أحداث تونس: دروس وعبر
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}
الحمد لله وحده، والصلاة، والسلام على من لا نبي بعده. أما
بعد:
فقد شهدت الساحة التونسية خلال الأسبوعين الماضيين عاصفة من الأحداث
المتسارعة، ابتدأت بقيام أحد العاطلين من حملة الشهادات العليا بإحراق
نفسه؛ احتجاجاً على سوء الأحوال المعيشية، والاجتماعية، التي يعاني
منها الشعب التونسي، ومروراً بسلسلة من المظاهرات الجماهيرية، في عدد
من المدن التونسية، جوبهت باستعمال مفرط للقوة من قبل الشرطة، أسفر عن
وقوع عشرات الضحايا، ومئات المصابين، وانتهاءً بالمفاجأة المدوية
المتمثلة بالهرب المهين للرئيس وأسرته، بعد محاولات مستميتة لإطفاء
شعلة الانتفاضة الشعبية العفوية، تارة بالماء، وتارات بالبنزين!
لعل (تخمة) هذه الأحداث، لا تحول دون عملية (التمثيل الغذائي) الذي
يمتص خلاصة التجربة، كما يمتص البدن عصارة الوجبة، ففي الجزء المنظور
من القدر المقدور لهذا البلد العربي المسلم تبدو لنا دروس وعبر،
منها:
أولاً: (الأمن قرين الإيمان): فحيثما استقر الإيمان في القلوب، استتب
الأمن في الأوطان، لقد منيت تونس، بصفة أخص، من بين البلدان العربية،
بسيل جارف من تيارات (التغريب) عموماً، و (الفرنسة) خصوصاً، وأحالها
دعاة العلمنة، واللَّبرلة، إلى (ماخور) دعارة، و(حانة) خمارة،
و(منتجعاً) لفساق العرب، وسياح الغرب، وحاولوا طمس هويتها الإسلامية،
ولم يتحملوا سماع أصوات الإسلاميين، العصرانيين، فضلاً عن السلفيين،
وظن كثيرون أن مرابعها الخضراء، وحدائقها الغناء، وشواطئها الحالمة،
وفنادقها الهائمة، تلحقها بأوربا ذات الرفاهية الاقتصادية، والتيسيرات
المدنية! وصوروها مثالاً يحتذى لوطن عربي متحضر، خالي من التدين،
والإرهاب!
ولكن هيهات! فوراء الأكمة ما وراءها، ولا يجتنى من الشوك العنب، لقد
كشفت الأحداث عن احتقان شعبي، وغليان وطني، لم تفلح مزاعم (الأيدي
الخارجية) في تفسيرها، كما لم تفلح (أيدي البطش) في كبتها وتكبيلها،
ذلك أن فساد الدين يفضي إلى فساد الدنيا، والعكس بالعكس، قال - تعالى
-: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون
بي شيئاً}.
ثانياً: (العدل أساس الملك): إن من سنن الله الاجتماعية أن يبقي
الدولة العادلة، ويفني الدولة الظالمة، ذلك أن (الظلم) آفة تنخر في
جسد الأمة، وسوسة تحل العقد الاجتماعي، فحين يقع الظلم، والأثرة، تجيش
النفوس، وتوغر الصدور، وتفقد الألفة، ويسود سوء الظن، وينجم النفاق،
ويروج سوق الانتهازيين، والمفسدين.
لقد تمتع شرذمة قليلون من مصاصي الدماء، بالناتج القومي لشعب تونس،
واستفردوا بالقرار، وتقاسموا الغنيمة، وتركوا الأكثرية الساحقة تحت خط
الفقر، تشقى بلقمة عيشها، وتبحث عن عمل تسترزق منه، فلا تجد، في حين
يعيش هؤلاء الظلمة، والمنافقون، في القصور الشاهقة، ويستقلون المراكب
الفارهة، ويحيون الليالي الحمراء، غير مبالين بمعاناة أسر، وشيوخ،
وعجائز، وأطفال، ومرضى، وأرامل، فكان من سنة الله الجارية، أن يأتي
الله بنيانهم من القواعد، وأن يخر عليهم السقف من فوقهم.
ولعل مما يفسر لنا استقرار كثير من الدول الكافرة، في أوربا،
وأمريكا، وجود قدر من (العدل) الاجتماعي، الذي تحميه الأنظمة
الديموقراطية، مما يتيح محاسبة المسؤول، بمقتضى النظام، وتساوي الفرص
لعموم المواطنين، فحقق لهم قدراً من الاستقرار العام، وليس الاطمئنان
التام، الذي يمنحه الإيمان، وفي مخزوننا التاريخي، في عهد النبوة،
والخلافة الراشدة، أمثلة رائعة، لا تدانيها أرقى ممارسة بشرية.
ثالثاً: (إن الله يمهل ولا يهمل): بينا ابن آدم في عزه، وسلطانه،
وظلمه، وطغيانه، غير آبهٍ بحق الله، وحق عباده، لا يُري قومه إلا ما
يرى، يطرب لزقزقة المنافقين، ويستروح لمشورة الوصوليين، يخرج على قومه
في زينته، وربما تسمى (زين العابدين)، إذا به تحل به المثلات، وتقرعه
القوارع، ويدركه الغرق، فيقول: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من
المسلمين، يضيق به بلد كان يسرح فيه، ويمرح، ويصول، ويجول، فيخرج يريد
النجاء! فتأبى أرض الله الواسعة أن تؤيه، ويتنكر له قوم كانوا يؤلبونه
على صالحي مواطنيه! فكلما همت طائرته أن تهبط في أرض قيل لها: أقلعي!
حتى ضاقت به الأرض والسماء، لولا أن تداركه الله بلطف خفي، وكرم
عربي.
إن في ذلك لعبرة! ما أحوج ذوي السلطان أن يتملوها، ويتفكروا
فيها.
رابعاً: (ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة): لقد اجتاحت تونس، إثر رحيل
الرئيس، فرحة غامرة، ونشوة عارمة، إثر أيام عصيبة بذلوا فيها المهج،
والأرواح، ولكن ليست العبرة أن يرحل فلان، ويحل فلان، بل العبرة في
تصحيح المسيرة، واجتماع الكلمة، إن أخشى ما يخشاه الناصح الشفيق، أن
تتحول تونس الخضراء، إلى ساحة حمراء، يتقاتل فيها مختلف الفرقاء، كما
جرى في أفغانستان، والصومال، والعراق، ولن يألو عدونا المتربص، في
الجانب المقابل من البحر الأبيض المتوسط، جهداً، أن يوقع العداوة
والبغضاء بين المسلمين، كما فعل في الجزائر، قبل بضع سنين. فحري
بعقلاء القوم، أن يتنادوا إلى كلمة سواء، وأن يتساموا على الحظوظ
الشخصية، والولاءات الخارجية، ويستفيدوا من تجارب غيرهم، ولا يسمحوا
لدهاة الغرب بالتسلل بين ظهرانيهم.
لقد آن الأوان أن ترجع تونس إلى قيادة (عقبة بن نافع)، وتنبذ ولاء
(ساركوزي)، وأن تتحصن بحاضرة (القيروان)، وتنأى عن (باريس)،
و(طهران).
اللهم احفظ شعب تونس من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.واجعل عاقبة
أمرهم إلى خير، واهدهم سبل الرشاد، وولِّ عليهم خيارهم، وقهم شر
شرارهم. آمين...
أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ في قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود
- التصنيف: