شرح حديث: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة
هذا الحديث حديث جليل، يحتوي على علوم فيها الحث على التقوى، والسمع والطاعة في غير معصية، والإخبار عن اختلاف الناس في المستقبل، فيلزم من ذلك التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، وترك البدع المضلة.
عن أبي نجيحٍ العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ»؛ رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ترجمة الراوي:
العرباض بن سارية السلمي، يكنى أبا نجيح، روى عنه ابنته أم حبيبة، وعبدالرحمن بن عمرو السلمي، وجبير بن نفير، قال الذهبي: قال عتبة بن عبد: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض بن سارية، فبايعناه.
وقال محمد بن عوف: منزله بحمص عند قناة الحبشة، وهو وعمرو بن عَبَسَةَ كل منهما يقول: أنا ربع الإسلام، لا يدرى أيهما أسلم قبل صاحبه، قال الذهبي: لم يصحَّ أن العرباض قال ذلك[1].
وعن شعبة عن أبي الفيض، سمع أبا حفص الحمصي يقول: أعطى معاوية المقداد حمارًا من المغنم، فقال العرباض بن سارية: ما كان لك أن تأخذه، ولا له أن يعطيك، كأني بك في النار تحمله، فرده، قال أبو مسهر وغيره: توفي العرباض سنة خمس وسبعين[2].
منزلة الحديث:
♦ هذا الحديث حديث جليل، يحتوي على علوم فيها الحث على التقوى، والسمع والطاعة في غير معصية، والإخبار عن اختلاف الناس في المستقبل، فيلزم من ذلك التمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، وترك البدع المضلة[3].
♦ وقد اشتمل على وصية أوصاها الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه وللمسلمين عامة من بعده، وجمع فيها التقوى لله عز وجل، والسمع والطاعة لأئمة المسلمين، وفي هذا تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، كما أوصى الأمة بما يكفل لها النجاة والهدى إذا اعتصمت بالسنة، ولزمت الجادة، وتباعدت عن الضلالات والبدع[4].
♦ قال ابن العطار رحمه الله: هذا الحديث معجزةٌ وعَلَمٌ من أعلام النبوة[5].
غريب الحديث:
♦ موعظة: هو التذكير بالعواقب.
♦ وَجِلَت: خافت.
♦ ذرفت: سالت.
♦ الراشدين: جمع راشد، وهو من عرف الحق واتبعه.
♦ النواجذ: جمع ناجذ، وهو آخر الأضراس.
♦ محدثات الأمور: هي الأمور المحدثة في الدين وليس لها أصل في الشريعة، وهي مذمومة.
♦ ضلالة: بعد عن الحق.
شرح الحديث:
«وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً» الوعظ هو التذكير المقرون بالترغيب أو الترهيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، ولا يكثر عليهم؛ مخافة السآمة.
«وجلت»؛ أي: خافت.
«منها القلوب وذرفت»؛ أي: سالت «منها العيون» بالدموع.
«فقلنا: يا رسول الله، كأنها»؛ أي: تلك الموعظة «موعظة مودعٍ، فأوصنا»؛ أي: وصية كافية جامعة لمهمات الدين والدنيا.
«قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل» وتقوى الله: اتخاذ وقاية من عقابه؛ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا هو حق الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» [النساء: 131].
«والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ» قال ابن دقيق العيد: يعني لولاة الأمور، وإن تأمر عليكم عبد، وفي بعض الروايات: عبد حبشي، قال بعض العلماء: العبد لا يكون واليًا، ولكن ضرب به المثل على التقدير وإن لم يكن؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجدًا كمَفحَص قطاة، بنى الله له بيتًا في الجنة))[6]، ومَفحَصُ القطاة لا يكون مسجدًا، ولكن الأمثال يأتي فيها مثل ذلك، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتى توضع الولاية في العبد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا؛ تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته؛ لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة[7].
وقال ابن العربي رحمه الله: والذي عندي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتى توضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا؛ تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته؛ لئلا يغير ذلك فيخرج منه إلى فتنة عمياءَ صماءَ، لا دواء لها، ولا خلاص منها[8].
والسمع والطاعة هنا ليسا على الإطلاق، بل هما مقيدان بما كان وفق كتاب الله وسنة رسوله؛ كما في الحديث: «ما أقام فيكم كتاب الله»[9]، ولحديث: «إنما الطاعة في المعروف»[10]، ولحديث: «ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[11].
«فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا» هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات، وهذا موافقٌ لما ثبت عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة، وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كان عليه أصحابه؛ ولذلك قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»؛ أي: الطريقة القويمة التي تجري عليها السنن، وهي السبيل الواضحة، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين يعني الذين شملهم الهدى، وهم الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
وأمره صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين: أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر، والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة؛ قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
«عضوا عليها بالنواجذ»، وهو آخر الأضراس التي يدل نباتها على الحلم، فمعناه: عضوا عليها بجميع الفم، ولا يكون تناولها نهسًا، وهو الأخذ بأطراف الأسنان، وضرب مثلًا لذلك العض بالفم؛ لأنه مبتدأ الأكل، وقد يضرب ذلك مثلًا في العلم بالدين والعمل به؛ ففي الصحيح: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا...))[12]، وهو أيضًا كناية عن شدة التمسك بها؛ لأن النواجذ محددة، إذا عضت شيئًا نشبت فيه فلا يكاد يتخلص.
«وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ» قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: (كل بدعة ضلالة)، والمراد ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة هذه! وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة، وروي أن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسنٌ، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصولٌ من الشريعة يرجع إليها، فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعاتٍ متفرقةً ووحدانًا، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلةٍ، ثم امتنع من ذلك معللًا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمِنَ بعده صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عليه عمل المسلمين، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في التراويح[13].
الفوائد من الحديث:
1- الوعظ والنصح والإرشاد منهاج الرسل وطريق الدعاة.
2- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على موعظة أصحابه؛ حيث يأتي بالمواعظ المؤثرة التي توجل منها القلوب، وتذرف منها العيون.
3- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، وألا يأمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية فلا سمع له ولا طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الطاعة بالمعروف))[14].
4- ظهور آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا))، والذين عاشوا من الصحابة رأوا اختلافًا كثيرًا، كما يعلم ذلك من التاريخ.
5- لزوم التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما عند الاختلاف والتفرق.
6- التحذير من محدثات الأمور، والمراد بها المحدثات في الدين.
7- التحذير من الابتداع في أمور الدين؛ قال عبدالله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: أوصني، قال: عليك بتقوى الله، والاستقامة، واتبع ولا تبتدع.
الكاتب: عبدالعال بن سعد الرشيدي
[1] السير (3/ 421).
[2] السير (3/ 419) تهذيب التهذيب (7/ 174 رقم 340) الإصابة (2/ 473 رقم 5501) أسد الغابة (4/ 19 رقم 3624).
[3] الإلمام (390).
[4] الوافي (210).
[5] شرح الأربعين النووية لابن العطار (210).
[6] رواه ابن ماجه رقم (738).
[7] شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (85، 86).
[8] عارضة الأحوذي (10/ 108 ح 2676).
[9] رواه أحمد (25999) عن أم الحصين الأحمسية رضي الله عنها.
[11] الحاكم في المستدرك (3/ 501 ح 5870) صحيح الجامع الصغير (2/ 1250 ح 7250)، وقال الألباني رحمه الله: صحيح، شرح السنة (10/ 44 ح 2455) مشكاة المصابيح (2/ 1092 ح 3696) عن النواس بن سمعان.
[12] رواه مسلم (34).
[13] جامع العلوم والحكم (2/ 50) عون المعبود (12/ 235 ح 4594).
[14] السنة، للخلال (1/ 109).
- التصنيف:
- المصدر: