دعم العمران - دعم العمران : المقدمة

منذ 2017-11-07

هذا البحث يتصدى لبيان دور الإفتاء في تحقيق ودعم العمران.

المقدمة

-1-

استطاعت الشريعة الإسلامية أن تواجه –عبر الزمان والمكان– المشكلات أو التطورات الاجتماعية المختلفة دون أن تتخلى عن شخصيتها المتميزة أو تحتاج إلى عناصر قانونية أخرى لا تتفق معها في المنهج أو الغاية.

لكن تحقيق ذلك –في عالم الواقع– استلزم جهودا متتابعة، قام بها الفقهاء المسلمون في كل عصر؛ للملاءمة بين النصوص الدينية التي لا يستطيع أحد إلغاءها أو نسخها وبين الظروف الجديدة التي لا يستطيع أحد تجاهلها، وليس التراث الفقهي في حقيقة الأمر إلا تعبيرًا واضحًا عن حقيقة هذه الجهود([1]).

ولقد كانت المشكلة التي واجهت الفقهاء المسلمين في كل عصر هي كيفية التوفيق بين النصوص الثابتة والظروف المتغيرة([2]).

وذلك أنه بعد عصر اكتمال التشريع، واتساع مساحة الدولة الإسلامية، ودخول أجناس عديدة وشعوب مختلفة الثقافة والتقاليد، واجه المسلمون أوضاعا ومسائل جديدة، وكل ذلك شكَّل ظرفا مغايرا لما كان عليه الحال من قبل؛ حيث وجد الفقهاء أنفسهم مطالبين بضرورة البحث في أصول الشريعة عن حلول وإجابات عملية لما يجد من مشكلات أو وقائع ظهرت مع تطور الحياة واختلاف البيئات.

وكان هذا البحث هو البداية الحقيقية لتطور الفقه الإسلامي، الذي ظل ينمو باطراد مع كثرة الوقائع، واختلاف الظروف، وتبلور فيما بعد في شكل مدارس أو مناهج فقهية اتسم كل منها بطابع خاص في فهم نصوص الشريعة.

وكان هذا البحث أيضا هو الأساس الذي أقيمت عليه نظرية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ذلك أن الاجتهاد –وهو مجهود عقلي صرف– لا يستهدف فقط إنشاء أحكام جديدة في مسائل لم ترد فيها نصوص خاصة من القرآن والسنة، وإنما يستهدف أيضا إعمال الجهد في تفهم نصوص الشريعة، وخصوصا تلك التي تقبل تعدد المعاني والتفسيرات، وفقه الظروف والملابسات التي تحيط بالواقع، مجال التطبيق، ابتغاء الفهم الصحيح والتطبيق السليم، الذي يتفق مع مقاصد الشريعة ويحقق مصالح الناس في الوقت نفسه.

-2-

وتأتي قضية الإفتاء أو الفتوى لتظهر دورا آخر قام به فقهاء الإسلام في كل عصر وهو تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع المختلفة زمانا ومكانا وأشخاصا وأحوالا، حيث أسهمت جهودهم الإفتائية في حفظ استقرار المجتمعات وتحقيق السلام المجتمعي، ودعم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين جميع أفراده، فالإفتاء لا ينعزل ولا ينفصل عن حاجات الإنسان وقضاياه ومشكلاته، وذلك بإعمال قواعد الشريعة وضوابطها ومقاصدها في ضبط حركة المجتمع، ومواجهة كل ما يهدد مصالحه واحتياجاته، وفتح كل مجالات الخير والبر بالإنسان، وغلق منافذ الشر والفساد ومحاولات الهدم والتخريب.

-3-

لم تكن الفتوى في أي زمان أو مكان بعيدة عن حياة الناس، كيف وقد كانت استجابة واعية لأسئلتهم وهمومهم، لكن لم يخل عصر من فقهاء جنحوا إلى إحداث الفوضى والتخريب، فأباحوا القتل وسفك الدماء المعصومة، تحت مبررات واهية وأسباب مصطنعة حتى أصبح ما يعرف بالإفتاء الشاذ أو الفتاوى غير المنضبطة، التي تحدث الفتن وتمزق المجتمعات، وتهدد وحدة الأوطان، وتسقط هوية الشعوب والدول، وتريد أن ترد الزمن إلى الوراء، وتمحوا الجهد الإنساني الذي تطور بالحياة شكلا وموضوعا وأنتج مجتمعا جديدا ذا مشكلات جديدة وواقع جديد.

-4-

وما ذلك في تقديري إلا بسبب غفلة أصحاب هذه الفتاوى عن ضوابط الفتوى ومقاصدها في دعم قضايا الإنسان والعمران، ذلك أن الفتوى الصحيحة تعد إحدى الركائز التي تبني النهضة وتحقق العمران وتقود الفرد والمجتمع إلى نشر الحياة الطيبة، وتقديم النموذج الصالح للإنسان على ظهر هذه الأرض.

وهذا البحث يتصدى لبيان دور الإفتاء في تحقيق ودعم العمران، وقد قسمته إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة على النحو الآتي:

- المقدمة وفيها إشارة إلى أهمية الموضوع.

- المبحث الأول: تحديد المصطلحات.

- المبحث الثاني: دعم العمران مقصد للإفتاء.

- المبحث الثالث: الفقه الإسلامي والعمران.

- الخاتمة وفيها إشارة إلى أهم النتائج.

الكاتب: أ.د/ محمد قاسم المنسي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) راجع هذه المسألة بتفصيل واسع في منهج عمر بن الخطاب، لأستاذنا الدكتور محمد بلتاجي (ص32) وما بعدها.
[2])
وإدراكا لهذه المشكلة؛ رفض الإمام مالك ما أشار به هارون الرشيد من أن يحمل الناس على موطئه، وقال: "إن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلمتفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم"، راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية (30/ 79).

المقال السابق
دعم العمران: مقصد للإفتاء