ماذا جرى ويجري في السودان ؟
إن مساحة السودان الواسعة واكتشاف النفط وغيره من المعادن جعل الأطماع تتجه إليه، اقتصادية وسياسية، وبوابة هذه الأطماع هي مشكلة الجنوب ثم جاءت مشكلة دارفور لتتفاقم الأمور على حكومة الإنقاذ ويزداد التضييق عليه، فما الذي جرى حتى وصلت السودان إلى ما هي عليه
يمثل السودان العمق الاستراتيجي العربي الإسلامي في القارة الإفريقية؛
وذلك لمجاورته لكثير من دول إفريقيا.
إن مساحة السودان الواسعة واكتشاف النفط وغيره من المعادن جعل الأطماع
تتجه إليه، أطماع اقتصادية وسياسية، وبوابة هذه الأطماع هي مشكلة
الجنوب ثم جاءت مشكلة دارفور لتتفاقم الأمور على حكومة الإنقاذ ويزداد
التضييق عليه، فما الذي جرى حتى وصلت السودان إلى ما هي عليه
الآن؟!
في عام 1989م قامت الحركة الإسلامية (الجبهة الإسلامية القومية)
بانقلاب عسكري أطاح بالحكومة المدنية التي يرأسها الصادق المهدي، وسمي
هذا الانقلاب بـ( ثورة الإنقاذ)، والحركة الإسلامية في السودان تطورت
وانتقلت من (الإخوان المسلمين) إلى جبهة الميثاق الإسلامي، ثم الجبهة
الإسلامية القومية.
في السنوات الأولى من الانقلاب قَبِل الرئيس عمر البشير أن يكون جزءًا
من مجموعة اتخاذ القرار التي يترأسها حسن الترابي، بل إن بعض القرارات
المهمة كانت تصنع من وراء ظهر البشير؛ لأن الحلقات التنظيمية التي
يقودها الترابي كانت تتخلل كل مرافق الدولة، ولا يدري البشير عنها
شيئًا. ثم كان الخطأ الكبير التي وقعت فيه هذه الجبهة هو أنها حلَّت
نفسها لتذوب في حزب المؤتمر الوطني، ليصبح هذا المؤتمر هو الكيان
الجامع لأهل السودان كما كان يخطط له، وكان هذا الحل بإشارة من
الترابي قدمه قربانًا للسلطة؛ لأنه يريد الانفراد بهذا الحزب وإبعاد
(رفقاء الدرب) شيوخ الحركة الإسلامية حتى لا يكون لهم دالة عليه وعلى
الحكومة، ولا ينغصون عليه مشاريعه وآراءه (ونحن هنا نتكلم عن الترابي
السياسي ولا نتكلم عن شذوذاته الكثيرة والكبيرة في العقيدة والفقه).
جمع الترابي هؤلاء الشيوخ في منزله وشكرهم على جهودهم، ثم أعطى كل
واحد منهم مصحفًا، وهذا يعني أن يجلسوا في بيوتهم ولا يشاركوا في
القرار.
الأصل أن تكون الجبهة أو الحركة هي الحاضنة للحكومة أو عصبيتها بتعبير
ابن خلدون، وأن يبقى مشروعها الدعوي التربوي، وتفرز القيادات التي
تساعد الحكومة، هذا هو الشيء النظري، وإن كانت الأمور لم تسر كما يجب
لا من ناحية الجبهة ولا الحكومة.
وإذا كانت الجبهة حلت نفسها، فإن بقية الأحزاب والتكتلات لم يحلوا
أنفسهم، وسيدخل بعضهم في المؤتمر الوطني ويزاحمون المؤسسين، وستذوب
الحركة في المؤتمر ومشاكله السياسية والإدارية، وفي مثل هذه الأحوال
فإن أعضاء الحركة الذين يشكلون الجسم الأساسي في المؤتمر الوطني
سيحاولون التخفف من البرنامج الإسلامي لإرضاء الآخرين.
كانت طريقة الترابي الاستحواذية ومحاولته جمع كل الخيوط بيده، وإبعاد
الكبار رفقاء الدرب أحد الأسباب التي جعلت بعض قياديي الجبهة يقدمون
مذكرة لإصلاح الأوضاع، والحد من هيمنة الترابي وإعطاء البشير
الصلاحيات التي يجب أن تكون له، واستطاع هذا الفريق من قياديي الجبهة
تطبيق ما يريدونه، وبعد أن فَقَد الترابي موقعه من رئاسة البرلمان
المحلول انتقل إلى موقعه كأمين عام للمؤتمر الوطني، وسعى إلى معركة
ساخنة مع البشير لعل الأخير يستقيل. ونسي أن السلطة التنفيذية تملك في
العادة من الوسائل ما تتغلب به على خصومها، ووجد نفسه أخيرًا لا
يستطيع دخول البرلمان.
ولكن الترابي ليس من النوع الذي يقبل بأن يجلس في منزله، ويراجع نفسه
وأخطاءه، ويترك المناصب التنفيذية التي تقود إلى الاحتكاك والعراك؛
ولذلك أسس حزبًا آخر باسم المؤتمر الشعبي، وبدأ يناكف الحكومة
والمؤتمر الوطني؛ فيتصل بالحركة الشعبية في الجنوب التي يقودها جون
قرنق، ويتصل بالمتمردين في دارفور. ولذلك ضعف وزن الجبهة في الداخل؛
لأن كل فريق يحاول أن يتقوى بالآخرين ضد إخوانه، مهما كان ذلك بعيدًا
عن القيم الإسلامية.
يصف أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم الدكتور الطيب زين
العابدين شخصية الترابي، فيقول: "كان هذا هو منهج الشيخ في مراحل
مختلفة، أن يستعين دومًا على خصومه أو منافسيه بفئة تكون أصغر عمرًا
وأكثر حركة ونشاطًا، وتتمتع بطموحات عالية وسذاجة سياسية".
ومن أساليب الترابي أنه ينشئ عند الحاجة قطاعات معينة، ويضع لها
دستورًا، ويختار هو المسئولين عنها ليبعدهم عن القرار، ولذلك عندما
شعر بكبر حجم نائبه في التنظيم علي عثمان طه دفع به إلى الوزارة؛
ولذلك قام نائبه بالانقلاب عليه (هو الذي علمهم الانقلابات). والترابي
كان يريد من البشير أن يكون محمد نجيب السودان، أي أن يكون واجهة فقط.
"والحقيقة أن أحد الأسباب الرئيسية التي أفقدت الترابي عددًا كبيرًا
من قيادات الحركة الإسلامية هو مقدرته الفذة في تسفيه آرائهم،
والسخرية من مقدراتهم، ويحلو له أن يفعل ذلك أمام جمع من الناس ".
وهذا ما أدى إلى انحياز أغلب القيادات بما فيهم تلاميذ الترابي إلى
جانب السلطة، وكانت ردة الفعل عنده أن تحالف مع أشد الناس عداوة
للحركة الإسلامية.
ورغم هذا الانشقاق الداخلي، ورغم الضغوط الخارجية من الدول الغربية
ومن بعض الدول العربية التي لا يعجبها النفس الإسلامي وتخشاه؛ فإن
ثورة الإنقاذ استطاعت الاستمرار، وفي البداية استطاعت أن تهزم الحركة
الشعبية الجنوبية التي أنهكت الدولة في السودان منذ عام 1955م،
استطاعت ذلك بالزخم الإسلامي والاندفاع الإسلامي من جيل الشباب.
لم تكن الحركة الشعبية بقيادة (جون قرنق) تخطط للانفصال، ولكن للسيطرة
على كل السودان وبمساعدة بعض الشماليين من أحزاب المعارضة لتكون دولة
علمانية اشتراكية، ويتنازل الشمال عن هويته العربية الإسلامية.
وكذلك اتخذت حكومة الإنقاذ في بداية عهدها برنامجًا اقتصاديًّا واضحًا
يقوم على تشجيع الإنتاج الزراعي، ووسعت قاعدة التعليم العالي، إذ فتحت
سبع جامعات جديدة في الأقاليم، وتبنت الحكومة سياسة تعريب المناهج
وحاربت مظاهر التفسخ الأخلاقي.
حكمت السودان الجبهة القومية الإسلامية باسم حكومة الإنقاذ محاولة
صياغة تجربة جديدة ونظام سياسي جديد خاصة، وأن السودان حكمته بعد
استقلاله أنظمة ليبرالية وعسكرية لم تعطه الاستقرار، ولم تتجاوب مع
رغبة الأكثرية في تطبيق الإسلام (عدا عن محاولة النميري التي لم تكتمل
وربما لم تطبق بالطرق الصحيحة)، فهل نجحت الجبهة في مشروعها؟
لا شك أن الآمال والتنظير لا يوافق عادة الواقع العملي عندما تشتبك
الحكومة مع مشاكل الناس، أو تحاول توقي الضغوط الخارجية، وطبيعي أن
رجال الجبهة الذين هم من أسس السلطة التنفيذية سيقولون هذا الشيء،
ويقدمون شتى الأعذار عن التقصير والواقع... ولكن هناك ثغرات كبيرة كان
يجب ألاَّ تقع فيها حكومة الإنقاذ مثل محاباة الأتباع في التوظيف
والترقي، والذي يحرمهم من أهل الكفاءة الذين هم على دين وخلق،
ويتمتعون بحصيلة جهود وخبرات. وكذلك اعتماد الحكومة المبالغ فيه على
الأمن والاعتقالات غير المبررة؛ فالملاحظ أن تجربة الحكومات السابقة
تدل على أن الاستماع للرأي المخالف وخاصة من أهل العلم والدعوة يعطي
مزيدًا من الاستقرار والاطمئنان، ويتكتل الناس حول الدولة.
لم تستطع الحكومة إعطاء مشكلة دارفور الاهتمام الذي ينبغي لها قبل أن
تتفاقم الأمور وتصبح مشكلة دامية مثل مشكلة الجنوب، ويستغلها الغرب
ليحاصر السودان، ويعطي المبررات لدخول عشرات الجمعيات التنصيرية باسم
الجمعيات الخيرية. فالحكومة أخطأت عندما انحازت إلى أحد أطراف النزاع
في دارفور، وتجاهلت عناصر أخرى ضرورية لحل النزاع.
إن مشكلة دارفور لا تحل بمؤتمرات صلح بين القبائل، أو بتعيين بعض
أبناء دارفور في مواقع المسئولية؛ إذ الواقع أن الحكومة تتجاهل البعد
السياسي للمشكلة، وهو المشاركة الفعلية في الحكم وإصلاح المنطقة
وتنميتها. وأما مشكلة الجنوب فهي أخطر وأعظم، والغالب أن الجنوب يسير
نحو الانفصال، وقد ارتكبت حكومة الإنقاذ (تلاميذ الترابي) خطأ فادحًا
حين ظنت أن المشكلة تحل عن طريق المناورات السياسية، أو كسب بعض
الانتهازيين من ساسة الجنوب. إنه استهتار بالخصوم وهذا من علامات
الفشل السياسي (غياب الرؤية)، وإن انسحاب الجيش السوداني قبل إجراء
الاستفتاء لا يدل على حصافة سياسية. ومن الواضح أن أمريكا والغرب
يدعمان انفصال الجنوب، فلماذا لم يُتنبه إلى هذه القضية؟ هل الذي خطط
ووقع على اتفاقية (نيفاشا) المشئومة لا يعرف كيف يفكر الغرب؟!
وأخيرًا، لا بد من السؤال الأهم: لماذا لم ينص الدستور على مادة ملزمة
لسيادة الشريعة (والحكومة قامت على مشروع إسلامي) ويبدأ التطبيق لها
ولو تدريجيًّا، وبعد تهيئة الناس والاهتمام بالبنية التحتية؟!
وإذا كان القصد إرضاء الجنوبيين، فهذا لا يوجد في أرقى الدول
الديمقراطية، أعني تغلب الأقلية على الأكثرية. صحيح أن حكومة الإنقاذ
أنشأت بعض الأجهزة التي ترعى حماية الشريعة، وأصدرت عددًا من القوانين
المنبثقة عن تعاليم القرآن والسنة، وتحدثت عن الإسلام الدين الهادي
للسواد الغالب للمجتمع، ولكنها لم تلزم نفسها بمادة دستورية تنص على
سيادة الشريعة الإسلامية، مع أنه كان شعار الحركة قبل دخولها
الحكم.
ويبدو أن ابتعاد الحكومة عن هذه القضايا وعدم اتخاذها قرار الحسم قد
جلب على نفسها وعلى البلاد أخطارًا شتى، ولا يمكن تفسير هذا الموقف
إلا بالخوف غير المبرر من الغرب، والمشكلة تكمن فيما إذا كانت الحكومة
غير مدركة لهذه المخاطر الجسام، ولا تجد الشجاعة الكافية لمواجهتها
ووضع الاستراتيجيات المناسبة لها، وعندئذٍ فإنها ستجد نفسها لا تفقد
السلطة، بل تفقد السودان لا سمح الله.
الخميس، 30 كانون - 1 / ديسمبر 2010 م
محمد العبدة
رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.
- التصنيف: