قصة الإمام أحمد بن حنبل في الدفاع عن عقيدته
وهناك في المسجد الجامع: وقف أحمد فوق منبره ليقول للناس بأعلى صوته: (أعلن لكم أن القرآن ليس بمخلوق، لأن المخلوق فانٍ، وحاشا لكتاب الله أن يعدَّ في الفانين).
في مسجد بغداد الجامع.. يرى الناظر حلقة علمية تصدرها شيخ جاوز الأربعين من عمره وحوله جمع من المصلين.
الجمع منصت عن رضىً، والشيخ يتحدث في وقار وأدب والمجلس تغشاه رحمة الله وعنايته.
واندلع صوت من الجالسين في الحلقة صائحاً:
سيدنا الإمام، ما رأيك في القرآن، أهو مخلوق أو غير مخلوق؟
وشخصت الأبصار واشرأبت الأعناق وهمست الأصوات: ما هذه الفتنة؟ وما هذا الشيطان؟
كان السائل هو الجعد بن درهم.. رجل من رجالات المعتزلة لا يبحث عن المعرفة ولا يتهمه الاستفادة.. وإنما كل همه أن يرى الصفوف تتفرق والجموع تنصرف من حول هذا الشيخ الذي ذاع صيته واشتهر أمره.
ووقف الإمام (أحمد) وقفة يبحث فيها ويفكر ويقلب الأمر على وجوهه. وكما هي عادة العالم الصادق ألا يخاف في الحق لومة لائم قال للسائل:
إن القرآن ليس بمخلوق لأن المخلوق فان، وحاشا لكتاب الله أن يعد في الفانين.
واطمأن الحاضرون إلى هذه الإجابة واطمأنوا أيضاً إلى أن إمامهم لا يتحدث إلا عن علم، ولكن الجعد «السائل» نجح في مؤامرته ونال ما تمناه، وخرج ينشر بذور الفتنة بين مذبذبي الرأي، ووجد فيها فرصة ينال بها من هذا الشيخ الذي كاد يقضي على مذهبهم الاعتزالي. ووجد بعض المنسوبين إلى الإسلام من المذبذبين فرصة ينالون بها من وحدة المسلمين فتداخلوا في شئون المسلمين عن طريق ضعاف الإيمان وفتح لهم المعتزلة صدورهم باسم حرية المناظرة والمجادلة فزرعوا بذور التفرقة.. وانسحبوا سالمين.. واشتعلت الحرب بين فريقين.. فريق يرى عدم خلق القرآن.. وآخر يرى عن طريق إدراكه العقلي القاصر أن القرآن مخلوق..
واستطاع المعتزلة أن يقنعوا الخليفة بمذهبهم فانضم إليهم.. ويبدأ يشهر سلاح السلطة والقوة، فأمر بأن يعذب ويسجن كل من لا يقول بخلق القرآن.. وأرسل على الفور إلى العلماء الواحد تلو الآخر كي يرى رأيهم فخضعوا جميعاً.. إلا قليلاً.. وبعد صلاة فجر يوم من الأيام.. والإمام أحمد خارج من مسجد بغداد الجامع في شبه حلقة من المصلين. فوجئ الناس بكتيبة من الفرسان قد أطبقت على الشيخ، وأمسكت بتلابيبه.. وساقته أمام المصلين مهاناً حيث ينتظر استفاؤه في قضية خلق القرآن.
وعزَّ على المصلين أن يتركوا إمامهم يذهب هكذا وحده فأسرعوا وراءه وأنبأ الحاضر منهم الغائب.. فخرجت المدينة عن بكرة أبيها.. وكلها أمل أن تسمع فصل الخطاب.. والرأي الأخير على لسان هذا لشيخ الورع وهذا الإمام التقي.. في هذه القضية الشائكة.
وهناك.. في ساحة القصر وقف الإمام أحمد يشاهد الجند وهم يزفون البشرى بمقدم حاكم بغداد «إسحاق بن إبراهيم» وفاجأه الحاكم على غير عادته معه بصوت أجش ووجه كلوح ثم قال بلا مقدمات: سمعنا عن رأيك يا أحمد في خلق القرآن.. وهو ما لا يرضاه عقل ولا دين فبعثنا إليك حتى نتأكد من صحة الخبر ونسمع قرارك الأخير فنؤاخذك بما تستحق إن صممت على ما تقول.
وتريث أحمد قليلاً ووضع القضية بين كفتي عقله:
فالأولى تقول هل أنت أحسن من الشافعي؟ (لقد أفلت من الوقف بإيهامه الولي أنه يقول عن القرآن بأنه مخلوق مع أنه كان يقول على نفسه، أفلا أستطيع الإفلات مثله؟ والثانية تقول: لا. لا.. إن الشافعي لم يكن في مثل هذا الموقف لقد كان واحداً فقط أما أنا فورائي أمة ومن ثم فإنه أول امتحان أستطيع به معرفة إيماني وأيضاً فإنه حكم على كتاب الله يلقى جزافاً وما ذلك من الدين في شيء. وانتصرت الكفة الثانية انتصاراً باهراً فلقد صرخ الإمام متحدياً هيبة الحاكم وسلاحه وصاح في الشعب المنتظر رأيه الصائب وحكمه الفاصل:
أيها الناس: أعلن لكم أن القرآن ليس بمخلوق لأن المخلوق فان، وحاشا لكتاب الله أن يعد في الفانين.
واضطرب الحضور، وزمجر إسحاق بن إبراهيم الحاكم في عرينه وأمر بالرجل فيضرب ويعذب وسيق وسط الجموع المحتشدة مغلول اليدين وهو يذكر الله ويحوقل والناس تبكي ديناً يضيع، وحاكماً يضل وعقائد تتحكم فيها القوة.
وفي هذه الآونة كان رجل يدعى خالد بن عبد الله القسري، من أنصار الإمام أحمد بن حنبل قد أخذ منه الحزن كل مأخذ فأقسم بينه وبين الله لينتقمن ممن تسبب في هذه الفتنة وهو الجعد بن درهم وبيت النية على ذلك.
وبدأ خالد في تنفيذ خطته للانتقام منه فتعمد الاحتكاك بابن درهم وهما في المسجد حتى كادت تقع بينهما مشاجرة لولا أن تظاهر خالد بالحلم ودعاه لأن يتصافيا في البيت، وهناك.. تمت بداية الصداقة.. بل بداية نهاية ابن درهم، وأظهر خالد القسري كل مقومات الصفات النبيلة أمام صديقه الجعد حتى أعطاه الجعد ثقته.. واجتمعا ذات يوم فأسرَّ إليه خالد أن يشاركه في رحلة خارج المدينة واستدرجه حتى انفرد به وهناك ذكره بفتنته والضحايا الأبرياء الذين ذهبوا ضحيتها وضربه بسيفه فقصم ظهره ومات الجعد لتوه.
فرح المسلمون كثيراً واستبشروا خيراً حين علموا بموت رأس الفتنة الجعد بن درهم، وكم تمنوا لو تتم فرحتهم بموت ذنبها المأمون، وأخذوا جميعاً يتضرعون إلى الله ويرجون منه النجاة والخلاص، وقد ساءهم ما علموه من أن إمامهم أحمد بن حنبل، قد سيق ومعه رجل يدعى محمد بن نوح، مكبلين بالأصفاد إلى الخليفة الظالم - المأمون - وباتوا بأسرهم في هم وكرب عظيم.
♦♦♦
وجاءت الأنباء تترى:
لقد مات محمد بن نوح في الطريق، ولم يبق إلا الإمام أحمد بن حنبل، وحده، واقفاً أمام غضب الخليفة وأمام أنصاره المعتزلة، وترقب الناس حدثاً مؤلماً للإمام، لا سيما وقد علموا بغيظ الخليفة الشديد ووعيده الأليم.
وهنا نترك للتاريخ أن يسجل، ولصفحاته البيضاء أن تكتب، ولأصحاب المثل والمبادئ الرفيعة من التفاني والوفاء والإخلاص أن يبهرونا بقوة إيمانهم، ومدى تمسكهم بعقائدهم، وتعصبهم للحق بدون ما رياء ولا نفاق، وبدون ما جزع ولا خوف.
يقول التاريخ:
لما دخل الإمام أحمد بن حنبل على المأمون - وعنده أحمد بن أبي داود (وزيره الضال الذي كان سبب تمسك الخليفة بآراء المعتزلة وكان سبباً في إيذاء أحمد بن حنبل وغيره من المسلمين) - لما دخل الإمام على المأمون استشاط المأمون غضباً، وقام فزعاً وقال للإمام بصوت عال، وحدة غضب:
هذا هو سيفي قد جردته من غمده فو الله لا أدخله فيه.. إلا أن تعترف بخلق القرآن.
وسكت الإمام، وللسكوت هنا معانٍ غير التي عرفناها بيننا، فليس معناه هنا الرضا، وإنما معناه الاستخفاف والاستهتار، وزادت حدة المأمون وتمنى لو نطق الإمام ولو بالنفي، ولكن الإمام ظل على صمته مستخفاً بهذا الخليفة المتجبر مستهتراً بكل ما يملكه هذا الخليفة من قوة وسلطان، ولما أن رأى المأمون تصميم الإمام أمر أن يطرح أرضاً وأن يجلد بالسياط، حتى يعترف بخلق القرآن، وجلس المأمون على كرسيه، وأمر بجلاده أن يضرب وضربه الجلاد أول جلدة، وانتظر الحاضرون توجع الإمام أو على الأقل أن يتفوه بأية كلمة ولشد ما ذهلوا حينما سمعوه يقول: باسم الله.
وتلت أول جلدة ثاني جلدة ونطق الإمام - الحمد لله - وتلتها ثالث جلدة ونطق الإمام - لا حول ولا قوة إلا بالله.
وتلتها رابع جلدة ونطق الإمام أشهدك اللهم أن القرآن ليس بمخلوق لأن المخلوق فانٍ، وحاشا لكتاب الله أن يعد في الفانين..
وهكذا استمر جلاد المأمون يضرب، والإمام يردد آيات الصبر والتقوى، شأنه في ذلك شأن المجاهدين الصابرين..
وهنا كان الغضب قد أخذ من المأمون كل مأخذ، فقام غاضباً يضرب الإمام بقدميه، ويدوسه بنعليه، ويبالغ في ذلك ظاناً بأن العلماء الحقيقيين تصلح معهم مثل هذه الأساليب الوضيعة..!
وبلغ الغضب من المأمون مبلغاً أكبر حين سمع همس الإمام وهو يناجي ربه قائلاً:
رباه!!.. أشكرك أن أنزلتني منزلة بلال، ووضعتني موضع الصحابة والتابعين، ولم يطق المأمون مواجهة هذه القوة من الإيمان التي تتمثل في الإمام، فأمر من فوره بأن يكبل الإمام بالقيود، ويوضع في سجن مظلم مع اللصوص والمجرمين!!
استيقظ الناس صبيحة يوم من أيام عام 212 هجرية على صوت في المسجد يصيح: أيها الناس: أبشروا.. أبشروا، لقد مات المأمون اليوم غير مأسوف عليه، فانجلت بموته محنة إمامكم، وانكشفت غمته.
ولكن!!
هل انكشفت المحنة حقاً؟
يعلم الله أنها لم تنكشف، بل زادت حدة وغلظة، فلقد ترك المأمون وصية لأخيه المعتصم، يرجوه فيها أن ينهج منهجه، ويسير سيرته في الناس، خاصة مع القائلين بعدم خلق القرآن.
وفعلاً مضت الأمور في عهد المعتصم على غرار عهد المأمون.. وسيق الإمام ثانية مكبلاً بالأصفاد والأغلال إلى المعتصم الذي أمر بأن يوضع الإمام في سجن مظلم ثمانية وعشرين شهراً، وأن يهان ويعذب وينكل به أي تنكيل.
♦♦♦
ومرت الأيام، وانقضى عام وعام، والشيخ صابر لقضاء الله مدة تزيد عن العشرين عاماً، تعاقب فيها الخلفاء الواحد تلو الآخر، وكل منهم يفتنن في إيذاء الشيخ، محاولاً بذلك أن يصل إلى انتزاع كلمة من الشيخ الفقيه تخالف ما يضمره في قلبه.
ولكن أنَّى لهم أن يصلوا إلى مبتغاهم! والإمام صادق الإيمان قوي العزيمة والعقيدة، والمؤمن إذا دخل الإيمان قلبه فهيهات أن يجبن أو أن يتراجع عن قول الحق، مهما تجمعت عليه الشدائد أو تراكمت عليه المحن.
♦♦♦
وأقبل عام 232 هجرية، وأذن الله للغمة أن تنقشع فمات الواثق بدوره، وولى على أمور المسلمين رجل مسلم عادل هو (المتوكل).
ولقد اقتنع المتوكل منذ توليته بآراء الإمام أحمد، وأيقن أن القرآن ليس بمخلوق، فما كان منه إلا أن دعا إليه الإمام أحمد، ومكنه من رقبة (أحمد بن أبي داوود) ذلك الذي كان يحث المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، على إيذاء الإمام والتنكيل به، بيد أن الإمام عفا عنه لوجه الله تعالى.
وخرج الإمام أحمد من منزل الخليفة المتوكل متوجهاً إلى بغداد ثم إلى المسجد الجامع حيث سار ووراءه حشد كبير من الناس يهللون ويكبرون، ويشكرون الله الذي نصر الحق على الباطل، وأعاد إليهم إمامهم سالماً غانماً، بعد غيبة طالت ومتاعب انقضت.
وهناك في المسجد الجامع: وقف أحمد فوق منبره ليقول للناس بأعلى صوته:
(أعلن لكم أن القرآن ليس بمخلوق، لأن المخلوق فانٍ، وحاشا لكتاب الله أن يعدَّ في الفانين).
عبد الحليم عويس
باحث أكاديمي متخصص في دراسة التاريخ والحضارة، وقدم العديد من الدراسات والأبحاث العلمية للمكتبة العربية
- التصنيف:
- المصدر: