غربة كريمة أم إقامة أليمة؟
منذ 2010-12-29
كلما سافرت خارج مصر، وبمجرد أن أغادر طائرة الشركة الوطنية إلى أن أركبها مجدداً -وبالمناسبة طائرات شركتنا الوطنية هي صورة مصغرة من بلدي بكل ما فيها وعندي حكايات ربما أعود إليها يوماً....
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فكلما سافرت خارج مصر، وبمجرد أن أغادر طائرة الشركة الوطنية إلى أن أركبها مجدداً -وبالمناسبة طائرات شركتنا الوطنية هي صورة مصغرة من بلدي بكل ما فيها وعندي حكايات ربما أعود إليها يوماً، آخرها حيث قامت المضيفة بسب راكب بلفظ خادش للحياء يعاقب عليه القانون- أقول ما إن أضع قدماي خارج طائرتنا حتى أظل أسيراً لسؤال واحد لا يفارقني طوال رحلتي: لماذا لا أستطيع أن أعيش في بلدي هذه النوعية من الحياة؟ هل كتب على أن أعيش بين خيارين لا ثالث لهما: إما غربة كريمة أو إقامة أليمة؟ تراني يوماً يمكن أن تتاح لي فرصة أن أعيش في وطني حياة تليق بالبشر؟ ما إن أضع قدمي خارج وطني -وأنا هنا لا أتكلم عن أوربا وأمريكا بل أتكلم عن الصين وتركيا، بلدان بدأت نهضتها منذ أيام قليلة- أقول ما إن أضع قدماي في هذه البلدان حتى أقول: ألا يمكن أن أحصل في بلدي على بعض من هذه الحياة الآدمية؟ حين أنظر من شرفة الفندق فأجد الشارع مزدحم لكنه يسير، مزدحم لكن الكل ينتظر، ليس هناك فهلوية، وليس هناك مظاهرة الكلاكسات المميتة، وليس هناك سيارة تقف في منتصف الشارع لتأخذ راكباً، ولا هناك سيارة تسير في عكس الاتجاه، ليس هناك زجاج أسود، ولا لوحات مطموسة ولا بادجات هيئات على اللوحات المعدنية، سافرت إلى الصين مرات لا أحصيها، وبالتحديد مدينة كوانزو الرهيبة، ولا أذكر قط أنى رأيت سيارة تنتظر في الشارع قط، أركب التاكسي يبدأ العداد في العمل، أصل إلى وجهتي أدفع المبلغ الذي حدده العداد، أحصل على الإيصال، أدخل إلى المطعم، أجلس إلى المائدة، أُعامل على أنني أهم زبون في تاريخ هذا المطعم، ليس هناك شيء اسمه تكشيرة، أو ملل الانتظار، أو عامل رائحته دخان سيجارة، أو تجلس فلا يأتيك أحد، بمجرد أن تشرب كوب الماء تنشق الأرض عن ابتسامة عريضة تعيد ملأ الكوب بالماء، الطعام طازج دائماً وشهي (طعام عربي طبعاً) والابتسامات متوفرة ومجانية، والنظام سهل وبسيط، هل تصدقونني إن قلت لكم أنني منذ أن تطأ قدماي خارج وطني لا يصيبني شيء من الكدر ولا الضيق حتى أعود إلى الطائرة الوطنية التي لم تقلع قط في موعدها والابتسامات فيها بالقطارة، فما أن أهبط في مطار وطني الحبيب إلا وتتلقاك نظرات الشك والريبة من الجميع، ولأنك صاحب لحية فستنتظر على جنب -في كل بلاد العالم يحصل أبناء البلد على معاملة خاصة في مطارات بلادهم وتخصص لهم نوافذ خاصة لإنهاء الإجراءات أما في بلدي فهنيئاً لك إن كنت مزدوج الجنسية لأنك بمجرد أن تخرج جواز سفرك الأجنبي فلن تتعرض لأي مضايقة-.
وحين تذهب بحقائبك إلى موظف الجمارك، وإذا كنت ابن بلد، فيجب عليك أن تتوقع أي شكل من أشكال المعاملة (من النادر جداً في أي مطار آخر أن تفتح حقيبتك وإذا حدث ذلك فلابد أن هناك سبب ولابد أن ذلك سيتم بشكل آدمي) ويجب عليك أن تستعد للملمة محتوياتك من على الأرض.
فإذا خرجت إلى صالة الاستقبال فيجب أن تجهز ملابس احتياطي لأن مندوبي شركات الليموزين سيحصلون على قطع من ملابسك وهم يتقاتلون عليك ويا ويلك لو كانت ملامحك وملابسك تشبه أثرياء العرب.
في الطريق إلى مدينتي وفى كل رحلة عودة أمر على بقايا السيارات المهشمة والمتفحمة على جانبي الطريق الزراعي بينما السيارة التي أستقلها تتفادى مطبات الموت وحُفر الإعدام في الطريق.
وأخيراً أصل إلى بيتي وأنا أردد سؤالاً واحداً لماذا لا يمكن أن أعيش في وطني حياة كريمة؟
سؤال آخر: أليس الشعب شريكاً للنظام في غياب الحياة الآدمية؟ أعنى أننا كمحكومين شركاء في الجريمة وشركاء في هذا الهوان، وأن كل منا لو فعل ما عليه لحصلنا على جزء كبير من الحياة الكريمة الغائبة.
ملاحظة:
تعمدت ألا أذكر تفاصيلاً أخرى: كدقة تفاصيل عقد الصفقات ولو كان مندوب المصنع في العاشرة من عمره أو كهلاً فوق المائة، كما تعمدت عدم ذكر سهولة الحصول على الشكل والجودة والسعر والتوقيت المناسب، وتعمدت عدم ذكر فضائح كثير من المستوردين الذين لا يبحثون إلا عن الرخيص ولو كان من النفايات، كما أغفلت ذكر الدقة في المواعيد والوعود وتفاصيل النظافة والبساطة والتواضع وحسن المعاملة حتى لو لم تقم بالشراء، كل ذلك تعمدت ألا أذكره حفاظاً على مشاعر إخواني، وحتى لا تأكل الحسرة قلوب الخلق الذين يتلفتون حولهم فلا يجدوا سلوى إلا أن يقولوا: لا عيش إلا عيش الآخرة.
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
خالد الشافعي
داعية مصري سلفي
- التصنيف: