قصة أصحاب الأخدود - (1) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
أنَّه لا ينتفع بهذا القصص إلا أصحابُ القلوب التقيَّة النقيَّة، وأصحاب الفِطر والعقول السويَّة؛ قال الله ربُّ البرية - سبحانه وتعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
تمـهيد:
الحمد لله وكفَى، وصلاةً وسلامًا على عبادِه الذين اصطَفى، سبحانَك لا عِلم لنا إلا ما علمْتنا؛ إنَّك أنت العليم الحَكيم، اللهمَّ علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وهيِّئ لنا مِن أمرنا رشدًا.
أما بعد:
فإنَّ الثبات على دِين الله - سبحانه وتعالى - مطلَب أساسي لكلِّ مسلم صادِق يريد سلوكَ الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، ومِن أعظم الوسائل التي تعين على هذا الثبات: الإقبال على القُرآن والسُّنة وتدبر قصصهما ودراستها للتأسِّي والعمل.
إنَّ للقصة أثرًا عميقًا في النفوس؛ لما تحتويه من عناصِر التشويق وجوانب الاعتبار والاتِّعاظ؛ وهي وسيلةٌ يستخدمها الدُّعاة والهُداة والمصلِحون للوصول إلى قلوبِ الناس وعقولهم؛ كي يرتقوا بهم من الظلمات إلى النور، ويأخذوا بأيديهم إلى الطريقِ القويم، فيُسلِموا وجوههم إلى الله - سبحانه وتعالى.
وإنَّ هذا القرآن ليس مجرَّد كلام يُتلَى، ولكنَّه دستور شامِل؛ دستور للتربية، كما أنَّه دستور للحياة العمليَّة، ومِن ثَمَّ فقد تضمن عرْضَ تجارِب الدعوة الإيمانيَّة في الأرض من لدن آدَم - عليه السلام - وقدَّمها زادًا للأمَّة في جميع أجيالها؛ تجارِبها في الأنفس، وتجارِبها في واقِع الحياة؛ كي تكون الأمَّة على بيِّنة مِن طريقها، وهي تتزوَّد له بذلك الزاد الضخْم، وبذلك الرصيد المتنوِّع.
ومن ثَمَّ جاء القصص في القرآن والسُّنة بهذه الوفْرة الملحوظة، وبهذا التنوُّع وبهذا الإيحاء.
وكانتْ قصص بني إسرائيل هي أكثرَ القصص ورودًا في القرآن والسُّنة؛ وذلك لأسباب كثيرة، مِن أهمها: أنَّ الله - سبحانه وتعالى - عَلِم أن أجيالاً من أمة الإسلام ستمرُّ بنفس الأدوار والأطوار التي مرَّتْ بها أجيال بني إسرائيل، وأنَّ أجيالاً مِن أمَّة الإسلام ستقِف من دِينها وعقيدتها مواقفَ شبيهة بمواقِف بني إسرائيل؛ فعرَض الله - عزَّ وجلَّ - عليها مزالق الطريق مصورةً في تاريخ بني إسرائيل؛ لتكونَ لها عظةً وعبرة.
إنَّ هذا القرآن - وكذا السُّنة - يَنبغي أن يُقرأ وأن يُتلقَّى مِن أجيال الأمة المسلِمة بوعي، وينبغي أن يتدبَّر على أنه توجيهات حيَّة، تتنزل اليوم؛ لتعالج مسائل اليوم ولتنير الطريق إلى المستقبَل، لا على أنَّه مجرَّد كلام جميل يُرتَّل، أو على أنه سجل لحقيقة مضتْ ولن تعود.
ولن ننتفعَ بهذا القرآن - وكذا السُّنة - حتى نقرأه لنلتمس عندَه توجيهات حياتنا الواقِعة في يومنا وفي غدِنا؛ كما كانتِ الجماعة المسلِمة الأولى تتلقاه؛ لتتلمس عندَه التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة، وحين نقرأ القُرآن - وكذا السُّنة - بهذا الوعي سنجِد عنده ما نُريد، وسنجد فيه عجائبَ لا تخطُر على البال الساهي!
سنجد كلماتِه وعباراتِه وتوجيهاته حيَّة، تنبض وتتحرك وتشير إلى معالِم الطريق، وتقول لنا: هذا فافعلوا، وهذا لا تفعلوه، وهذا عدوٌّ لكم وهذا صديق، وكذا فاتخذوا مِن الحيطة وكذا فاتِّخذوا من العدَّة، وتقول لنا حديثًا مفصَّلاً دقيقًا في كلِّ ما يعرض لنا من الشؤون، وسنجد عندئذٍ في القرآن متاعًا وحياة، وسنُدرِك معنَى قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} [الأنفال: 24]، فهي دعوة للحياة؛ للحياة الدائمة المتجدِّدة لا لحياة تاريخيَّة محدودة في صفحة عابِرة من صفحات التاريخ.
ولقدْ قصَّ الله - سبحانه وتعالى - علينا أحسن القَصص لنأخذَ العظة والعِبرة؛ قال - سبحانه وتعالى -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3].
بَيْد أنَّه لا ينتفع بهذا القصص إلا أصحابُ القلوب التقيَّة النقيَّة، وأصحاب الفِطر والعقول السويَّة؛ قال الله ربُّ البرية - سبحانه وتعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
فمِن خلال القَصص القرآني والنبوي تَظهر السنن الربَّانية واضحةً جلية؛ حيث يجعل الله - سبحانه وتعالى - النَّصر والتمكين للمؤمنين، ويجعل الهلاك والعذاب والنكال للكافرين والمكذِّبين؛ كما قال الله رب العالمين - سبحانه وتعالى -: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
فالقَصص القرآني والنبوي وسيلةٌ عظيمة من وسائل تربية الأمَّة وتثبيتها على طريقِ الحق، فبدلاً مِن أن تنشغل الأمَّة بالأكاذيب التي تُبثُّ في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، فعليها أن تنشغلَ بالقصص الحق الذي جاء في الكتاب والسُّنة؛ لتأخذَ العِظة والعِبرة، ولتعلم يقينًا أنه لا نجاة للأمَّة إلا بالعودة إلى دِين الله - سبحانه وتعالى - والسَّير على سُنة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والقصَّة في القرآن والسنَّة لها أهداف ومقاصد سامية، فمن بينها:
• بيان أنَّ الرسل جميعًا أُرسلوا برسالة واحدة؛ وهي الدعوةُ إلى الله - سبحانه وتعالى - وإخلاص العبادة لله الواحِد القهَّار، وأداء التَّكاليف التي أُنيطت بالناس.
• بيان أنَّ القرآن مِن عند الله - سبحانه وتعالى - وأن ما اشتمَل عليه مِن قصص للسابقين لا عِلمَ به، وإنَّما علم مِن لدن الله - سبحانه وتعالى - فالرسول إنَّما يبلغ عن ربِّه القائل: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، فجاء القُرآن بهذا القصص الحقّ، وحكَاه بالصِّدق؛ ليكونَ عبرةً وعِظة للناس؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62]، وقال - سبحانه وتعالى -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13].
• ومِن أهداف القصص القرآني: تثبيتُ فؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وتخفيف ما أصابه مِن أذَى قومه وحثه على الاقتداء بالأنبياء السابقين، وتبشيره بأنَّ العاقبة الحسنة ستكون له، أمَّا تثبيت فؤاده -صلى الله عليه وسلم- فنَراه في قول الله - سبحانه وتعالى -: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وأمَّا التخفيف عنه -صلى الله عليه وسلم- لما أصابه مِن أذَى قومه، ففي قوله - سبحانه وتعالى -: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 52 - 55].
وأمَّا دعوته إلى الاقتِداء بالأنبياء السابقين في صبْرهم فنراه في قوله - سبحانه وتعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وأمَّا تبشيرُه بنصْر الله فنجده في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
ومن أهداف القصة القرآنية:
• تنبيه الإنسان مِن الغفلة والرقود، وإبعاده عن مهاوي الانحراف والسُّقوط.
• التحذير مِن أخطار البُعد عنِ الاستقامة والصَّلاح والحق.
• تصويب مناهِج الآدَاب والسُّلوك، والدفْع إلى الحياة الإيجابيَّة بهمَّة وعزيمة.
• تصحيح العقيدة وغرْس بُذور الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - ربًّا واحدًا.
• تربية النَّفْس وتقويم السُّلوك وغرْس الشُّعور الفيَّاض بالإيمان المتوقِّد بمشاعِر الود والخير.
• التذكير بأحداث الأُمم الغابِرة والأقوام البائِدة؛ الذين تنكَّبوا عن صراطِ الهداية وهَدي الأنبياء والمصلحين.
• ومِن العِبَر التي نستخلصها مِن القصص القرآني:
• بيان حُسن عاقبة المؤمنين؛ الذين ثبَتوا على الحق، وابتعدوا عنِ الباطل، وتابوا توبةً صادِقة، وشَكَروا الله على نِعمه؛ بأنِ استعملوها فيما يُرضي الله - سبحانه وتعالى.
• بيان سوء عاقِبة المكذِّبين؛ الذين أصرُّوا على كُفرهم ولم ينصتوا لنصائح أنبيائهم؛ واستحبوا العمَى على الهُدى، وجحدوا نِعم الله بأن استعملوها فيما يسخط الله - سبحانه وتعالى.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: "ولهذا قصَّ الله علينا أخبارَ الأمم المكذِّبة للرُّسل وما صارتْ إليه عاقبتهم، وأبقَى آثارهم ودِيارهم عبرةً لمن بعدَهم وموعظة، وكذلك مسخ مَن مسخ قردةً وخنازير؛ لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك خسف مَن خسف به، وأرسل عليه الحجارة مِن السماء، وأغْرَقه في اليمِّ، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات؛ وإنما ذلكم بسببِ مخالفتهم للرُّسل وإعراضهم عمَّا جاؤوا به، واتخاذهم أولياء مِن دونه.
وهذه سُنته - سبحانه وتعالى - فيمَن خالف رُسله وأعرض عما جاؤوا به، واتبع غيرَ سبيلِهم؛ ولهذا أبقَى الله - سبحانه وتعالى - آثارَ المكذِّبين لنعتبر بها ونتَّعظ؛ لئلاَّ نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 34 - 35]، وقال- سبحانه وتعالى -: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 136 - 138]؛ أي: يمرُّون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، وقال - سبحانه وتعالى - في مدائن قوم لوط: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 74 - 76]؛ يعني: مدائنهم بطريق مقيم يرَاها المار بها، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم: 9].
وهذا كثيرٌ في الكتاب العزيز: يخبر الله - سبحانه وتعالى - عن إهلاك المخالفين للرُّسل ونجاة أتْباع المرسلين؛ ولهذا يذكُر - سبحانه وتعالى - في سورة الشُّعراء قِصَّة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبيٍّ إهلاكَه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: ﴿ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 121 - 122]، فختم القصة باسمين مِن أسمائه تقتضيهما القصة وهو: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، فانتقم مِن أعدائه بعزَّته وأنْجَى رسله وأتباعهم برحمته".
لقدْ كان من المتوقَّع أن يكون الانقطاع الزمني للرِّسالة قبلَ البعثة أثرًا سلبيًّا على نفوس الجماعة الصغيرة المؤمِنة الأولى التي كانتْ تعايش اغترابًا يكاد يقتُل الدفء في قلوب أفرادها، ويمكن الحيرة مِن عقولهم، ألم يكونوا يقولون ما لا يقوله الناس؟! ويفعلون ما لا يفْعل الناس؟! ويشعرون بما لا يَشعُر به الناس؟!
لقدْ كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على وعيٍ كامل بما يعتمل في نفوسهم، فلم يدَّخرْ عصبًا مِن أعصابه وهو يذود عن تلك العقيدة التي غرسَها فيهم مِن خطر النفور البشري الطبيعي من وحشةِ الاغتراب.
بَيْدَ أنَّ صُراخ الطبيعة البشرية كان أخطرَ مِن ألاَّ تتدخل العناية الإلهية في الأمر مباشرة، فاقتضتْ حِكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يدرك الجيلُ الأولُ أنهم ليسوا منقطعين، بل موصولين إلى خِبرة بشرية عميقة تربض في عُمق الأرْض كالجبال والأشجار موصولة بجذورها في الأرْض، وأن يُدركوا أنَّ لهم إخوةً أشباهًا لهم كانوا يقولون مِثل ما هم يقولون، ويفعلون مِثل ما هم يفعلون، ويَشعُرون بما هم يشعُرون.
وهكذا امتلأ الوحيُ بالقَصص التاريخي؛ لتكونَ كلُّ قصَّة جسرًا لهم عبر الزمان يأتيهم منه الأُنس المطمئِنُ لقلوبهم، والخبرة الضابطة لحرَكتِهم، والحق المبطل لتحريف عدوِّهم، والذِّكرَى المثبتة لهم، والموعظة التي تحدوهم، حتى المقام المحمدي نفْسه كان بحاجةٍ إلى هذا التثبيت؛ {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
وهكذا كانتْ قِصَّة أصحاب الأخدود، المجملة في سورة البروج، والمفصَّلة في الحديث المشهور، والمتأمَّلة بين دفتي هذا الكتاب - بإذن الله.
فمَع قصة أصحاب الأخدود، ومع سورة البروج نعيش هذه الصفحات - إن شاء الله.
سورة البروج:
المقروءة.. آيات ميسَّرة في تهجُّد مِحنة وبلاء.
والمسموعة.. صوت أنفاس أخيرة في حياة الشُّهداء.
والمكتوبة.. خدش أظافِر مستضعفة في حائِط سجن لتكون أفقًا وسماءً.
والمروية.. قصَّة تِبيان عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أصحاب الأخدود:
وقْفٌ لازم في قِراءة تاريخيَّة للدعوة.
أصحاب الأخدود:
درسٌ تامٌّ في منهجها.
أصحاب الأخدود:
تجرِبة كاملة في واقعِها.
وهذا هو الطريق
إنَّ أصل هذه القصَّة حديثٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل مَن يروي حديثًا عن الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- إمَّا أن يكون مِن الرُّواة المتخصِّصين في الرِّواية - مثل أبي هريرة وابن عبَّاس - وإمَّا أن يكونَ صحابيًّا غير متخصِّص دفَعه إلى الرِّواية: إمَّا ارتباط الأحكام التي يتضمَّنها الحديث بمعيشته - مِثل عدي بن حاتِم الذي روَى أحاديث الصَّيْد؛ لأنَّه كان صيادًا - وإمَّا أن يكونَ الدافع إلى الرِّواية هو عُمق التأثر بمعاني الحديث.
وراوي هذا الحديث ممَّن دفعهم عُمق التأثُّر بالمعنى إلى الرِّواية، فهو صهيب الرُّومي الذي كان مستضعفًا في مكَّة، وأراد أن يهاجِر مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يتمكَّن، فحاول الفرار بعدَ الهجرة، فعلم المشرِكون بخبره فتعقَّبوه، فلما اقتربوا منه قالوا له: جِئتنا فقيرًا فاغتنيتَ عندنا، فهل تريد أن تذهبَ بهذا المال إلى محمَّد؟! فقال لهم: إذا أخبرتُكم عن مكان المال تتركونني؟ قالوا: نعَم، فدلَّهم على مكان المال، فترَكوه، فذهَب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخْبَره، فقال له: «رَبِح البيع، ربِح البيع»؛ والحديث أخرَجه الحاكمُ والطَّبراني، وقال الحاكِم: صحيح على شرْط مسلم، وصحَّحه الألباني.
وفي صُهيب نزَل قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ}[البقرة: 207].
وقدْ روَى خبَّاب بن الأرتِّ جزءًا مِن هذا الحديث عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي ذكَر فيه العَذاب الذي تعرَّض له أصحابُ الدعوة والشق بالمناشير - كما سيَجيء في القصَّة - إنْ شاء الله.
ويَكْفي لمعرفة خبَّاب أن يكونَ هو الناطق برجاء كلِّ المستضعفين حيث يقول - كما رَوى عنه البخاري -: "أتيتُ النبيَّ وهو متوسِّد بُردة وهو في ظلِّ الكعبة، وقد لقينا مِن المشركين شدَّة، فقلت: ألاَ تدْعو الله لنا؟"، وفي رواية: " ألاَ تستنصِر لنا".
كما يَكفي لمعرفة خبَّاب أن يكون آخِذَ سورة الشعراء مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد رَوى الإمام أحمد عن معدي كرِب قال: أتيْنا عبدالله فسألناه أن يقرأ علينا (طسم المائتين)، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمَن أخذَها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خبَّاب بن الأرتِّ، قال: فأتينا خبَّابَ بن الأرتِّ فقرأها علينا - رضي الله عنه؛ والحديث أخرجه أحمدُ في المسند مِن طريق وكيع بن الجرَّاح عن أبيه عن أبي إسحاقَ عن معدي كرِب الهمداني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وإنْ كان والد وكيع فيه كلام، وأبو إسحاق - هو السَّبِيعي - قد اختلَط، ومعدي كرِب لم يروِ عنه غيرُ أبي إسحاق - فيما علمتُ - وسكَت عنه البخاريُّ في التاريخ، إلا أنَّ الحافظ السيوطي قد جوَّده في الدرِّ المنثور، وصحَّحه الشيخ شاكر في شرْح المسند، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": رواه أحمد ورجالُه ثِقات، ورواه الطبراني.
تنبيه: المراد من (طسم المائتين): سورة الشعراء لا سورة القصص، يدلُّ على ذلك أمور:
• منها: أنَّ المائتين هي الشعراء؛ لأنَّها (227) آية بينما القصص (88) فقط.
• ومنها: أنَّ الهيثميَّ في "مجمع الزوائد" بوَّب لها (سورة طسم الشعراء).
• ومنها: أنَّ السيوطي ذكَره في "الدر المنثور" تحتَ سورة الشعراء.
• ومنها: أنَّ السيوطي حين ذكَره، ذكَر لفظ أبي نُعيم في الحلية وفيه: نسأله عن طسم الشعراء.
• ومنها: أنَّ الشيخ شاكر شرَحه مبينًا أنَّ المراد سورة الشعراء لا القصص.
نعم ذكَره الحافظ ابن كثير عندَ سورة القصص، وكرَّره السيوطي في سورة القصص.
وفي صحيح الترمذي ملاحظةٌ في غاية الأهمية في رِواية هذا الحديث، وهي: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يذكُر مع هذا الحديث حديثًا آخَرَ عن صهيب قال: كان رسولُ الله إذا صلَّى العصر همس - والهمس في قول بعضهم: تحرّك شفتيه كأنَّه يتكلَّم - فقيل له: إنَّك يا رسولَ الله، إذا صليت العصر همستَ؟ قال: ((إنَّ نبيًّا من الأنبياء كان أعجب بأمَّته فقال: مَن يقوم لهؤلاء، فأوْحَى الله إليه أنْ خيِّرهم بين: أن أنتقم منهم، وبيْن أن أسلِّط عليهم عدوًّا لهم؟ فاختاروا النقمة، فسلَّط عليهم الموت فمات منهم في يومٍ سبعون ألفًا)).
قال: وكان إذا حدَّث بهذا الحديث حدَّث بهذا الحديث الآخَر: عن صهيب أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كان ملك».
وبذِكْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذين الحديثَين معًا ودائمًا يتحقَّق بُعدان أساسيان لقضية واحِدة؛ وهي قضيةُ العلاقة بين العدَد والفاعلية القدرية للعدد؛ حيث يمثِّل الحديث الأوَّل بُعد الكثرة الفاقدة لفاعليتها بالعُجب بهذه الكثرة، وهو مضمونُ الحديث الأوَّل، والقِلَّة المحقِّقة لفاعليتها بتجرُّدها مِن حولها وقوَّتها إلى حولِ الله وقوَّته، وهو مضمونُ هذا الحديث؛ حيث لم يتجاوزْ أصحاب الدعوة فيه ثلاثةَ أفراد (الراهب والغلام والجليس)، يُتَمِّم هذا البُعدَ ما ورد عن القصَّة في القرآن؛ حيث جاء قول المفسِّرين في قول الله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج: 3] أنَّ الشاهِد هو يوم عرَفة، والمشهود هو يوم الجمُعة، وكلاهما يمثِّلان الكثرةَ المحقِّقة لفاعليتها بعُبوديتها وتواضعها.
ولعلَّنا ننتبه إلى أنَّ هذه الملاحظة المهمَّة؛ ملاحظة ذِكْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنبي الذي أُعجب بأمته، وحديث: ((كان ملك)) واردة عن صهيب أيضًا.
إنَّه حديث المستضعَفين.
ودرْس الذين عاشوا الدعوةَ في أيَّام الآلام والعذاب.
وهذه هي القِيمة الأساسية للقصَّة.
يتبعها أنَّ القصَّة تجرِبةٌ كاملة للدعوة: ففي أحداثِها كل مراحِل العمل وأساليبه، مِن بداية الدعوة الفرديَّة إلى مرحلة الإيمان الجَماعي، متضمنة النقلة المرحليَّة الأساسية للدعوة من السِّريَّة إلى العَلنيَّة.
كما أنَّ أحداثها تحقيقٌ مباشِر لقدَر الله - سبحانه وتعالى - ممَّا يجعل هذه القصَّةَ مجالَ بحث دقيق لتحديد منهج الدعوة بتصوُّر القدَر والأسباب؛ ليصبح هذا المنهج قادرًا على تحقيقِ الواقع الإسلامي الذي نسْعَى إليه.
فعسَى الله- سبحانه وتعالى - أن يجعلَ هذه القصَّةَ العظيمة حاديًا لنا لنثبتَ على إيماننا وتوحيدنا حتى نلقَى ربنا - سبحانه وتعالى - على الإيمان والتوحيد، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبُنا ونِعم الوكيل. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].
أولاً: القصَّة مِن كتاب الله - سبحانه وتعالى - وتفسير سورة البروج
قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 1 - 22].
هذه السُّورة القصيرة تعرِض حقائق العقيدة، وقواعِد التصوُّر الإيماني، أمورًا عظيمة، وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدَى، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبِّر عنها نصوصُها، حتى لتكاد كل آية - وأحيانًا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوةً على عالَمٍ مترامي الأطراف مِن الحقيقة.
والموضوع المباشر الذي تتحدَّث عنه السُّورة هو حادِث أصحاب الأخدود.
والموضوع هو أنَّ فِئةً من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنَّهم مِن النصارى الموحِّدين - ابتلوا بأعداء لهم طُغاة قساة شرِّيرين، أرادوهم على ترْك عقيدتهم والارتداد عن دِينهم، فأبوا وتمنَّعوا بعقيدتهم، فشقَّ الطغاة لهم شقًّا في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبُّوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقًا، على مرأًى مِن الجموع التي حشدها المتسلِّطون؛ لتشهدَ مصرَع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشِعة، ولكي يتلهَّى الطغاة بمشهَد الحريق؛ حريق الآدميِّين المؤمنين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
إنَّها القصَّة التي سجَّل الله - سبحانه وتعالى - خاتمتها في كتابه، وبيَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بدايتها وسياقها؛ لتكونَ عِبرةً للمؤمنين والمؤمنات في كلِّ زمان ومكان، ولتكون حاديًا لنا جميعًا لنثبت على إيمانِنا وتوحيدنا مهما كانتِ الصعاب.
فالمؤمن الذي ذاق طعمَ الإيمان وحلاوته لا يفرِّط في دِينه ولو وضعوا المناشير فوقَ رأسه، وفصلوا لحمه عن عظمه؛ لأنَّه يعلم يقينًا أنَّ الدنيا كلها لا تساوي عندَ الله جناحَ بعوضة، وأنها ساعات معدودة سرعان ما تَنتهي، وبعدَها يقِف الإنسان بين يدي ربِّه - سبحانه وتعالى - ليسأله عن إيمانه وتوحيده، فمَن مات على التوحيد سعِد سعادةَ الدنيا والآخِرة، ومَن ترَك دِينه مِن أجل دُنياه شقِي في الدُّنيا والآخِرة.
وهكذا يكون حال أهْل التوحيد والإيمان: يشتدُّ عليهم البلاء في الدُّنيا ليسعدوا بالراحة الأبديَّة في جنة الرَّحمن - جلَّ جلاله.
وهكذا يكون ثبات أهلِ التوحيد والإيمان؛ فهم أكثرُ الناس ثباتًا أمامَ المِحن والفِتن والابتلاءات، وهم أكثرُ الناس رِضًا بقضاء الله - سبحانه وتعالى - لأنهم ينظُرون إلى الدنيا كلها بنظرة أهل الإيمان الذين يعلمون يقينًا أنَّ الدنيا بكلِّ ما فيها لا تُساوي عندَ الله جَناح بعوضة.
ويعلمون أنَّ الله - سبحانه وتعالى - سيُجبر كسر المؤمِن مع أوَّل غمسة في الجنة عندما يحطُّ المؤمن رحله في جنة الرَّحمن التي فيها ما لا عينَ رأت ولا أُذن سمعتْ ولا خطَر على قلْب بشر.
• تبدأ السُّورة الكريمة بالقسَم العظيم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}﴾ [البروج: 1 - 4]، فتربط بيْن السَّماءِ وما فيها من برُوج هائلة، واليومِ الموعودِ وأحداثه الضِّخام، والحشودِ التي تشهده والأحداثِ المشهودَة فيه، تربط بين هذا كله وبيْن الحادِث ونِقمة السَّماء على أصحابه البُغاة.
• ثم تعرِض المشهد المفجِع في لمحات خاطِفة، تودع المشاعِر بشاعة الحادِث بدون تفصيل ولا تطويل، معَ التلميح إلى عَظمة العقيدة التي تعالتْ على فِتنة الناس مع شدَّتها، وانتصرتْ على النار وعلى الحياة ذاتها، وارتفعتْ إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعًا، والتلميح إلى بشاعة الفِعلة، وما يكمن فيها مِن بغي وشرٍّ وتسفل، إلى جانب ذلك الارْتفاع والبراءة والتطهُّر مِن جانب المؤمنين: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 5 - 7].
• بعدَ ذلك تَجِيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمِّنة تلك الأمور العظيمة في شأنِ الدعوة والعقيدة والتصوُّر الإيماني الأصيل: إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرْض وشهادته وحُضوره - سبحانه وتعالى - لكلِّ ما يقَع في السماوات والأرْض: الله {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[البروج: 9].
• وإشارة إلى عذاب جهنَّمَ وعذاب الحريق الذي ينتظر الطُّغاة الفَجَرة السفلة؛ وإلى نعيم الجَنَّة، ذلك الفوز الكبير، الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتَهم على الحياة، وارْتفعوا على فِتنة النار والحريق: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 10 - 11].
• وتلويح ببطْش الله الشديد، الذي يُبدئ ويعيد: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج: 12 - 13]، وهي حقيقة تتَّصل اتصالاً مباشرًا بالحياة التي أزهقتْ في الحادث، وتُلقي وراء الحادث إشعاعاتٍ بعيدة.
• وبعدَ ذلك بعض صِفات الله - سبحانه وتعالى - وكل صِفة منها تعني أمرًا؛ {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}[البروج: 14] للتائبين مِن الإثم مهما عظُم وبشع، الودود لعبادِه الذين يختارونه على كلِّ شيء، والود هنا هو البَلْسَم المريح لمثل تلك القُروح!
• {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 15 - 16]، وهي صِفات تصوِّر الهيمنةَ المطلَقة، والقُدرة المطلَقة، والإرادة المطلَقة، وكلها ذات اتِّصال بالحادِث، كما أنَّها تطلق وراءَه إشعاعاتٍ بعيدةَ الآماد.
• ثم إشارة سَريعة إلى سوابق مِن أخْذِه للطغاة، وهم مدجَّجون بالسلاح: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17 - 18]؟ وهما مصْرَعان متنوِّعان في طبيعتهما وآثارهما، ووراءهما مع حادث الأُخدود إشعاعات كثيرة.
• وفي الختام يقرِّر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 19 - 20].
ويقرِّر حقيقة القرآن، وثَبات أصله وحياطته: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21 - 22]، مما يوحي بأنَّ ما يقرِّره هو القول الفصل والمرجِع الأخير، في كلِّ الأمور.
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السُّورة ومجالها الواسِع البعيد؛ تمهِّد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل، والله المستعان.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 1 - 3].
• تبدأ السورةُ الكريمة قبلَ الإشارة إلى حادِث الأخدود بهذا الأسلوب الذي يُسمِّيه علماء العربية أسلوبَ القسم، وهذا الأسلوب يتكوَّن من ثلاثة أركان؛ هي: أداة القسَم، والمُقسَم به، والمقسَم عليه.
فأمَّا أداة القسَم هنا فهي واو القسَم الخافضة لما بعدها، وأما المقسَم به فقد تعدَّد في السورة وهو: السماء ذات البروج، واليوم الموعود، والشاهد والمشهود، وهذا يجرُّنا إلى عِبارة القسم أو المسمَّاة في عِلم العقيدة بالحَلِف؛ إذ لا يصحُّ القسم - بالنسبة للعبد - إلا بالله - سبحانه وتعالى - أو باسم مِن أسمائه، أو بصِفة مِن صفاته؛ لما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن كان حالفًا فليحلفْ بالله أو ليصمت))، وعنه أيضًا مرفوعًا: ((مَن حلَف بغير الله فقدْ أشْرَك))؛ رواه أبو داود وصحَّحه الألباني.
والشِّرك الذي يَعنيه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث هو الشِّرك الأصغر، ما لم يكُنِ الحالف معظِّمًا لما يحلف به من دون الله كتعظيم الله أو أشدّ، فإنْ كان كذلك فهو شرْك أكبر؛ كمَن يقال له: احلفْ بالله، فيحلف كاذبًا، فإذا قيل له: احلف بالشيخ الفلاني، أقَرَّ واعترَف؛ مخافةَ أن يحلف به كذبًا، وكذا الحلف بالصليب أو المسيح.
ولا يجوز لمسلم أن يطلُب من أحدٍ أن يحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - حتى ولو كان كافرًا لا بالمسيح ولا بغيرِه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابنُ ماجه وصحَّحه الألباني: «مَن حُلِف له بالله فليرضَ، ومَن لم يرضَ فليس مِن الله».
