي من مذمومات هذه الطائفة، وأضحى مناط ذمهم للمتكلمين يصاغ، بأنهم اعتمدوا على المنهج العقلي في دينهم، مما تسبب في حدوث خلل في البنية الاستدلالية الصحيحة، وقد وجه ابن تيمية ذمه لهذه الطائفة في مواطن عديدة، وفي هذا يقول: "دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم، بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهداهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين، وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما فى القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابًا...." (الفتاوى [19/160]).
ونحن إذا رجعنا للإمام الأبرز للمذهب السلفي لنستجلي حقيقة موقفه من التفكير العقلي في ونتبين مدى حضوره في بناء تصوراته ومفاهيمه، فإنا نجد الصورة مختلفة عما هو شائع.
فليس خافيًا للمطلع على نتاج الإمام أحمد وعلى سيرته مدى حضور التسليم للنصوص الشرعية لديه وعمق خضوعه للنص الديني وتجذره في أعماق عقائده وتصوراته، ولكنه جمع مع هذا حضورًا مكثفًا للدليل العقلي في حواراته وغورًا عميقًا للمنهجية العقلية في سجالاته واستدلالاته، وهذا المنهج ظهر جليًا في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) الذي ألفه بعد أن خاض حوارات واسعة مع رؤوس منهج الكلامي الناشئ.
وقد أكد عدد من العلماء حضور الدليل العقلي في هذا المنصف الصغير، وفي بيان هذا يقول أبو يعلى: "وقد احتج أحمد رحمه الله بدلائل العقول في مواضع فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية" (العدة [4/1273])، ويقول ابن مفلح: "وقد صنف الإمام أحمد رحمه الله كتبًا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره واحتج فيه بدلائل العقول" (الآداب الشرعية [1/227])، وتوارد على تأكيد هذا ابن عقيل وابن قاضي الجبل وابن القيم وغيرهم.
وأما ابن تيمية فإنه أكثر من تأكيد حضور الدليل العقلي عند الإمام أحمد، ونبه على فعاليته في المنظومة المعرفية التي يمتلكها الإمام أحمد، وكان يقول عنه: إنه من أكثر الأئمة استعمالًا لأدلة العقول، بل إنه اعتمد عليه كثيرًا في منهجيته العقلية، وهذا الاعتماد يظهر بأدنى قدر من القراءة لكتب ابن تيمية.
وتبرز معالم المنهجية العقلية عند الإمام أحمد في مستويين:
أما الأول: فهو المستوى الإجمالية، ويتبدى في النفس التحليلي الذي وظفه الإمام أحمد في ممارساته الاستنتاجية والنقدية، ويتجلى هذا النفس في تحليل الإمام أحمد لطريقة القرآن في بياناته وفي تركيب دلالاته، فقد جمع قدرًا من الآيات التي ظنها المعارضون للقرآن من المنتاقضات، وبلغ عددها 19 إشكالًا، فحللها وفكك مضامينها، حتى توصل إلى إظهار انسجامها واتساقها، وجهده هذا يعد من أقدم الجهود التي قدمها العلماء في الدفاع عن القرآن، وأهمها، وقد سبق في ذلك علماء الكلام وغيرهم.
وكذلك راح إلى استعمال القرآن للفظة (جعل) وبين مواردها ومجامع استعمالاتها وأصل معانيها، وكذلك فعل مع لفظة (محدث) ولفظة (المعية) والعلاقة بين لفظتي (أمر وخلق) في القرآن، وتوصل إلى نتائج هامة في دلالاتها.
ويظهر النفس التحليل أيضًا في تفكيك مقولات الجهم ابن صفوان، فقد وظف التحليل المبني على القسمة العقلية في تفتيت أقواله وفزر الاحتمالات التي تحتملها، ومن ثمة تعامل مع كل احتمال بما يناسبه من النقاش والتدليل، وقد استغرقت هذه العملية قدرًا كبيرًا من الكتاب.
وهذه النفسية التحليلية نابعة بلا شك من المنهجية العقلية التي كان يتمثلها الإمام أحمد في منظومته المعرفية.
وأما الثاني، فهو مستوى التطبيقات الجزئية، وهنا يظهر للقارئ مدى حضور المنهج العقلي عند الإمام أحمد، فقد وظف عددًا من الأدلة العقلية في بناء عقيدته في الأسماء والصفات، بل إنه قدم في بعض المواطن الدليل العقلي على الدليل النقلي من حيث الذكر، ويلحظ القارئ أن تقديم تلك الأدلة كان بمهنية عالية وطريقة متقنة، ولو ذهبنا نذكر كل دليل عقلي ذكره لطال بنا المقام، ولكن سنجمل هما القضايا التي وظف الدليل العقلي في بناءها، ومنها:
- الأصل الذي تقوم عليه قضية الاتصاف بالأوصاف، فقد بين أن الوجود الخارجي لا يثبت إلا بأمور وجودية، وأن الموجودات إنما تتمايز وتتفاضل بالأوصاف الوجودية، ومن ثم فمن ارتفعت عنه كل الأوصاف الوجودية لا يمكن أن يكون إلا معدومًا [209].
- أنواع المضاف إلى الله، وأنه تارة يكون صفة وتارة يكون خلقًا منفصلًا [129].
- إثبات صفة الكلام الإلهي، وقد وظف في هذه القضية أدلة عقلية عديدة [236- 238].
- إبطال أن يكون الكلام الإلهي مخلوقًا [222].
- إثبات توحد الصفات في مأخذ ثبوتها، وهو ما أطلق عليه مؤخرًا [باب الصفات واحد] [278].
- العلاقة بين الصفات والموصوف، وأنه لا يلزم من تعدد الأوصاف تعدد الموصوف [280].
- العلاقة بين ثبوت العلم التفصيلي وبين المباينة للخلق [298].
- الاستدلال على نفي الصفة بثبوت ضدها، فنفي العلم يستلزم ثبوت الجهل، وهو ما أطلق عليه مؤخرًا [قاعدة السلب والإيجاب] [284].
- العلاقة بين ثبوت المباينة الذاتية وبين الاتصاف بالإحاطة بالخلق [295].
- إثبات صفة العلو الإلهي وإبطال فكرة الحلول المكاني التي تبناها الجهم بن صفوان، وفي شرح دليل هذه القضية يقول:" إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم، فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لا بد له من واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا كفرًا أيضًا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء، وإن قال: خلقهم خارجًا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة" [300].
فهذه التوظيفات للأدلة العقلية من الإمام أحمد تعد لبنة من أرسى اللبنات التي تقوم عليها المنهجية العقلية في الخطاب السلفي، بل هي من أقدم الصور العقلية المنضبطة في تاريخ الفكر الإسلامي، ولكنها تحتاج من المتأخرين إلى تفهم واستثمار وتفعيل وتطوير، فالإمام أحمد وظف المنهج العقلي في النطاق الذي كان يتطلبه زمانه، وهذا لا يعنى أن نقتصر على نفس الدائرة التي خاض فيها، وإنما يتحتم علينا أن نتمثل روح المنهجية العقلية التي كان يعيشها، ونعملها في النطاقات المعرفية المحيطة بنا، وهذا ما نجح فيه ابن تيمية، فإنه كان في منهجيته العقلية معتمدًا على ما قرره أحمد كثيرًا، وإن كان قد استفاد من غيره كثيرًا، ولكنه استطاع أن يتعرف على معالم المنهجية العقلية عند أحمد، وتبين طريقتها، فاقتدر على تطوير الدليل العقلي وعلى توسيع دوره في حل الإشكاليات المعرفية في زمانه.
وحري بنا معشر المعاصرين أن نتمثل تلك المنهجية العقلية التي سار عليها الإمام أحمد، ونذل الجهد في تطويرها وتفعليها في تجاوز الإشكاليات المعرفية التي فرضها علينا عصرنا المشكل في تجلياته وتركباته، فليس هناك مدخل للشك في أنا نعيش واقعًا مختلفًا في تصوراته وتشكلاته عما كان يعيشه الإمام أحمد، كما عاش هو عصرًا مختلفًا عما عاشه الصحابة رضي الله عنهم، ومقتضى الاكتمال المنهجي والانضباط المعرفي أن نسعى في تطوير منهجنا العقلي، ونبادر إلى بناء هيكلة المعالم المنضبطة للممارسة العقلية، وهذا بالطبع لا يعنى الاستغناء عن نصوص الكتاب والسنة وعن آثار الصحابة رضي الله عنهم، وإنما هو تفهم لطبيعة المهمة التي يتطلبها عصرنا، كما تفهم الإمام أحمد المهمة التي كان عصره يتطلبها، فسعى إلى توظيف المنهج العقلي مع المحافظة التامة على تقديس النص المعصوم، فهل نستطيع أن نصنع مثل ما صنع الإمام أحمد؟!!
ولا يعني كل ما سبق أن الإمام أحمد كان أكثر من غيره في حضور المنهج العقلي أو أضخم تفعيلًا له، فإن علماء المدرسة الكلامية كانوا أكثر لهجًا بالمنهج العقلي منه ومن غيره من علماء الحديث، وأوسع تطبيقًا له في القضايا الدينية، ولكن هذا لا يعني أن المتكلمين قدموا النموذج الأمثل في المنهجية العقلية أو أن ممارستهم خير من ممارسة أحمد أو أكمل منها، فإن منهجيتهم العقلية وقعت في أخطاء عديدة، من أفتكها: استعمال الدليل العقلي في غير محله، فإنهم استعملوه في إثبات القضايا الضرورية كثيرًا، وهذه القضايا لا يستعمل الدليل في إثباتها، ومنها: المبالغة في الاعتماد على الدليل العقلي وتنصيبه حاكمًا على الدليل النقلي، ومنها: الانطلاق من أن الدليل العقلي غير متضمن في نصوص القرآن، ومنها: التلبس بالأوصاف المنافية لفكرة الاستدلال، كالطول في المقدمات والغموض فيها وكثرة التشعب في سبلها.
وفضلًا عن ذلك فالعبرة ليست في كثرة الاستعمال للدليل العقلي أو سعة ذكره؛ إذ لو كانت كذلك لكان المتكلمون خيرًا من الصحابة رضي الله عنهم!؛ إذ هم أكثر منهم في استعمال المنهج العقلي، فليس الغرض أن نتغنى بالدليل الاعتماد على العقل أو تنماهى في الارتكاز عليه أو نستغرق في الاشتغال به أو نتطاول في بناء مقدماته أو نتوسع في الجدال حول صوره، وإنما الأهم من ذلك كله أن نستشعر ضرورة المنهج العقلي، ونعيش الروح العقلية ونسعى للتنقيب عن التجارب العقلية المنضبطة، ونقوم بتطوريها، ونبادر إلى تفعيلها في ميادين المعرفة المحيطة بنا، مع المحافظة على منزلة النص المعصوم وحفظ قدره، وبهذا نصل إلى رتبة الاكتمال المنهجي والتوازن الاستدلالي والإتقان المعرفي.
سلطان بن عبد الرحمن العميري
( جامعة أم القرى - قسم العقيدة )
- التصنيف:
- المصدر: