لا يضرهم من خذلهم

منذ 2017-12-10

لم تعد قضية القدس حاضرة في مناهج التعليم والتربية، بل لم تعد – مع الأسف الشديد – حاضرة في كثير من منابر الجمعة ومناهج الدعوة!

مشاريع التهويد لمدينة القدس تتصاعد بصورة متسارعة وغير مسبوقة.. الأنفاق والحفريات اليهودية مستمرة بشكل يهدد بنيان المسجد الأقصى.

 

المغتصبون والمتطرفون اليهود يقتحمون المسجد الأقصى ويتطاولون على حرمته بشكل متكرر، ويصادرون أجزاء منه.. الكنس اليهودية تحيط بالمسجد الأقصى، وتطوقه من كل جانب.. الكنيست الصهيوني يناقش مقترحاً لقانون يقضي بتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً.

 

هدم المنازل والمزارع، وتهجير السكان، ومصادرة الهويات المقدسية، وتصاعد حركة الاغتصاب في محيط مدينة القدس؛ لم تتوقف منذ بداية الاحتلال.

 

هذه بعض العناوين الكبيرة للمشهد المقدسي، وهي غيض من فيض.. وكل عنوان منها يقتضي غضبة حقيقية من الأمة، لنصرة الأرض المباركة واستنقاذها من مخالب اليهود.

 

لكن ما الذي يحدث على الأرض؟!

 

لم تعد هذه الأخبار تلفت الانتباه أو تحرّك ساكناً في السياسات العربية.. ولم تعد هذه الأخبار على واجهة الإعلام العربي، بل لا في حاشية كثير من منابره!

 

ولم تعد قضية القدس حاضرة في مناهج التعليم والتربية، بل لم تعد – مع الأسف الشديد – حاضرة في كثير من منابر الجمعة ومناهج الدعوة!

 

أما منظمة التعاون الإسلامي.. جامعة الدول العربية.. السلطة الفلسطينية.. الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية.. رابطة العالم الإسلامي.. اللجان والصناديق الرسمية المخصصة لفلسطين.. فجميعها غائبة عن ذلك المشهد، تجتر عجزها وهوانها، صامتة لا تسمع لها ركزاً، وكأنَّ القضية لا تعنيها!

 

الحاضر الرئيس في قلب الحدث: هم أولئك الأبطال والمرابطون في بيت المقدس وأكنافه، الثابتون في ظلال القدس وأروقة الأقصى ومصاطب العلم؛ فهؤلاء وحدهم من يواجه مشاريع التهويد والهدم والتطاول على المقدسات.

 

إنَّ ثمة حقيقة لا ريب فيها، وهي أن هؤلاء المقادسة ابتلوا بخذلان وتثبيط كثير من إخوانهم، بل رأينا من يدفعهم دفعاً للاستسلام والرضوخ لليهود، بحجة الواقعية السياسية وتوجّهات المجتمع الدولي! وأرجو أن يكون لهم نصيب وافر من قول الله – تعالى -:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ 173 فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: ١٧٣، ١٧٤].

 

كما أرجو أن يكون هؤلاء المرابطون من الطائفة المنصورة التي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم: «على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك».

 

وفي بعض روايات الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين هم؟ قال: «في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس»[1]، وفي رواية أخرى: «يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها»[2].

 

ومن تأمَّل هذه الأحاديث يدرك أن ذلك الخذلان والإعراض لن يثني المرابطين عن ثباتهم واستبسالهم في الذبِّ عن حُرمة الأقصى، ففي بعض روايات الحديث: «لا يضرهم من خذلهم»[3]، «لا يبالون من يخالفهم»[4]، خاصة إذا استشعر هؤلاء المرابطون أن ثباتهم على أرضهم خير لهم من الدنيا وما فيها؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه؛ ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه – يعني: حبل فرسه – من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خير له من الدنيا جميعاً». قال: أو قال: «خير من الدنيا وما فيها»[5].

 

فإذا كانت المرابطة في أرض يرى منها بيت المقدس فيها هذا الأجر العظيم، فكيف يكون أجر المرابطة في بيت المقدس نفسه؟!

 

ولا يكفي ها هنا أن نلوم الأنظمة والحكومات على تفريطها وخذلانها، بل يجب أن نلوم أنفسنا، ونلوم العلماء والدعاة والخطباء والمؤسسات الإسلامية؛ فالوهن الذي أصاب الأمة في كثير من مفاصلها أعاق كثيراً من مشاريع نُصرة الأقصى!

 

إنَّ تغييب الوعي بقضية المسجد الأقصى أزمة كبيرة يتحمَّل تبعاتها أطراف متعددة؛ لذا فإن إحياء وتجديد الاهتمام بها من الأولويات التي يجب أن توظف لها الطاقات، وتتنوّع فيها المشاريع، وتأتلف عليها الجهود المؤسسية والفردية. ويحسن التأكيد ها هنا على ضرورة استثمار المشاعر الجياشة التي تعمر قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في إبداع مشاريع عملية حيوية وجامعة، تتنوَّع بتنوّع البيئات وتستقطب شتى الطاقات والإمكانات.

 

وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال: ( «ائتوه فصلوا فيه – وكانت البلاد إذ ذاك حرباً - فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله»[6].

 

إنَّ نصرة المسجد الأقصى ينبغي أن تكون مشروعاً للأمة بمجموعها، ومشروعاً شخصياً لكل مسلم، وحديثُ القناديل لم يترك عذراً لأحد ولو كان بشيء يسير كبعث زيت لإسراجها، وأحسب أن المقصود في إسراج قناديله: إحياء المسجد وتكريمه وعمارته والعناية به، والذبُّ عن حرمته، حتى لا يُهجر وينقطع عنه المصلون.

 

ولعل من أعظم قناديله التي ينبغي أن تسرج: المرابطون في أكنافه، وقراؤه، وعبَّاده، وحراسه، وعمَّار مصاطب العلم وحلقات تحفيظ القرآن؛ فهم النور الذي يتلألأ، وحقهم علينا: دعمهم، وتثبيتهم، وتعزيز صمودهم، ونصرتهم بكل ألوان النصرة، ودعم قضيتهم في كل أنحاء العالم.

فاللهم اجعلنا من أنصار الأقصى وعمَّاره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أخرجه: أحمد في مسنده رقم (22320)، والطبراني في الكبير (8/171) رقم (7643)، وذكره ابن الجوزي في فضائل القدس (ص 93).

وحديث الطائفة المنصورة له روايات كثيرة، عدّها جمع من أهل العلم متواترة، منهم ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/69)، والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة رقم (81)، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة (ص 68).

[2] أخرجه: أبو يعلى في مسنده رقم (6417)، والطبراني في المعجم الأوسط رقم (47).

[3] أخرجه مسلم (3/1523) رقم (1921).

[4] أخرجه سعيد بن منصور (2/178) رقم (2376)، تحقيق الأعظمي.

[5] أخرجه: الحاكم (4/509)، والطبراني في المعجم الأوسط (7/103)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/10): رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/954).

[6] أخرجه: أبو داود رقم (457)، وأحمد رقم (27626)، وابن ماجه رقم (1407)، وأبو يعلى رقم (7088)، والطبراني في الأوسط رقم (8445).

واختلف في هذا الحديث، فصحَّحه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/250)، ومغلطاي في شرح ابن ماجه (3/198)، وحسنه النووي في المجموع (8/278)، وصححه من المعاصرين: الأرناؤوط في تحقيق شرح مشكل الآثار رقم (610)، والوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (2/219)، ومحقق مسند أبي يعلى. وأعلَّه ابن القطان في الوهم والإيهام (5/531)، والذهبي في الميزان (2/90)، والألباني في ضعيف سنن أبي داود، والأرناؤوط في تحقيق المسند.