إمام الدنيا المسكين

منذ 2017-10-08

قال الذهبى وابن كثير : حفظ الإمام أحمد بن حنبل ألف ألف حديث أي مليون حديث سبحان الله! إمام الأئمة، الذي يحفظ ألف ألف حديث، كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث؛ ومع ذلك يؤجر نفسه من الحصَّادين، فيحصدُ معهم، ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية، وكتبها، كان يسهر الليل حتى الفجر، ويصوم النهار حتى الغروب.

إنه الإمام أحمد بن حنبل إمام الدنيا المسكين الكثير يعرف ثباته فى المحنة لكن كثيرون لا يعرفون الآتي:

ولد الإمام أحمد بن حنبل في آخر القرن الثاني، وعاش في بيت فقير، مات أبوه وهو طفل، فتكفَّلت أمه الزاهدة العابدة الصائمة وهى صاحبة دور كبير فى حياة الإمام أحمد.

يقول الإمام أحمد رحمه الله: حفَّظَتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، وكانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا أبن عشر سنوات، وكانت تختمر وتتغطى بحجابها وتذهب معه إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد؛ ولأن الطريق مظلمة.

انظر إلى هذه المرأة الصالحة ورعايتها وتوجيهها لأبنها كى يكون عبدا لله صالحاً، فلم توجهه للعب ولا تركته ينام لأنه طفل يتيم بل تختمر وتخرج لصلاة الفجر معه..

ويقول الإمام فلما بلغتُ السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، سافر فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد.

وهنا وقفة... ماذا اعطته لسفره وهم فقراء توقف وتدبر صنعت له ما يقارب عشرة من أرغفة الشعير، عشرة من الأقراص اليابسة، ووضعتها في جراب من قماش وأعطتها إياه، ووضعت معه صُرَّة ملح وقالت: يا بني إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه أبدًا، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، (الله اكبر ما اعظم الايمان والتوكل على الله).

فذهب من عندها من بغداد، وكانت وقتها عاصمة الدنيا وأين ذهب الإمام لم يذهب للسياحة واللعب وهو فتى فى بداية فحولة شبابه بل ذهب يقطع الصحارى والفيافى وزاده عشرة أرغف وصرة ملح ليطلب علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 ِسافر الإمام رضي الله عنه وأرضاه.. وهنا يقول: مضيتُ من بغداد إلى مكة، فضِعْتُ في الطريق ثلاث مرات  ياالله فماذا فعل؟ وليس معه بوصلة ولا جى بى إس ولا دليل .

يقول الإمام؛ فكنت كلما ضِعتُ استغفرت الله ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين دلّني، قال: فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليلُ الحائرين على الطريق!!

دليل الحائرين؟ إنه الله الخالق البارىء رب السماوات والأرض والانس والجن، تاه فى الطريق الإمام أحمد؛ ولكن الله لم يضيعه، هداه إلى الطريق؛ لأنه توجه إليه بالدعاء واحفظ الله يحفظك، فلما حفظ الله، حفظه الله في طريقه .

ثم وصل الإمام إلى مكة، فأخذ حديث مكة، وبعدها سافر إلى اليمن، إلى صنعاء اليمن إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث، وبينما هو في طريقه، ضاع مرة رابعة، قال: وإنتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجَّرت منهم نفسي ثلاثة أيام.

هنا نتوقف إنه الإمام أحمد بن حنبل... قال عنه الذهبى وابن كثير حفظ ألف ألف حديث أي مليون حديث سبحان الله!  إمام الأئمة، الذي يحفظ ألف ألف حديث، كما يقول الذهبي وابن كثير، يحفظ مليون حديث؛ ومع ذلك يؤجر نفسه من الحصَّادين، فيحصدُ معهم، ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية، وكتبها، كان يسهر الليل حتى الفجر، ويصوم النهار حتى الغروب.

قال ابنه عبد الله: كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة!! انظروا تذكرة الحُفَّاظ للذهبي، وسِيَر أعلام النبلاء له أيضًا، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، كلها أجمعت على أنه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام.

وصل إلى صنعاء، فقُدِّم له جوائز من السلطان ومن الأغنياء، فرفض وأبى، وقال: أعمل بيدي، فاشتغل في بعض الصناعات بيده، حتى أعطاه الله بعض الأسباب، وبعض النقود، ثم عاد إلى بغداد.

فعَلَّمَ الله الإمام أحمد فحفظ ألف ألف حديث مع القرآن، مليون حديث يستحضرها متى شاء، وقد كتب "المسند" من حفظه، أربعين ألف حديث أكبر مسند في الدنيا، هو بين أيدينا ولكن مَنْ يقرأ "المسند"؟ ويعرف قيمته من شباب الأمة الآن.

أفتى الإمام أحمد في ستين ألف مسألة، وكان حجته فيها: قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكتاب والسنة وقد ذم الإمام المنطق، وذمَّ الرأي، وذمَّ الفلسفة والجدل، وقال: نحن قوم مساكين لم يأمرنا الله عز وجل بذلك.

