إبطال الاحتجاج بحديث فتح القسطنطينية على صحة مذاهب المبتدعة
ومن المتَّفق عليه: أن الجيش الذي يقوده النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكون جنده من الصحابة - رضي الله عنهم - هو خير جيشٍ وُجِدَ في الدنيا، وهو خيرٌ من الجيش الذي فتح القسطنطينية، وهو أوْلى بالثَّناء منه، ومع ذلك وُجِدَ فيه مَنْ غَلَّ من الغنيمة، ومَنْ قتل نفسه؛ بل كان فيه منافقون يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن هذا الجيش كان محلَّ مدحٍ وثناءٍ في الكتاب والسنَّة، ولا يلزم من ذلك مدح المنافقين الموجودين فيه، أو مدح أهل الغُلول، أو مَنْ قتل نفسه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
احتج بعض المبتدعة بفتح العثمانيين للقسطنطينية على أن الأشاعرة أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح؛ وذلك أن المذهب الأشعري هو المذهب السائد في الدولة العثمانية، وقد زكى النبي -صلى الله عليه وسلم- الجيش الذي يفتحها، ومدح أميره؛ كما جاء في حديث عبد الله بن بشر الغنوي عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لتفتحن القسطنطينية، فلَنِعْمَ الأمير أميرها، ولَنِعْمَ الجيش ذلك الجيش}؛ رواه أحمد (4/335)، والحاكم وصححه (4/422)، والطبراني في الكبير (2/38)، برقم: (1216)، و(2/81) برقم: (1760)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/81)، والصغير (1482).
وممن استدل بهذا الحديث على صحة مذهب الأشاعرة والماتريدية: عيسى بن عبد الله مانع الحميري، في رسالة "تصحيح المفاهيم العقدية، في الصفات الإلهية"، وقد حشاه بجملة من الأباطيل والترهات - ليس هذا مقام الرد عليه فيها.
ومع أنه قرر في رسالته تلك لزوم أخذ كل فن عن أهله؛ فإننا نجده لم يلتزم بهذا المنهج؛ بل راح يدخل في كل فن بلا علم، فرسالته في العقيدة وهو غير متخصص فيها، وراح يصحح ما يشتهي من الأحاديث، ويرد تضعيف أهل الحديث لها، وهو ليس من أهل الحديث، ومن ذلك: تصحيحه لهذا الحديث، ولم يُجِبْ عن الاضطراب الوارد في اسم مَنْ رواه، واسم أبيه ونسبهما؛ كما سيأتي ذكر ذلك.
وتتمحور رسالته حول إثبات إمامة الإمام أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - ولزوم أخذ مذهبه في الأسماء والصفات، القاضي بإثبات الصفات السبع التي يسمونها العقلية؛ وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، وتأويل ما عداها من الصفات.
وقد نقل الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/6) عن ابن كثير الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى: "أن الشيخ أبا الحسن الأشعري مرت به أحوال ثلاثة:
الحال الأولى: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة.
الحال الثانية: إثبات الصفات العقلية السبعة، وتأويل الجزئية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك وهي مرحلة تأثره رحمه الله بمذهب ابن كلاّب الذي تنسب إليه الطائفة الكلابية.
الحال الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً، وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخر أقوالهم والله أعلم" اهـ.
فيا ليت أن الحميري لما دعا الناس إلى الأخذ بمذهب الإمام أبي الحسن الأشعري - أخذ عقيدته التي استقر عليها أخيرًا، التي نسخت ما سبق من قوله بالاعتزال، ثم قوله بتأويل بعض الصفات، فاستقر به المطاف بعد طول تطواف على مذهب السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان، بإثبات ما أثبته الرب - تبارك وتعالى - لنفسه من الصفات العليَّة، وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، ولكن الحميري - هداه الله إلى الحق - راح ينتقي ما يشتهي، وقَبِلَ من الإمام أبي الحسن الأشعري المرحلة الوسطى التي كانت بين اعتزاله وبين أخذه بمذهب السلف الصالح، التي استقر عليها أمره بعد أن هداه الله تعالى إلى الحق، واستمر عليها إلى وفاته، وبيَّنها في كتابه العظيم: "الإبانة عن أصول الديانة".
ومعلومٌ أن عقيدة الشخص هي: ما استقر عليه أخيرًا حتى مات، والأشعري - رحمه الله تعالى - توفي على مذهب أهل السنة والجماعة، كما أثبتَ ذلك في كتابه "الإبانة".
وقد وقع الحميري ومَنْ كان على شاكلته في هذا المأزق المتضايق، ولم يجد سبيلاً إلى الخروج منه إلا بالتشكيك في ثبوت "الإبانة" عن أبي الحسن، كما في رسالته الآنف ذكرها ص (25)، مع أن كثيرًا من العلماء أثبتوا صحة "الإبانة" إلى أبي الحسن، وعدُّوها من مصنَّفاته، ومن هؤلاء العلماء: ابن عساكر الدمشقي في "تبيين كذب المفتري"، وهو كتاب ألَّفه في الانتصار للإمام أبي الحسن الأشعري؛ حيث قال ص (28): "ومَنْ وقف على كتابه المسمَّى "الإبانة"؛ عرف موضعه من العلم والديانة". والبيهقي في "الاعتقاد، والهداية إلى سبيل الرشاد" ص (31)، والذهبي في "العُلُوُّ للعليِّ الغفار" (160) وابن فرحون المالكي في "الديباج" ص (194) وغيرهم كثير.
فلا مجال للتشكيك في نسبة كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" إلى الإمام أبي الحسن الأشعري؛ إلا عند مَنْ له هوًى في نفسه، وهو يضر نفسه ولا يضر أبا الحسن أو غيره من العلماء شيئًا، ولن يستطيع إخفاء الحق عن كل الناس مهما عمل.
وأما الجواب عن الحديث الذي زعم فيه صاحب الرسالة المذكورة أن فيه تزكية لمذهبي الأشاعرة والماتريدية فمن أوجه كثيرة منها:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف؛ فهو من رواية عبد الله بن بشر الخثعمي، وهو مجهول، لم يوثِّقه إلا ابن حبان، وذكر الحافظ في "تعجيل المنفعة" (1/721) الاختلاف في اسمه واسم أبيه، وفي نسبه؛ فقيل: اسمه عبد الله، وعبيد الله، وقيل: عبيد بلا إضافة، وقيل: اسم أبيه بشير، وقيل: بشر، وقيل في نسبه: الغنوي، وقيل: الخثعمي، والله أعلم.
ولذلك ذكره الألباني - رحمه الله تعالى - في "السلسلة الضعيفة" (778)، وقال: "ضعيفٌ"، ثم ذكر الاختلاف في اسم عبد الله بن بشر وقال: "وجملة القول: إن الحديث لم يصحّ عندي؛ لعدم الاطمئنان إلى توثيق ابن حبان للغَنَوِي هذا، وهو غير الخثعمي كما مال إليه العسقلاني"، والله أعلم.
الوجه الثاني: لو سلَّمنا بصحة الحديث، فلا نسلِّم باستنباط الحميري منه؛ فإنه لا يدلُّ على ما يريد.
الوجه الثالث: على فرض وجود وجه دلالة؛ فقد يحمل على فتح غير هذا الفتح، وهو الذي يكون في آخر الزمان، والأحاديث المتضافِرة في فتح القسطنطينية كلها تذكر فتحًا غير هذا الفتح، والفتح المذكور في هذا الحديث مجمل، والقاعدة: حمل المُجْمَل على المُبَيَّن؛ فيكون المقصود بهذا الحديث هو الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان، خاصةً وأن الجيش الذي يفتحها في آخر الزمان جُنْدُهُ من خيار الناس كما جاء في السنَّة.
ولا يعني ذلك تنقُّص محمد بن مراد العثماني - رحمه الله تعالى - أو عدم الاحتفاء بفتحه للقسطنطينية؛ فإن من أعظم مناقب هذا الفاتح المظفَّر، ومناقب دولته: فتح عاصمة البيزنطيين، التي امتنعت عن كبار القادة الفاتحين، وذلَّلها الله تعالى لمحمد بن مراد.
الوجه الرابع: أنه لا حُجَّة في هذا الحديث لأهل البدع والضلالات؛ إذ الحكم على عوام المسلمين أنهم يعتقدون في الله تعالى الكمال، ولا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات، وما أحدث فيها أهل البدع من ضلالات؛ فالواقع أنهم من أهل السنة، ولو كان مشايخهم يؤولون الصفات، ويحرِّفون نصوصها.
ومن هنا يغلط كثير من الناس، حين ينسبون عوامّ المسلمين في البلاد التي مشايخها على ضلال فيما يتعلق بالأسماء والصفات إلى البدعة؛ لأن ذلك المعتقَد الخاطئ متعلِّق بالشيوخ دون العوامّ.
كما أن عوامَّ المسلمين في البلاد التي مشايخها من أهل السنة والجماعة لا يعرفون تفصيلات الأسماء والصفات، ولكنهم يؤمنون إيمانًا مجملاً بكمال الرب تبارك وتعالى، وأنه مستحقٌّ لكل ما يليق به، بخلاف الشيوخ الضالِّين، ودعاة البدعة.
وما من شكٍّ في أن الجيش العثماني الذي فتح القسطنطينية أكثره من عوامِّ المسلمين، ولربما كان أميره محمد الفاتح كذلك - خاصة وأنه كان حَدَث السنِّ - وليس لديه تفصيلات فيما يتعلَّق بالأسماء والصفات، ولم أقف على مَنْ نقل عنه كلامًا في ذلك؛ فحُكْمُهُ حُكْمُ عوامِّ المسلمين، الذين يعتقدون صفات الكمال في الله - عزَّ وجلَّ.
الوجه الخامس: لو قُدِّر أن الجيش العثماني كله أشاعرة، وأميره كذلك، وعندهم من تفصيلات هذا المذهب ما يجعلهم مبتدِعة مع قيام الحجة عليهم - وذلك مُستبعَد - فإن الحديث لا يدلُّ على صحة مذهبهم؛ لما يلي:
أولاً: أن متعلَّق المدح هو فتح القسطنطينية، وهو عمل طيب، وسعيٌ مشكور، ولا يتعدَّاه إلى غيره.
ثانياً: أن الشخص الواحد تكون فيه حسنات وسيئات؛ فيُثنى على حسناته، وتُذَمّ سيئاته، والفاتح وجيشه - وإن كانوا أشاعرة - فإنهم مجاهدون في سبيل الله تعالى، مُعْلُونَ لكلمته، مُظهِرون لدينه؛ فيُحمدون على ذلك، ويُثنى عليهم به، ولا يَلزم من ذلك عصمتهم من الخطأ، والثناء عليهم من كل وجهٍ، ولا يُستدلُّ بتزكيتهم في الجملة على صحة ما أخطؤوا فيه.
نعم؛ يصحُّ ذلك لو كانت التزكية لعقائدهم - وهو ما لم يكن - ولعل جهادَهم في سبيل الله تعالى، وما قام في قلوبهم من التوكُّل عليه، وصدق التعلُّق به، حتى بذلوا أرواحهم رخيصةً في سبيل الله تعالى، وفَتْحَهم لهذه المدينة العتيدة يكون سببًا في مغفرة ذنوبهم التي منها تمذهبهم بمذهب الأشاعرة، وأخذهم بطرائق المتصوِّفة.
الوجه السادس: أن الجيش يكون خليطًا من القادة والعلماء والعامَّة، وهو خليطٌ من الصالحين ومَنْ هم أقل صلاحًا؛ وأيّ ثناءٍ عليهم فإنه ينصرف للعموم، ولا يَلزم منه الثناء على أعيانهم فردًا فردًا؛ وذلك لتعاونهم على أمرٍ يحبُّه الله تعالى، فيحصل لكل فردٍ منهم من الثناء والتزكية بقدر ما قدَّم في هذا العمل المُزَكَّى.
ومن المتَّفق عليه: أن الجيش الذي يقوده النبي -صلى الله عليه وسلم- ويكون جنده من الصحابة - رضي الله عنهم - هو خير جيشٍ وُجِدَ في الدنيا، وهو خيرٌ من الجيش الذي فتح القسطنطينية، وهو أوْلى بالثَّناء منه، ومع ذلك وُجِدَ فيه مَنْ غَلَّ من الغنيمة، ومَنْ قتل نفسه؛ بل كان فيه منافقون يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن هذا الجيش كان محلَّ مدحٍ وثناءٍ في الكتاب والسنَّة، ولا يلزم من ذلك مدح المنافقين الموجودين فيه، أو مدح أهل الغُلول، أو مَنْ قتل نفسه.
الوجه السابع: أننا لو لم نعتبر كل الأوجه الستَّة الماضية، وسلَّمنا أيضًا بأن جيش الفاتح كلهم أشاعرة وماتريدية؛ فإن قُصارى ما يفيده هذا الحديث: احتمال تزكية عقائد ذلك الجيش، وأنهم على الحق، بينما نصوص الكتاب والسنَّة، وإجماع الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان - تقطع بخطأ الأشاعرة والماتريدية والمتصوِّفة.
فهل تُترك الأدلة المتواتِرة، المقطوع بها ثبوتًا ودلالةً، لمجرد دليل محتَمَل، قد ضَعُفَ من جهة ثبوته؟! وأما من جهة دلالته على المراد؛ فهو أضعف وأضعف؟!
هذا غير مستقيم في المنهج العلمي!! وبناءً على ذلك؛ فليس لأي صوفيٍّ أو أشعريٍّ أو ماتريديٍّ أن يحتجَّ على مذهبه الخاطئ بهذا الحديث، والله أعلم.
الكاتب: د. إبراهيم بن محمد الحقيل.
- التصنيف:
- المصدر: