عون الرحمن في وسائل استثمار رمضان - (15) الصيام

منذ 2018-04-30

الصِّيام ركنٌ من أركان الإسلام، هو أستاذٌ يعلِّم الرحمة، وينشر المَحبَّة، ويعوِّد التَّضحية والبذل، قيل للأحنف بن قيس - رضي الله عنه -: إنَّك شيخٌ كبير، وإن الصِّيام يُضْعِفك، فقال: "إنِّي أُعِدُّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهوَنُ من الصبر على عذابه".

الوسيلة الأولى: الصِّيام:

 

الصوم مدرسة، تهذيب وتربية، ذُلٌّ وانكسار، الصَّوم لا مِثْل له، خُمول وخشوع، سكينة وانتظار، الصِّيام زكاة النَّفس، ورياضة الجِسم، ودعوة للبِرِّ، هو للإنسان وقاية، وللجماعة صيانة، ففي جوع الجسم صفاءُ القلب، وشَحْذ القريحة، وإنفاذ البصيرة؛ فإنَّ الشِّبَع يورث البَلادة.

 

الصِّيام ركنٌ من أركان الإسلام، هو أستاذٌ يعلِّم الرحمة، وينشر المَحبَّة، ويعوِّد التَّضحية والبذل، قيل للأحنف بن قيس - رضي الله عنه -: إنَّك شيخٌ كبير، وإن الصِّيام يُضْعِفك، فقال: "إنِّي أُعِدُّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهوَنُ من الصبر على عذابه".

 

فالصَّوم حرمانٌ مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوعٌ لله وخضوع، يستثير الشَّفقة، ويحضُّ على الصَّدقة، ويسنُّ خِلال البِرِّ، حتى إذا جاع مَن ألِفَ الشِّبَع، وعرف المُترَف أسباب المُتَع، عرف الحِرْمان كيف يقع، وألَم الجوع إذا لذَع، فرضَه ربُّنا في كتابه، فقال -تعالى-:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وجعل - سبحانه - أفضل الصِّيام صيامَ رمضان، فقال -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

 

فصار هذا الشهرُ لأمَّة الإسلام شهرَ القرآن، وشهر الإحسان، وشهر الرِّضوان، وشهر الغفران، وشهرَ إغاثة اللَّهفان، وشهر التَّوسعة على الضِّيفان، وشهرًا تُفتَّح فيه أبواب الجنان، ويُصفَّد فيه كلُّ شيطان، فإذا صُمْتَ فليَصُم سمعك وبصرك، ولا تجعل يوم صومك كيوم فِطْرِك؛ ففي الصيام: احْفَظ لسانك، ولْيَكثر ذِكْرُك لله، ولْيَظهر على سَمْتِك الخشوعُ والوقار والإخبات، وإيَّاك والمعاصي، فيَفْسد الصِّيام.

 

استشعِر المعاني الإيمانيَّة أثناء الصيام؛ من إقامةِ حاكميَّة الله على النَّفس الأمَّارة بالسوء؛ بالكفِّ عن شهواتها، ومَنْعِها من مَطالبها، وإقامة حُكْم الله عليها، فتعود أمَةً مأمورة غير آمِرة، ومطيعةً غير مُطاعة، وأيضًا كَسْر النَّفس باستشعار ذُلِّ الفقر والحاجة، والضَّعف والفاقة؛ فإنَّ الشِّبَع والرِّيَّ يحملان النَّفس على الأشَرِ والبطَر والغفلة، وكذلك استشعار نعمة الله في المَطْعَم والمشرب، وأيضًا تَخلِّي القلب للفكر والذِّكْر؛ فإن تناول الشهوات يجعل القلب قاسيًا، ويعميه، ويستدعي الغفلة، وخلوُّ البطن من الطعام والشراب يُنير القلب، ويزيل قسوته، ثم إنَّ الصيام يضيِّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في "الصحيحين": «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».

 

ومن آداب الصيام:

 

1- الدُّعاء عند رؤية الهلال في صوم رمضان؛ فقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهِلَّه علينا باليُمْن والإيمان، والسَّلامة والإسلام، ربِّي وربُّك الله»؛ كما في "صحيح المُسنَد".

 

2- الاستعداد للصوم بتَبْيِيت النِّية؛ لأن النية تميِّز صيام العادة عن العبادة؛ فعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من لم يُبيِّت الصِّيام قبل الفجر، فلا صيام ل»؛ والحديث في "صحيح سنن النَّسائي"، وذلك في فرض الواجب في رمضان، أو في قضاءِ رمضان، أو في صيام نَذْر إذا لم يَنْوِه من الليل لم يُجْزِه.

 

وأما صيام التطوُّع، فمباح له أن ينوِيَه بعدما يصبح؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم: «يا عائشة، هل عندكم شيء؟»، فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء! قال: «فإني صائم»؛ رواه مسلم.

 

3- الصوم هو غاية الأدب؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الصوم جُنَّة، فإذا كان أحدكم يومًا صائمًا فلا يَرْفث ولا يجهل، فإنِ امرؤٌ شتَمه أو قاتله، فلْيَقل: إنِّي صائم»؛ والحديث في "صحيح مسند الإمام أحمد"، وقال جابر بن عبدالله - رضي الله عنه -: «إذا صُمْت فلْيَصُم سمعك وبصَرُك ولسانك عن الكذب والمَحارم، ودَعْ أذى الخادم، ولْيَكن عليك وقارٌ وسَكِينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم صومك كيوم فِطْرك».

 

ومعنى الصِّيام لغة: السُّكون، وهو مَطْلب شرعي أيضًا؛ أن يحصل أثناء الصِّيام شيءٌ من السكون والهدوء والانكسار لله -تعالى- وكفِّ طغيان النفس.

 

4- تعجيل الفِطْر؛ ففي "صحيح البخاري" قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر»، فينبغي يا بْن الإسلام أن تُسْرع في الإفطار؛ فبمجرَّد قول المؤذِّن: "الله أكبر" تفطر مباشرةً، ولا تنتظر حتى يتشهَّد، كما يفعل البعض، بل أسرِعْ إلى الخيريَّة بتعجيلك للفطر؛ امتثالاً لأمر نبيِّك - صلَّى الله عليه وسلم.

 

5- أن يفطر على تمرات أو ماءٍ قبل أن يصلِّي المغرب؛ ففي "صحيح سنن أبي داود" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُفْطِر على رُطبات قبل أن يصلِّي، فإن لم تكن رطبات فعلى تَمرات، فإن لم تكن حسا حسواتٍ من ماء".

 

6- الدُّعاء قبل الإفطار؛ فأوقات الإفطار وقبل الأذان بدقائق، لحظاتٌ ثمينة، ودقائق غالية، وهي من أفضل الأوقات للدُّعاء وسؤال الله -تعالى- وهي من أوقات الاستجابة، كما في الحديث الذي رواه البيهقيُّ وصحَّحه الألباني: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصَّائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر»، وأيضًا: «ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم...»، منهم: «دعوة الصَّائم حين يفطر»؛ صححه الألباني، فهل لك - أخي يا بن الإسلام - إلى الله حاجة؟!

 

أبْشِر، مسموحٌ لك في ثلاثين حاجة، سبحان الله العظيم! كم يشتهي الإنسان أشياء تُقضى بدعوةٍ عند الإفطار؛ لأنَّ قبل الإفطار في آخر النَّهار يكون الإنسان في أحسن حالات استِشْعار الانكسار، وإظهار الافتقار، ومدِّ يد الضَّراعة، وبظهور الذُّل والحاجة يستجيب الله دعاء الصائم المسكين.

 

اغتنم الفرصة، واستعِدَّ قبل الغروب بتجهيز كشف المطالب والتبَرُّؤِ من العيوب، واجعل لي نصيبًا في دعائك أيُّها الحبيب المحبوب، ولا تنس أن تجعل من دعائك دعاءً للأمّة جميعًا أن يفرِّج الله عنها جميعَ الكروب.

 

فالعبد الصَّائم مقبِلٌ على الله، منكَسِرة نفْسُه، ولكن - للأسف - راقب هذه اللَّحظات، وستجد الغفلة العجيبة عند كثيرٍ من الناس، سبحان الله! هذه اللَّحظات الغالية أوقات الدُّعاء والاستجابة والتفرُّغ، يغفل عنها أهل التَّوحيد، وكلُّنا بحاجةٍ إلى الدُّعاء وسؤال الله - سبحانه - فاحرص على هذه اللَّحظات ولا تفرِّط، والموفَّق مَن وفَّقه الله - تعالى.

 

7- السُّحور؛ قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمدُ وحسَّنه الألبانيُّ: « السُّحور أَكْله برَكة، فلا تدَعوه، ولو أن يجرع أحَدُكم جرعةً من ماء؛ فإن الله وملائكته يصلُّون على المتسحِّرين».

 

فبالله عليك: هل مثل ذلك الفضل يضيِّعه عاقل؟! واعلم أنَّ لفظة: «إنَّ الله وملائكته يصلون على المتسحرين» صحَّحها الألبانيُّ في "السِّلسلة الصحيحة".

 

والبَركة هي الزيادة والنَّماء، وذلك بِنُزول الخير الإلهيِّ في الشيء، وثبوتِه فيه، وهي جِماعٌ لكلِّ خير، وطريق موصلة لكثرة النِّعم، فلا غرابة بعد ذلك أن نجدَّ في طلب هذه البركة في شهرٍ قال فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «رمضان شهرٌ مبارك» كما في "صحيح الجامع"، وفيه ليلة وصفَها ربُّنا بقوله -تعالى-:  «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» [الدخان: 3]، بل وعمَّت فيه البرَكةُ كلَّ شيء لتشمل حتَّى الطعام.

 

قال الصنعانيُّ: "والبرَكة المشار إليها فيه: اتِّباع السُّنة، ومخالفة أهل الكِتاب؛ لحديث مسلمٍ مرفوعًا: ((فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلة السَّحَر)).

 

قلتُ: ومن البركة التي في السُّحور: صلاة الله وملائكتِه على المتسحِّرين، والسُّحور ما هو إلاَّ إعدادٌ للصِّيام، فما ظنكُّ بالصوم نفسه؟! ومن البركة فيه أنَّه يُعطي القوَّة على الصِّيام وغيره من الأعمال الصالحة أثناء النَّهار؛ فيجد المتسحِّرُ في نفسه نشاطًا يبعثه على أداء الفرائض والنوافل في هِمَّة وعَزْم، ومن البركة فيه إدراكُ وقت السَّحر؛ وهو وقت التنَزُّل الإلهيِّ والاستغفار المبارَك، ومن البركة فيه أنَّه أضمَنُ لترديد أذان الفَجْر مع المؤذِّن، وإدراك الصلاة في وقتها مع الجَماعة، مع ما في ذلك من فضلٍ، ومن البرَكة فيه أنَّ الصائم إذا تسحَّر لا يشقُّ عليه تكرار الصَّوم، بل يشتاق إليه، خلافًا لمن لم يتسحَّر؛ فإنَّه يجد مشقَّة تثقل عليه العودة للصِّيام، ومن البركة فيه أنَّه يكفي فيه القليل، ولو كان جرعة ماء؛ فقد صحَّح الألبانيُّ في "صحيح الجامع" قولَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((تسحَّروا ولو بالماء))، وإن كان: ((نِعْم السَّحور التَّمر))، كما في "صحيح الجامع".

 

فإذا واظبنا على السُّحور استحقَقْنا صلاة الله - وهي الرَّحمة - وصلاة الملائكة - وهي الدُّعاء لنا بالرحمة - فكيف بعد ذلك لا نُرحَم؟! نسأل الله -تعالى- من فضله، واعلم أن السُّحور مندوب إجماعًا، وقد نقله ابن المُنذر فقال: "الإجماع على أن التسحُّر مندوب".

 

فاحرص - أخي يا بن الإسلام - على السُّحور في أيِّ وقت من الليل، ولكن المستحَبّ تأخيرُه؛ ففي "الصَّحيحين" أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يَزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر))، قال الصنعانيُّ: زاد في روايةٍ لأحمد: ((وأخَّروا السُّحور)).

 

قلت: وهذه الزيادة من حديث أبي ذرٍّ، وإسناده ضعيف، ولكن يدلُّ على استحباب تأخير السُّحور ما رواه الطبرانيُّ وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع": ((ثلاثٌ من أخلاق النبوَّة: تعجيل الفِطْر، وتأخير السُّحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة))، وما ورد في "الصحيحين" عن أنسٍ، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنهما - قال: "تسحَّرنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسُّحور؟ قال: قَدْر خمسين آية".

 

ملاحظات، وتنبيهات:

 

ما يظنُّه كثيرٌ من الناس من الامتناع عن السُّحور إذا سمعوا ما عُرف بمدفع الإمساك، أو التواشيح في الإذاعات، لا أساس له من الصِّحة، والصحيح أنَّ وقت الإمساك هو وقت الفجر الصادق.

 

إذا شكَكْت في طلوع الفجر، فلك أن تأكل وتشرب حتى تتيقَّن؛ لقوله -تعالى-: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]، قال رجلٌ لابن عباس - رضي الله عنهما -: إنِّي أتسحَّر، فإذا شككتُ أمسكت، فقال ابن عبَّاس: كُلْ ما شكَكْت، حتَّى لا تشكّ.

 

واعلم أنَّك إذا سمعت الأذان، وطعامُك وشرابك في يدك، فلك أن تأكل أو تشرب؛ وذلك لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا سمع أحَدُكم النِّداءَ والإناءُ على يده، فلا يضَعْه حتَّى يقضي حاجته منه))؛ والحديث رواه أبو داود والحاكم، وصحَّحه الألباني، ومن باب الأمانة أذكر لك - أخي الحبيب - أنَّه قد أخبرني أحد تلامذة الشيخ/ العدويِّ أن الشيخ - حفظه الله - قد ضعَّف هذا الحديث.

 

احرص على أن يصوم معك أهْلُ بيتك، وشجِّعهم على ذلك، واجتَمِعوا على الإفطار والسُّحور.

 

8- اغتنام وقت السَّحَر بالذِّكْر والدعاء وقراءة القرآن؛ فوقت السَّحر وقت النُّزول الإلهي، ولا شكَّ أنك ستستيقظ - إن شاء الله - لتحصيل أجر السُّحور، وامتثال أمر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولكن أين أنت من ركعتين تركعهما في ظُلْمة اللَّيل، تناجي بهما ربَّك؟! فكثيرٌ من الناس عن هذا الوقت المبارك غافلون، وبعض الناس يتصوَّر أنه إذا صلى التراويح مع النَّاس، وأوتر في أول الليل، انتهت صلاة اللَّيل، واكتفى بذلك، وحَرم نفسه من هذه الأوقات الثمينة، والدقائق الغالية، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((يَنْزِل الله كلَّ ليلة إلى السماء الدُّنيا، فيقول: هل من سائلٍ فأُعْطِيَه؟ هل من مستغفر فأغفِرَ له؟ هل من تائب فأتوبَ عليه؟ حتى يطلع الفجر))؛ رواه مسلمٌ، والبخاريُّ بمعناه.

 

وطبعًا أنت أخي لا تعتقد في نزول الله -تعالى- إلا النُّزول الذي يليق بجلاله وعظَمتِه، والذي لا يُماثل نزول المخلوقين؛ لأنه -تعالى- ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، فكذلك ليس كصفَتِه صفةٌ، فأنت تعتقد أن الله يَنْزل إلى السماء الدُّنيا حين يبقى ثلث الليل الآخِر، نزولاً حقيقيًّا يليق بجلاله وعظمته، ولا يُماثل نزول المخلوقين.

 

فاللهَ اللهَ في استثمار السَّحَر؛ فإنه من صفات أهل الجنَّة التي ذكَرَها الله -تعالى- في قوله: ﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، ولا تَنْس في هذا الوقت أنَّ من السبعة الذين يظِلُّهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظلُّه: رجُلاً ((ذكَر الله خاليًا، ففاضت عيناه)) كما في الصَّحيحين، فاحرِصْ على الخشوع والبكاء من خشية الله في هذه السَّاعات المباركات؛ فإنَّ عينين لا تمسُّهما النار أبدًا؛ كما في الصحيح: ((عينٌ بكَتْ من خشية الله، وعين باتت تَحْرس في سبيل الله)).

 

ولا تنسَنِي - أخي الحبيب - ساعتَئذٍ من دعوةٍ صالحة؛ ليقول لك الملَك: آمين، ولك بمِثْل، وانتبه - يا بْن الإسلام - إلى أنَّ ذلك مشروع في رمضان وغيرِه.

 

9- ترك الإفراط في تناول الطعام أثناء الإفطار؛ فالصَّائم إذا شبع ضيَّع على نفسه الحِكْمة من الصوم؛ فالشِّبَع يورث القَسْوة، ويوفر الجفوة، ويثير النَّوم، ويَجْلب الكسل عن الطاعات، والصوم يعالِجُ ذلك، قال بعض السَّلَف: إذا امتلأَت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعَدَت الأعضاء عن العبادة.

 

10- كفُّ النَّفْس عما يتنافى مع حقيقة الصِّيام؛ من إطلاق الجوارح في المعاصي والذُّنوب؛ كالغِيبة والنَّميمة، والكذب، والفُحْش، وسوء الخلق، وغير ذلك؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح البخاري": ((من لم يدَعْ قول الزُّور والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامه وشرابه)).

 

11- دعوة الصَّائمين إلى طعام الإفطار - من الأرحام والجيران، واليتامى والمساكين - طلبًا للأجر من الله -تعالى- فقد قال -تعالى- في وصف الفائزين بالجنة: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 8 - 12].

 

وقال -صلى الله عليه وسلم- في "صحيح سنن الترمذي": ((مَن فطَّر صائمًا كان له من الأجر مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم)).

 

12- أن لا يُجاهر المسلم المرخَّصُ له بالإفطار بإفطاره؛ كالمريض والمرأة الحائض والنُّفساء؛ احترامًا لشعور الصائمين، ولكي لا يشجِّع المستهترين من المفطرين بالمجاهرة في إفطارهم.

 

ومن الآداب أيضًا: الاجتهادُ في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب طلب ليلة القَدْر، والاعتكاف، وكلُّها ستأتي معنا - إن شاء الله تعالى.

 

س: هل تحب أن تصوم رمضان مرَّتين في السَّنَة الواحدة؟!

ج: بالتأكيد، كلُّنا يتمنَّى ذلك، ولكن كيف؟!

والإجابة في حديث زيدِ بن خالدٍ الجهنيِّ الذي رواه الترمذيُّ - وصحَّحه الألباني - عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا)).

 

فأبشر - أخي يا بن الإسلام - بهذا الفضل العظيم، واعلم أن هناك صورًا متعدِّدة يمكنك من خلالها الحصولُ على هذا الأجر العظيم من تفطير الصائمين، فمنها: تفطير الأقارب والجيران؛ إذْ بِحُسن النية تحصل على الصيام بعددِهم، وكذلك صلة الأرحام، وبِرُّ - وحُسْن - الجوار، ومنها: تفطير الإخوان والأصدقاء، ومنها: تفطير الفقراء، والصدقة عليهم بالإفطار، وكلها تحتاج إلى حُسْن النية، والله المستعان.