كان الإمام نموذج فى التواضع ... قال بعض الحفَّاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وأهل الدكاكين دكاكينهم، وتوقف المارة في طريقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب فهزَّ يديه، وإحمرَّ وجهه، ودمعت عيناه، وقال: نحن قوم مساكين، ولولا ستر الله لافتضحنا.

أنت يا إمام السنة مسكين تخشى ان تفتضح!! فما بال المغرورين بالدنيا من مشايخ الريالات كيف فضيحتهم؟

أتى رجل يمدح الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: أُشهد الله أني أمقتك على هذا الكلام، والله لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحسوت على رأسي بالتراب!!

قارن بين امام السنة ومشايخ القنوات وطربهم من المدح وغضبهم وثورتهم من أي نقد لهم .

جاءه قوم فقالوا: يا أحمد بن حنبل، إن الله قد نشر لك الثناء الحسن، والله إنا نسمع ثناءك في كل مكان، حتى في الثغور مع الجيش وهم يقاتلون العدو، يدعون لك وقتما يرمون بالمنجنيق.

فدمعت عيناه، وقال: أظن أنه استدراج من الله عز وجل.

أما زهده في الدنيا، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه وعنده الملايين، أتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأبى، طولب منه أن يتولى القضاء فامتنع أبدًا، وقال: إن تركتموني وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدًا!! كان دخله كما يقول الذهبي وابن كثير في الشهر: سبعة عشر درهمًا وقال: هذه تكفينا.!!!

قال أبناؤه: يا أبتاه ما تكفينا هذه، قال: أيام قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله الواحد الأحد!!

يقول ابنه عبد الله بسند صحيح إليه: "بقيت حذاء أبي في رجله ثمان عشرة سنة، كلما خرمت خصفها بيده"، تخيل إمام الدنيا حذاءه 18 سنة كلما خرم حذاءه يخيطه وشيوخ الريالات يغير حذاءه فى اليوم 4و 5مرات بلون مختلف!

أرسل له الخليفة المتوكل ثمانية أطقم من الذهب والفضة حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة، فردَّها وقال: والله لا يدخل بيتي منها درهمٌ ولا دينار.


كان الإمام من أحسن الناس خُلُقًا:

يقول الإمام أحمد: رحم الله أم صالح - يعني زوجته وقد توفيت - صاحبتني ثلاثين سنة، والله ما اختلفت أنا وإيَّاها في كلمة واحدة.

زوجته في بيته، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة.!!!

أتاه رجل من أتباع السلطان المعتصم، فَسَبَّ الإمام أحمد أمام الناس وشتمه وانتقصه أمام الجماهير، فقال الناس: يا أبا عبد الله، يا أحمد، رُدَّ على هذا السفيه، قال: لا والله، فأين القرآن إذن؟! يقول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان: 63].

كان يجلس الناس إليه رضي الله عنه وأرضاه فيتعلمون منه، وينظر إليهم، قال ابنه عبدالله: دخلتُ على أبي وهو جالس في البيت متربع مستقبِل القبلة، ودموعه تنهمر على خديه، فقلت: يا أبتاه، ما لك؟

قال: تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله، قال: فأراك متربعًا، لماذا لا تتكئ وتريح نفسك لأنه شيخ كبير قال: أستحيي أن أجالس الله وأنا متكئ.

دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين، قال: ما هما؟ قال: قول الأول:

                                     إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يومًا فلا تَقُلْ        خَلَوْتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
                                     ولا تحسبَنَّ الله يغفُل ساعةً              ولا أن ما تُخْفي عليه يغيبُ


فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده، وقام وأغلق على نفسه بابًا، وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله قد سمعنا بكاءه من وراء الباب وهو يردد البيتين.

ونتوقف وقفة هامة مع أمنيته التى ضج بالبكاء لعدم تحقيقها ... كان يتمنى الإمام أكبر الأمنية في حياته... أن يتقدم الصفوف مجاهدًا في سبيل الله، نظر إلى قدميه وقت الوفاة وبكى، وقال: يا ليتها جاهدت في سبيل الله. يا ليتها جاهدت فى سبيل الله ويبكى رضى الله عنه .

لكن الجهاد وقتها فرض كفاية، والإمام والله جاهد فى فرض العين جهادًا من أعظم الجهاد، بعلمه، وبذله ونفسه وتضحيته وصبره  فكان إمام الدنيا بحق.

 قال يحيى بن معين: والله ما رأيت أحدًا كأحمد بن حنبل، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام.

وقال علي بن المديني: لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل كان نبيًا من الأنبياء.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله خرجتُ من بغداد وسكانها ألفا ألفٍ - يعني مليونين اثنين - فوالله ما خلّفتُ رجلاً أتقى لله وأعلم بالله وأزهد لله وأورع أن تنتهك محارم الله، ولا أحب إليَّ من أحمد بن حنبل.

رحم الله الإمام أحمد وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به فى الفردوس الأعلى