من ينهي الحكاية - مذكرات مرابطة (21)

منذ 2017-09-09

سلسلة مقالات بقلم المناضلة الفلسطينية هنادي الحلواني، من مرابطات المسجد الأقصى، وقد أسمتها (مذكرات مرابطة).

كواليس_الاعتقال

في اللحظة التي كنتُ أُجَرُّ فيها للتحقيق بلا إنسانيةٍ ولا أدنى احترام والشتائم تصمّ أذنيّ والضرب يتوالى عليّ، كانت قوّةٌ أخرى تقتحم بيتي وتنتهك حرمته، أخرجوا ابنتي وابني "حمزة" الصغير الذي هالَه المشهد وأرعبه تجمهر الجنود حوله يفتشونه ويصرخون به حتى بالَ على نفسه من هول الصدمة وشدة الخوف.

لم يتركوا البيتَ حتى أعاثوا فيه الفساد وقلبوه رأساً على عقب، لم يتركوا زاويةً لم يفتشوها حتى في علب السكر والملح فتشوها وألقوها على الأرض، لم يتركوا غرفةً أو زاوية، فتحوا "سيفون الحمام" وفتشوا داخله، ثمّ خرجوا من البيت وهو في حالةٍ يرثى لها، لتتولى ابنتي التي لم تتجاوز السادسة عشر ولم تتجاوز بعد صدمة اعتقالي تنظيفه وترتيبه!

في اللحظة التي دخلتُ فيها لغرفة التحقيق بعد أن تعرضتُ للتفتيش العاري المُذل، وجدت قرار تمديد اعتقالي لأربع وعشرين ساعةً بانتظاري، واستمرّ تحقيقٌ صعبٌ شاقّ لمدة ساعاتٍ تجاوزت العشر ساعات، تعاقب عليّ فيها عدّة محققين، كلّ واحد منهم بأسلوبه وطريقته ومهارته في إظهار حقده الأعمى على الإسلام والمسلمين.

فواحدٌ يصرخ ويضرب الطاولة، وآخر يشتم بأقذع وأفظع الشتائم، وثالثٌ يكاد المكرُ المُطلّ من عينيه يغرق الغرفة ويفيض، وأخيرٌ يحاول انتزاع اعترافاتي بمعسول الكلام وحلوه ويتفنن بانتقاء كلماته، والمحقق الرئيسيّ يتابع كلّ ذلك من خلف شاشة الحاسوب الذي يكتب عليه مجريات التحقيق ويتدخل بغلظةٍ بين الحين والآخر .

كان التحقيق الطويل حول تهمةٍ ساذجةٍ أنكرتها حتى نهاية التحقيق "انضمامي لتنظيم المرابطين المحظور"، أيّ تنظيمٍ ذاكَ الذي تتحدثون عنه، ثمّ أصبحوا يعرضون لي فيديوهاتٍ قديمة وحديثة، كفيديو "أخت المرجلة" بحجة أنني لو لم أكن أقود جموع المرابطات في تنظيمهن المحظور لما ظهرت صورتي في الفيديو!

ثم فيديو آخر لقصتي كمرابطة مدته تتجاوز العشرين دقيقة، كلّما أنكرتُ شيئاً أعادوه لي كاملاً وهم يقولون ها أنتِ تعرّفين عن نفسك بأنك مرابطة، انظري لابنك ها هو اعترف عنكِ ويقول انه ابن المرابطة، وأنا أحاوى عبثاً نقاشهم أنّ الرباط ليس تنظيماً إنما لفظةً كرمنا الله تعالى بها في قوله: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " هل تجرّمون آية في قرآننا العظيم؟؟! ، فيقول نعم أعرف هذه الآية لكنك تنتمين لتنظيم المرابطين المحظور ، وأنا أنكر !

وأخذوا يتحدثون إليّ عن أبنائي ليشعروني أنهم يعرفون عني حتى أكثر مني ! فيقولون نعرف ابنتكِ هي تحفظ القرآن وأنتِ من دفعتها لذلك ، ابنكِ الأصغر أنت من دفعته للأقصى وعلّقته به !

انتهى التحقيق لليوم الأول، كبلوا يديّ وقدميّ بالأصفاد والحديد ونقلوني لبوسطة السجن المغلقة من كل جانب برفقة جنديّ يراقبني! حتى وصلتُ سجن الرملة دون أن أعلم أن الغالية "سحر النتشة" تقبع في ذات السجن أيضاً.

أوصلوني لغرفة عزلٍ انفراديّ نتنةٍ باردة أشبه بقبرٍ حقيقيّ مغلق كما وصلتهم التوصية عليّ، غرفةٌ معتمة ، الحشرات وبيوت العنكبوت في كلّ مكان، الصراصير تتسابق على أرضية الزنزانة وجدرانها، ورائحة الرطوبة تزكم أنفي، أدرتُ نظري بالزنزانة فوجدت مصطبة مرتفعة بعض الشيء عليها فراش رطب مبلول لأقضي ليلتي عليه، وغطاء أكاد أجزم أنه لم يتم غسله مطلقاً منذ استخدامه الأول، وفي زاوية الزنزانة مكانٌ لقضاء الحاجة يقطعون المياه عنه أغلب اليوم مكراً واستفزازاً وإذلالاً .

اقتربت من فراشي الذي سأبيتُ ليلتي عليه وأنا أنوي أن أجعل من ليلتي هذه ليلةً مميزة، أختلي بها مع الله سبحانه أناجيه فيمدني بالصبر والعون والثبات، كانت الغرفة قبراً حقيقياً دفعني لأن أستذكر سؤال القبر بين يدي الله سبحانه حين يسألنا فيمَ أضعنا الأقصى؟ وبأي شيء استبدلناه، وكيف لأمة المليار أن تضيع أمانة نبيها صلى الله عليه وسلم!

بقيتُ بين الأفكار والمناجاةِ والدعاء طوال الليل حتى طلع النهار الذي لم أرَ نوره من قبري المظلم الذي حبسوني فيه، وجاء الجنديّ لتقييدي واصطحابي للتحقيق مرةً أخرى !

يتبع....

المقال السابق
مذكرات مرابطة (20)
المقال التالي
مذكرات مرابطة (22)