 

كيف تحصل لذَّة الصوم؟!

إنَّ هذا من أعجب الأسرار، وقليلاً ما تجد أحدًا تكلم فيها بما يَشْفي، والمقصود أيُّها السالك: إيقافك على أسرار العبادة، وجمال الخدمة، وشرف القيام بالأمر، فالعبادة اسمٌ جامع لكلِّ ما يحبُّه الله من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ومقتضى قيامك بأداء العبادة أن تجد ثمرتَها، وثمرة العبادة تكليفٌ شرعي؛ فمثلاً: يقول عن الصلاة: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ أي: الصلاة الصحيحة الكاملة، ولكنَّه لم يتكلم عن لذة العبادة والمناجاة والخطاب، وحلاوة القيام بتلك الصلاة، وكذلك الصوم حين قال: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فالتَّقْوى أيضًا كالانتهاء عن الفحشاء والمنكر، كلاهما مأمور به.

 

وسِرُّ عدم التعرض للَذَّة العبادة، وجعلها مقصودًا وغاية مباشرة: أنَّ هذه اللذَّة والحلاوة هي مِن صميم مقام الإحسان: ((أن تَعْبُد الله كأنَّك تراه..))، ولو جُعلت مقصودًا وغاية، لعَجز جمهور المكلَّفين عن أن يحصِّلوا هذه اللذَّة؛ ليتأكدوا من حصول ثمرة العبادة، وليَئِس كثيرٌ من السالكين حيث يجتهدون وَلَمَّا يأتهم المدَد، فكان تكليفهم بالقريب الملموس، والسهل اليسير؛ لأنَّ علامات التقوى والانتهاء عن المنكر واضحة.

 

أمَّا باطن هذه الغايات وجوهرها، فهو الالْتِذاذ بالخِدْمة، والشُّعور بالنِّسبة - نسبة العبد لربِّه - كما قال -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من الطَّائف وأذية أهلها له وإهانتهم لشخصه، قال: ((إن لم يكن بك على غضبٌ فلا أبالي))، وهذا من أجمل الألفاظ النبويَّة الجامعة، الخارجةِ من مِشْكاة خليل ربِّ العالمين؛ ولذلك كان سيِّدُ الاستغفار سيدًا؛ لما فيه من الشُّعور بالنسبة، ولذَّة الخطاب: ((أنت ربِّي، خلقتَني وأنا عبدُك؛ فإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت)).

وَمِمَّا زَادَنِي فَخْرًا وَتِيهًا

وَكِدْتُ بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي

وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا

 

وكذلك الصوم؛ تتحصَّل اللذة فيه من الشُّعور بالنسبة والالتذاذ بالخِدْمة، قال -تعالى-: ((الصَّوم لي وأنا أجزي به))، هذه هي النِّسبة، وقال: ((ترَك طعامه وشهوته من أجلي))، وهذه هي حقيقة الالتذاذ بالخدمة.

 

ولذلك كان يُبْسُ الشِّفاه من العطَش، وقَرْقرة البُطون من الجوع أهنأَ ما لاقاه الصَّائمون، وأمْرَأ ما ظفر به أولئك الجياع العَطْشى، فبينما هو يتألَّم - وقد تلوَّى من جوع البطن - يتوارَدُ على فؤادِه خاطرةُ أنَّ هذا الألم يصبر عليه تعظيمًا لحقِّ الله، ومهابةً لنظره واطِّلاعه، فيرضى عن حاله، ويشبع من رضا الله عنه، ولا يطمع في أيَّة نعمة تَحُول بينه وبين هذا الألم، لكنَّه سرعان ما يُطَأطئ منكسِرًا وجِلاً خائفًا؛ لئلاَّ يقبل الله منه، فيتَضافر ألَمُ البطون مع ألم القلوب، ويتعاظم هذا الألَمُ حتى تتداركه عنايةُ الله وإمداداته، فيفيض عليه من جميل لطفه وإنعامه، فيسكن هذان الألَمان المُتضافران، وينقلبان حلاوةً غامرة، ولذَّة عامرة، بل وشوقًا للقاء الله حتى تتمَّ فرحته التي أخبر عنها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((وفرحةٌ عند لقاء ربِّه)).

 

وإذا تأمَّلت هذه المعاني أدركتَ سرَّ قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن ماجه - وفي صحيح الجامع -: ((رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاَّ الجوعُ والعطش)).

 

ورُبَّما ضربتَ كفًّا على كف من اجتماع هذه المُتناقضات؛ ألَم ولذَّة، وجوع وشِبَع، وعطش ورِيّ! ولا يمنعك هذا العَجبُ من ولوج هذا الطَّريق، والسَّير فيه، فمن سلكه رأى من آيات ربِّه الكبرى!

 

فأحسِن القصد، وولِّد العزم، وتسلَّح بالهمَّة، وابدأ السير، وجدَّ في التّرحال، واطلب الراحة في العناء، وارض عن نفسك إذا كان مَسْعاها في المعالي، ولا تركن إلى غَبْنِ أهل الدُّنيا، ومَنِّ نفسك بالفوز الرَّبيح، وادَّخر الثمن الغالي لسلعة الله: ((ألاَ إن سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة)).

 

وأخيرًا: بيان لبعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي اشتهرَتْ على ألسنة الناس:

1- صوموا تصحُّوا، "ضعيف".

2- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فِراشَه، واعتزل النساء، وجعل عشاءه سحورًا، "ضعيف".

3- أوَّل شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عِتْق من النار، "منكر".

4- رجَب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، "موضوع".

5- حديث صلاة الرَّغائب، "موضوع".

6- لو يَعْلم العباد ما في رمضان، لتمنَّت أمتي أن يكون السنة كلها، "موضوع".

7- ما من أيام أحبَّ إلى الله أن يُتعبَّد له فيها من عشر ذي الحجة؛ يعدل صيامُ كلِّ يوم منها صيامَ سنَة، وقيامُ كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القَدْر، "ضعيف".

8- من صلى في آخر جمعة من رمضان والخميس الصلوات المفروضةَ في اليوم والليلة، قُضِيت عنه ما أخلَّ به من صلاة سنته، "موضوع".

9- مَن أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يَمُت قلبه يوم تموت القلوب، "موضوع".

10- شهر رمضان معلَّق بين السماء والأرض، لا يُرفع إلى الله إلا بِزَكاة الفطر، "ضعيف".

11- أغنُوهم - يعني المساكين - عن الطَّواف في هذا اليوم، "ضعيف".

12- أُعطِيَت أمتي في رمضان خمسًا لم يعطهنَّ نبي قبلي: أمَّا واحدة فإذا كان أول ليلة نظر الله - عزَّ وجلَّ - إليهم، ومن نظر الله - عزَّ وجلَّ - إليه لم يعذِّبه أبدًا، وأما الثانية: فإنَّ خلوف أفواههم حين يُمْسون أطيب عند الله - عزَّ وجلَّ - من ريح المسك، وأما الثالثة: فإنَّ الملائكة تستغفر لهم في كلِّ يوم وليلة، وأما الرابعة: فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يأمر جنته، فيقول: تزيَّنِي، واستعِدِّي لعبادي، وأما الخامسة: فإذا كان آخر ليلةٍ غفر لهم.

 

13- حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: خطَبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخِرَ يوم من شعبان، فقال: "يا أيُّها الناس؛ قد أظلَّكم شهرٌ عظيم، جعل الله صيامه فريضة وقيامه تطوُّعًا، من تطوَّع فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدَّى فريضة فيما سواه، ومن أدَّى فيه فريضة كان كمن أدَّى سبعين فريضة فيما سواه؛ الحديث، "منكر".

الكاتب: محمود العشري.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

المقال السابق
(14) أهم وسائل استثمار رمضان
المقال التالي
(16) القرآن