فلا يجوز الحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - فقدْ سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يحلِف بأبيه فقال: «إنَّ الله ينهاكم أن تحلِفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فيحلفْ بالله أو ليذَر».
وإنَّما كان الحلِف كذلك؛ لأنَّه تعظيم للمحلوف به، وهو لا ينبغي إلا لله - سبحانه وتعالى - العظيم، وفيه إشهاد المحلوف به على صِدق الحالف، وذلك الإشهاد لا يصحُّ إلا بالنسبة لمن يعلم صدق الشيء المحلوف عليه أو كذبه، وليس ذلك إلاَّ لله - عزَّ وجلَّ - وحْده، كما أنَّ المحلوف به يجب أن يكون ممَّن يملك عقابَ الحالِف به والانتقام منه إذا حلَف به كاذبًا، وذلك هو الله - سبحانه وتعالى - وحْده؛ فلهذه الأسباب كلِّها كان الحلِف بغير الله - سبحانه وتعالى - شِركًا - أصغر أو أكبر - على التفصيل السابق.
وممَّا تقدَّم يُعلم أنَّ ما يجري على ألْسِنة العوام مِن دعاءٍ لغير الله، أو استغاثةٍ به، أو غلوٍّ في مدحه، أو استشفاعٍ وتوسلٍ به، أو حلفٍ باسمه، أو طلبِ المدَد والبَركة منه: كل ذلك شِرْك يجب على العُلماء أن ينبهوا الناس إلى عظيم خطَره وسوء عاقبته بدلاً مِن أن يلهوا عقولهم بذِكْر حكايات الصوفيَّة؛ كرابعة العدويَّة وغيرها.
فالقسَم بالنِّسبة للعبْد مقصورٌ على ما ذكرت، أمَّا بالنسبة للربِّ العلي - سبحانه وتعالى - فله أن يُقسِم بما يشاء - سبحانه -:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الأنبياء: 23].
أَقْسم الله - سبحانه وتعالى - بالضُّحى، والليل والنهار، والشمس والقمر، والفجر، وغير ذلك مِن مخلوقاته العظيمة التي شاء أن يُقسِم بها.
وأمَّا في السورة التي نحن بصدَد الكلام عنها فقدْ أقسم الله - سبحانه وتعالى - بالسماء ذات البُروج، وهي إمَّا أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها برُوج السماء الضخْمة؛ أي: قصورها المبنية كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، وكما قال - سبحانه وتعالى -: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا» [النازعات: 27]، وإمَّا أن تكون هي المنازل التي تنتقِل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها وهي مجالاتها التي لا تتعدَّاها في جريانها في السماء، والإشارة إليها يُوحي بالضخامة، وهو الظلُّ المراد إلقاؤه في هذا الجو.
• {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج: 2]، وهو يوم الفَصْل في أحداث الدنيا، وتصفية حِساب الأرْض وما كان فيها، وهو الموعودُ الذي وعَد الله بمجيئه، ووعَد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمْهل المتخاصمين والمتقاضين إليه، وهو اليوم العظيم الذي تتطلَّع إليه الخلائق وتترقبه؛ لترَى كيف تصير الأمور.
• {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج: 3] في ذلك اليوم الذي تُعرَض فيه الأعمال، وتُعرَض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين، ويُعلم كلُّ شيء، ويظهر مكشوفًا لا يسترُه ساترٌ عن القلوب والعيون.
وتلتقي السماءُ ذات البُروج، واليوم الموعود، وشاهِد ومشهود - تلتقي جميعًا في إلْقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يُعرض فيه بعدَ ذلك حادث الأخدود، كما تُوحِي بالمجال الواسع الشامل الذي يُوضَع فيه هذا الحادث، وتُوزَن فيه حقيقته ويُصفَّى فيه حسابه، وهو أكبر مِن مجال الأرض، وأبعد مِن مدَى الحياة الدنيا وأجَلها المحدود.
• وبعدَ رسم هذا الجو، وفتْح هذا المجال، تجيء الإشارةُ إلى الحادث في لمساتٍ قلائل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 4 - 9].
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}؛ أي: لُعِنَ أصحاب الأخدود، والأخدود جمعُه: أخاديد، وهي الحُفَر في الأرض، وهذا خبرٌ عن قومٍ من الكفَّار عَمَدوا إلى مَن عندهم مِن المؤمنين بالله - عزَّ وجلَّ - فقهروهم وأرادوهم أن يَرجِعوا عن دِينهم، فأبوا عليهم، فحَفروا لهم في الأرضِ أخدُودًا وأجَّجُوا فيه نارًا، وأعدُّوا لها وقودًا يسعِّرونها به، ثم أرادوهم فلم يَقْبَلوا منهم، فقذفوهم فيها؛ ولهذا قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج: 4 - 7]؛ أي: مشاهِدون لما يُفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]؛ أي: وما كان لهم عندَهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يُضام مَن لاذ بجنابه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرْعه وقدَره، وإنْ كان قد قَدَّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقَع بهم بأيدي الكفَّار به، فهو العزيز الحميد، وإنْ خفِي سببُ ذلك على كثيرٍ من الناس.
ثم قال الله - سبحانه وتعالى -: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البروج: 9]، مِن تمام الصفة أنَّه المالك لجميعِ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]؛ أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السموات والأرْض، ولا تخفَى عليه خافية.
هذا، وقد اختلف أهلُ التفسير في أهل هذه القصَّة: مَن هم؟ فروَى ابن أبي حاتم عن الرَّبيع - وهو ابن أنس - في قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4]، قال: سمعْنا أنهم كانوا قومًا في زمان الفترة، فلمَّا رأوا ما وقَع في الناس مِن الفِتنة والشر، وصاروا أحزابًا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، اعتزَلوا إلى قريةٍ سكنوها، وأقاموا على عبادةِ الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، وكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبَّارٌ مِن الجبَّارين، وحُدِّث حديثهم، فأرسل إليهم فأمرَهم أن يعبدوا الأوثانَ التي اتَّخذوا، وأنهم أبوا عليه كلُّهم، وقالوا: لا نعبد إلا الله وحده، لا شريكَ له، فقال لهم: إنْ لم تعبدوا هذه الآلهةَ التي عبدتُ فإنِّي قاتلكم، فأبوا عليه، فخَدَّ أخدودًا من نار، وقال لهم [هذا] الجبار - وَوَقَفهم عليها -: اختاروا هذه أو الذي نحنُ فيه، فقالوا: هذه أحبُّ إلينا، وفيهم نِساء وذرية، ففزعت الذرية، فقالوا لهم: لا نارَ مِن بعد اليوم، فوقعوا فيها، فقُبضتْ أرواحهم من قبل أن يمسَّهم حَرُّها، وخرجتِ النار مِن مكانها فأحاطتْ بالجبَّارين، فأحرقَهم الله بها، ففِي ذلك أنْزل الله - سبحانه وتعالى -:{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُو} [البروج: 4 - 7].
وأورد ابنُ كثير في تفسيره أقوالاً أخرى لأهلِ العِلم في المراد بأصحاب الأخدود، والذي يبدو لي - والله أعلم - أنَّ قصة الأخدود قد تكرَّرت في أكثرَ مِن مكان، ومع أكثر مِن قوم، حتى إنَّ ابن أبي حاتم قد روى عن صفوان، عن عبدالرحمن بن جُبير قال: كانتِ الأخدود في اليمن زمان تُبَّع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرَف النصارى قِبلتهم عن دِين المسيح والتوحيد، فاتَّخذوا أتُّونًا، وألْقَى فيه النصارى الذين كانوا على دِين المسيح والتوحيد، وفي العراق في أرْض بابل بختنصر، الذي وضَع الصنم وأمَر الناس أن يسجُدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه: عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتُّونًا وألقَى فيه الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهما بردًا وسلامًا وأنقذَهُما منها، وألقَى فيها الذين بغَوا عليه وهم تِسعة رهْط، فأكَلتْهم النار.
فقوله - سبحانه وتعالى -: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} هذا هو جوابُ القَسَم، والجملة دعائية؛ أي: قاتَل اللهُ أصحابَ الخدود الذين شقُّوا الأرض طولاً، وجعلوها أخاديد وأضرموا فيها النار؛ ليحرقوا بها المؤمنين، وقوله - سبحانه وتعالى -: {قُتِلَ}ي لعن؛ قال ابن عباس - رضى الله عنهما -: كلُّ شيء في القرآن قُتِلَ فهو لُعِنَ.
وتبدأ الإشارةُ إلى الحادث بإعلان النِّقمة على أصحابِ الأخدود: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾، وهي كلمة تدلُّ على الغضَب؛ غضب الله - سبحانه وتعالى - على الفعلة وفاعليها، كما تدلُّ على شناعةِ الذنب الذي يُثير غضبَ الحليم ونِقمتَه ووعيدَه بالقتْل لفاعليه.
• ثم يَجيء تفسيرُ الأخدود: ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴾؛ أي: النار العظيمة المتأججة ذات الحطَب واللهب، التي أضْرَمها الكفَّار في تلك الأخاديد لإحراق المؤمنين، قال أبو السعود: وهذا وصفٌ لها بغايةِ العِظَمِ وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما فيها منَ الحطبِ، والقصد وصفُ النار بالشدَّة والهول، ثم بالغ - سبحانه وتعالى - في وصْف المجرمين، فقال: ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 6 - 7]؛ أي: حين هم جُلوسٌ حول النار يتشفَّوْن بإحراقِ المؤمنين فيها، ويَشْهدون ذلك الفِعل الشنيع.
والغرَض تخويفُ كفَّار قريش، فقدْ كانوا يُعذِّبون مَن أسلم مِن قومهم؛ ليرجعوا عن الإسلام، فذَكَر الله - سبحانه وتعالى - قصة أصحاب الأخدود وعيدًا للكفَّار وتسليةً للمؤمنين المعذبين.
فالأخدود: شقٌّ عظيم مستطيل في الأرض كالخندق، وكان أصحابه قدْ شقُّوه وأوْقَدوا فيه النار حتى ملؤوه نارًا، فصارتِ النار بدلاً في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهُّب النار فيه كله وتوقُّدها.
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴾ وقدِ استحقُّوا هذه النِّقمة وهذا الغضَب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرْتكِبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: ﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴾ [البروج: 6 - 7]، وهو تعبيرٌ يُصوِّر موقفَهم ومشهدَهم، وهم يُوقِدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعودٌ على النار، قريبون مِن عملية التعذيب البشِعة، يشاهدون أطوارَ التعذيب، وفِعل النار في الأجسام في لذَّة وسُعار، كأنما يُثبتون في حسِّهم هذا المشهدَ البشع الشنيع.
• ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 8]؛ أي: وما كان لهم عندَهم ذنب إلاَّ إيمانهم بالله العزيز الذي لا يُضام مَن لاذ بجنابه المنيع، الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرْعه وقدره، وإنْ كان قد قَدَّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقَع بهم بأيدي الكفَّار به، فهو العزيز الحميد، وإن خفِي سبب ذلك على كثيرٍ مِن الناس، ثم قال: ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البروج: 9]، من تمام الصفة أنَّه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: لا يغيب عنه شيءٌ في جميع السموات والأرض، ولا تَخفَى عليه خافية.
وإنَّما ذكر الأوصاف التي يستحقُّ بها - سبحانه وتعالى - أن يؤمِن به؛ وهي كونه: {عَزِيزًا}؛ أي: غالبًا قادرًا يُخشى عقابه {حَمِيدًا}؛ أي: منعمًا يجب له الحمدُ على نِعمه ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: وكل مَن فيهما يحقُّ عليه عبادته والخشوع له، إنَّما ذكر ذلك تقريرًا؛ لأنَّ ما نقموه منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطلٌ منهمك في الغي؛ ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [البروج: 9]؛ أي: هو - سبحانه وتعالى - مطلع على أعمالِ عباده، لا تخفَى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعْدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين.
إذًا لم يكُن للمؤمنين مِن ذنب عندَهم ولا ثأر، بل كانتْ جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز: القادِر على ما يُريد، الحميد: المستحقّ للحمد في كلِّ حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمدْه الجهَّال، وهو الحقيقُ بالإيمان والعبودية له - سبحانه وتعالى - الذي له مُلك السماوات والأرْض، وهو يشهَد كل شيء، وتتعلَّق به إرادتُه تعلُّق الحضور، ثم هو الشهيدُ على ما كان مِن أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود، وهذه لمسةٌ تُطمئِنُ قلوب المؤمنين، وتُهدِّد العتاة الجبَّارين؛ فالله كان شهيدًا، وكفَى بالله شهيدًا.
• ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 10 - 11].
ثم شدَّد الله - سبحانه وتعالى - النكيرَ على المجرمين الذين عذَّبوا المؤمنين فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾؛ أي: عذَّبوهم وأحْرَقوهم بالنار؛ ليفتنوهم عن دِينهم ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾؛ أي: لم يَرجِعوا عن كُفرهم وطغيانهم ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾؛ أي: فلَهُم عذاب جهنَّم المخزي بكفرهم، ولهم العَذاب بإحراقهم المؤمنين، فعذاب جهنَّمَ بسبب كُفرهم، وعذاب الحريق بسببِ فِتنتهم المؤمنين والمؤمنات، وفي جعْل ذلك جزاء للفتنة من الحُسن ما لا يَخفَى.
هذا؛ وقد ذكَر القرطبي - رحمه الله - روايةَ أبي صالح عن ابن عبَّاس أنَّ النار ارتفعت مِن الأخدود، فصارتْ فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعًا.
وذكَر القمي النيسابوري أنَّ عذاب جهنم وعذاب الحريق مختلفانِ في الدركة؛ فالأوَّل لكفرهم، والثاني لأنَّهم فَتنوا أهل الإيمان، وجوَّز أن يكون الحريق في الدنيا؛ لما رُوي أنَّ النار انقلبتْ عليهم فأحرقتهم.
ولهذا؛ فإنَّ الذي حدَث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمةَ الحادث وليس نهاية المطاف، فالبقية آتية هناك، والجزاء الذي يضَع الأمر في نِصابه، ويفصل فيما كان بيْن المؤمنين والطاغين آت، وهو مقرَّر مؤكَّد، وواقع كما يقول الله - سبحانه وتعالى - عنه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾، ومضَوا في ضلالتهم سادرين، ولم يَندموا على ما فعلوا: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾، ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾.
وينصُّ على ﴿ الحَرِيقِ ﴾ وهو مفهومٌ من عذاب جهنَّمَ، ولكنَّه ينطق به وينصُّ عليه؛ ليكون مقابلاً للحريقِ في الأخدود، وبنفس اللفظ الذي يدلُّ على الحدَث.
ولكن أين حريقٌ من حريق؟! في شدَّته أو في مدَّته؟! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق، وحريق الآخِرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آبادٌ لا يَعلمها إلاَّ الله! ومع حريق الدنيا رضِي الله عنِ المؤمنين، وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم، ومع حريقِ الآخِرة غضب الله، والارْتكاس الهابِط الذميم!
واعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - لما ذكَر قِصَّة أصحاب الأخدود، أتْبعها بما يتفرَّع عليها مِن أحكام الثواب والعِقاب، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾.
وهنا مسائل:
• المسألة الأولى: يحتمل أن يكونَ المراد منه أصحاب الأُخدود فقط، ويحتمل أن يكونَ المرادُ كلَّ مَن فعل ذلك، وهذا أوْلى؛ لأنَّ اللفظ عام والحُكم عام، والتخصيص ترْكٌ للظاهِر من غير دليل.
• المسألة الثانية: أصْل الفتنة: الابتلاء والامتحان؛ وذلك لأنَّ أولئك الكفَّار امتحنوا أولئك المؤمنين وعَرضوهم على النار وأحْرقوهم، وقال بعضُ المفسِّرين: الفِتنة هي الإحراق بالنار، وقال ابن عباس ومقاتل: ﴿ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ حرقوهم بالنار، قال الزَّجَّاج: يقال: فتنتُ الشيءَ أحرقتُه، والفتن: أحجار سود كأنَّها محترِقة، ومنه قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [الذاريات: 13].
• المسألة الثالثة: قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ يدلُّ على أنَّهم لو تابوا لخرَجوا عن هذا الوعيد، وذلك يدلُّ على القطْع بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يَقْبل التوبة، ويدلُّ على أنَّ توبة القاتل عمدًا مقبولةٌ، بخلاف ما يُروَى عن ابن عباس.
• المسألة الرابعة: في قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ قولان:
الأوَّل: أنَّ كِلا العذابين يحصلان في الآخرة، إلا أنَّ عذاب جهنم هو العذاب الحاصل بسبب كُفرهم، وعذاب الحريق هو العذاب الزائِد على عذاب الكُفر بسببِ أنهم أحْرَقوا المؤمنين.
فيحتمل أن يكونَ العذاب الأوَّل عذاب برْد والثاني عذاب إحراق، وأنْ يكون الأوَّل عذابَ إحراق، والزائد على الإحراق أيضًا إحراق، إلاَّ أن العذاب الأوَّل كأنَّه خرَج عن أن يُسمَّى إحراقًا بالنسبة إلى الثاني؛ لأنَّ الثاني قدِ اجتمع فيه نوعَا الإحراق فتكامل جدًّا، فكان الأول ضعيفًا، فلا جرمَ لم يُسمَّ إحراقًا.
القول الثاني: أنَّ قوله: ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾ إشارة إلى عذابِ الآخِرة: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ إشارة إلى ما ذكَرْنا أنَّ أولئك الكفَّار ارتفعتْ عليهم نارُ الأخدود فاحترَقوا بها.
لما ذكَر الله - سبحانه وتعالى - مصيرَ الكافرين أعقَبه بذِكر مصير المؤمنين فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البروج: 11].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي: الذين جمعوا بيْن الإيمان الصادِق والعمل الصالح: ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾؛ أي: لهم البساتين والحدائق الزاهِرة التي تجري مِن تحت قُصورها أنهار الجنة - وهي أنهار الخمْر واللبن والعسَل؛ ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾؛ أي: ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادةَ ولا فوزَ بعده.
وكيف لا يكون ذلك هو الفوزَ الكبير، وهُم الذين جعلهم الله - سبحانه وتعالى - مِن أهل الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذن سمِعتْ ولا خطَر على قلْب بشَر، وحسبنا أن نعرِف أدْنَى أهل الجنة منزلةً وآخر مَن يدخل الجنة لنعلم يقينًا أنَّ ذلك هو الفوز الكبير:
ففي صحيح مسلم عن المغيرة بنِ شُعبة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((سأل موسى ربَّه: ما أدْنى أهل الجنة منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدَما أُدخل أهلُ الجَنَّةِ الجنةَ، فيقال له: ادخلِ الجنة، فيقول: أي ربِّ؛ كيف وقَدْ نزل الناس منازلَهم وأخذوا أخذاتِهم؟! فيقال له: أترضَى أن يكون لك مِثل مُلْك مَلِك مِن ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول: لكَ ذلك ومِثله، ومثله، ومِثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيتُ ربِّ، فيقول: هذا لكَ وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهتْ نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيتُ رب، قال ربِّ: فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُ غرْسَ كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أُذن ولم يخطرْ على قلبِ بشَر، قال: ومِصداقه في كتابِ الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17].
وفيه أيضًا عن عبدِالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنِّي لأعلمُ آخِر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يخرُج من النار حبوًا، فيقول الله - تبارك وتعالى - له: اذهب فادخلِ الجنة، فيأتيها فيخيَّل إليه أنَّها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربِّ؛ وجدتُها ملأى!! فيقول الله - تبارك وتعالى - له: اذهب فادخلِ الجنة، قال: فيأتيها فيخيَّل إليه أنها ملأى فيَرجع فيقول يا ربِّ: وجدتُها ملأى!! فيقول الله له: اذهبْ فادخلِ الجنة فإنَّ لك مِثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إنَّ لك عشرةَ أمثال الدنيا، قال: فيقول أتَسْخَر بي، أو أتضحك بي وأنتَ الملِك؟!)) قال: لقد رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضَحِكَ حتى بدتْ نواجذه، قال: فكان يقال: ذاك أدْنى أهلِ الجنة منزلةً.
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنِّي لأعرف آخِر أهل النار خروجًا مِن النار: رجلٌ يخرج منها زحفًا، فيقال له: انطلقْ فادخلِ الجنة، قال: فيذهب فيدخُل الجنة فيجِد الناس قدْ أخذوا المنازل، فيُقال له: أتذكُر الزمانَ الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنَّ، فيتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيتَ وعشرة أضعاف الدنيا، قال: فيقول: أتسْخَر بي وأنت الملِك؟!)) قال: فلقدْ رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ضحِك حتى بدتْ نواجذه.
وفيه أيضًا عنِ ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: آخِر مَن يدخُل الجنة رجلٌ، فهو يمشي مرةً، ويكبو مرةً، وتسفعه النار مرةً، فإذا ما جاوزها التفَتَ إليها فقال: تبارك الذي نجَّاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فتُرفَع له شجرةٌ، فيقول: أي ربِّ، أدْنِني من هذه الشجرة فلأستظلّ بظلِّها وأشرَب مِن مائها، فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: يا ابن آدم، لعلِّي إن أعطيتُكها سألتَني غيرَها، فيقول: لا يا ربِّ، ويعاهده ألاَّ يسأله غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى ما لا صبرَ له عليه، فيُدنيه منها فيستظلُّ بظلها ويشرَبُ مِن مائها، ثم تُرفَع له شجرةٌ هي أحسنُ مِن الأولى، فيقول: أي ربِّ، أدْنِني من هذه لأشربَ مِن مائها وأستظل بظلِّها، لا أسألك غيرَها، فيقول: يا ابن آدم، ألَمْ تعاهدني ألاَّ تسألني غيرها؟! فيقول: لعلي إنْ أدنيتُك منها تسألني غيرَها فيعاهده ألاَّ يسأله غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرَى ما لا صبرَ له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلِّها ويشرَب مِن مائها، ثم تُرفَع له شجرةٌ عندَ باب الجنة هي أحسنُ مِن الأُوليين، فيقول: أي ربِّ أدْنِني من هذه لأستظلَّ بظلِّها وأشرَب مِن مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألَمْ تُعاهدني ألاَّ تسألني غيرها؟! قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرَها، وربُّه يعذره؛ لأنَّه يرى ما لا صبرَ له عليها فيُدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصواتَ أهل الجنة فيقول: أي ربِّ أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدَمَ، ما يصريني منك؟! أيُرضيك أنْ أعطيَك الدنيا ومثلَها معها، قال: يا ربِّ أتستهزئ منِّي وأنت ربُّ العالمين)).
فضحِك ابنُ مسعود - رضي الله عنه - فقال: ألاَ تسألوني ممَّ أضحَك؟! فقالوا: ممَّ تضحَك؟ قال: هكذا ضحِك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ممَّ تضحَك يا رسول الله؟ قال: مِن ضَحِك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ منِّي وأنت ربُّ العالمين، فيقول: ((إنِّي لا أستهزئ منكَ، ولكني على ما أشاء قادرٌ)).
ورِضا الله وإنعامه على الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات يتمثَّل في الجنة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البروج: 11]، وهذه هي النجاةُ الحقيقيَّة: ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 11] والفوز: النجاة والنَّجاح، والنجاة مِن عذاب الآخِرة فوز، فكيف بالجنَّات التي تجْري مِن تحتها الأنهار؟!
فبهذه الخاتمة يستقرُّ الأمْر في نصابه، وهي الخاتمة الحقيقيَّة للموقِف، فلم يكُن ما وقَع منه في الأرْض إلا طرفًا مِن أطرافه، لا يتمُّ به تمامه، وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيبُ الأوَّل على الحادِث؛ لتستقرَّ في قلوب القِلَّة المؤمنة في مكَّة، وفي قلوبِ كلِّ فئة مؤمِنة تتعرَّض للفتنة على مدار القرون، ثم تتوالى التعقيبات.
• ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12]، وهذه الجملة استئنافٌ خُوطبَ بهِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إيذانًا بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيبًا موفُورًا منْ مضمونِه، كما ينبئُ عنْهُ التعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ معَ الإضافةِ إلى ضميرِه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والبطشُ: الأخذُ بعُنْفٍ، وحيثُ وُصِفَ بالشدَّةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقَم، وهو بطشُه بالجبابرةِ والظَّلمة، وَأخذُه إيَّاهُم بالعذابِ والانتقام، كقولِه - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
• ﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ [البروج: 13]؛ أيْ: هُو يُبدْئ الخَلق، وَهُوَ يعيدُه مِنْ دون دَخْلٍ لأحدٍ في شيءٍ منْهُما، ففيه مزيدُ تقريرٍ لشدَّةِ بطشِه، أو: هُو يبدئُ البطشَ بالكَفرةِ في الدُّنيا وَيُعيدُه في الآخرةِ.
وإظهار حقيقة البطْش وشدَّته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مرَّ في الحادث من مظهر البطْش الصغير الهزيل، الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرًا شديدًا، فالبطش الشديد هو بطْشُ الجبَّار الذي له مُلك السماوات والأرض، لا بطش الضِّعاف المهازيل الذين يتسلَّطون على رقعةٍ من الأرض محدودة، في رقعةٍ من الزمان محدودة.
ويُظهر التعبيرُ العلاقةَ بين المخاطب، وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقائل - وهو الله - سبحانه وتعالى - وهو يقول له: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12]، ربّك الذي تنتسب إلى رُبوبيته، وسنَدك الذي تركَن إلى معونته، ولهذه النِّسبة العظيمة الجليلة قيمتُها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجَّار بالمؤمنين!
والبَدء والإعادة وإنِ اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة، إلا أنهما حَدَثانِ دائبانِ في كلِّ لحظة من ليلٍ أو نَهار، ففي كلِّ لحظة بَدء وإنشاء، وفي كلِّ لحظة إعادةٌ لما بلِي ومات.
• ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ [البروج: 14]، والمغفرة تتَّصل بقوله مِن قبل: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾ [البروج: 10]، فهي مِن الرحمة والفضْل الفائض بلا حدود ولا قيود، وهي البابُ المفتوح الذي لا يُغلَقُ في وجهِ عائدٍ تائب، ولو عظُم الذنب وكَبُرت المعصية.
أمَّا الود، فيتَّصل بموقف المؤمنين الذين اختاروا ربَّهم على كلِّ شيء، وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم - الذي لا يماثل ودَّ المخلوقين - حين يرفع الله عبادَه الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبةٍ يتحرَّج القلم مِن وصفها، لولا أن فضلَ الله - سبحانه وتعالى - يجود بها.
إنَّها درجة الودِّ من الله لأودّائه وأحبائه المقرَّبين، فماذا تكون الحياةُ التي ضحّوا بها وهي ذاهبة؟! وماذا يكون العذابُ الذي احتملوه وهو موقوت؟! ماذا يكون هذا إلى جانبِ قطرةٍ من هذا الود الحلو، وإلى جانب لمحةٍ من هذا الإيناس الحبيب؟!
﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]، إنَّ عبيدًا من رقيقِ هذه الأرض؛ عبيد الواحد مِن البشَر، ليلقُون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمِه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه، وهو عبد وهم عبيد، فكيف بعبادِ الله؛ الذين يؤنسهم الله بودِّه الكريم الجليل، الله: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴾ [البروج: 15] العالي المهيمن الماجِد الكريم؟! سبحانه وتعالى.
ألاَ هانتِ الحياة وهان الألَم وهان العذاب، وهان كلُّ غال عزيز
في سبيل لمحة رِضا يجود بها المولَى الودود ذو العَرْش المجيد.
وإنَّما أضاف العَرْش إلى الله - سبحانه وتعالى - وخصَّه بالذِّكر؛ لأنَّ العرش أعظم المخلوقات، وأوسع مِن السماوات السبع، وخلقه بهذا الوصف يدلُّ على عظمة خالقه {المَجِيد}؛ أي هو - سبحانه وتعالى - المجيد العالي على جميع الخلائق المتَّصف بجميع صِفات الجَلال والكَمال.
• ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]؛ أي: يفعل ما يشاء ويحكُم ما يُريد، لا معقِّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه؛ أي: لا يمتنع عليه شيء يريده؛ رُوي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قيل له وهو في مرَض الموت: هل نظَر إليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا: فماذا قال؟ قال: قال لي: إني فعَّال لِمَا أُريد.
﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ هذه صِفته الكثيرة التحقُّق، الدائبة العمل، فعَّال لما يُريد، فهو مطلَق الإرادة، يختار ما يشاء؛ ويفعَل ما يريده ويختاره، دائمًا أبدًا، فتلك صفته - سبحانه وتعالى - يُريد مرة أن ينتصرَ المؤمنون به في هذه الأرْض لحِكمة يُريدها، ويُريد مرةً أن ينتصر الإيمان على الفِتنة وتذهب الأجسامُ الفانية لحِكمة يُريدها، يُريد مرةً أن يأخذ الجبَّارين في الأرض، ويريد مرةً أن يمهلهم لليوم الموعود؛ لحِكمة تتحقَّق هنا وتتحقق هناك، في قدَره المرسوم.
فهذا طرف مِن فِعله - سبحانه وتعالى - لما يُريد، يناسِب الحادث ويناسِب ما سيأتي مِن حديث فرعون وثمود، وتبقَى حقيقة الإرادة الطليقة والقُدرة المطلَقة وراءَ الأحداث ووراءَ الحياة والكون، تفعَل فِعلها في الوجود.
• ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، وهاك نموذجًا مِن فعله {لِمَا يُرِيدُ} - سبحانه وتعالى -: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ [البروج: 17 - 18]، وهي إشارة إلى قصَّتين طويلتين؛ ارتكانًا إلى المعلوم مِن أمرهما للمخاطبين، بعدَما ورَد ذكرهما كثيرًا في القُرآن الكريم، ويُسمِّيهم الجنود؛ إشارةً إلى قوَّتهم واستعدادهم، هل أتاك حديثُهم؟ وكيف فعل ربُّك بهم ما يُريد؟!
وهما حديثانِ مختلفانِ في طبيعتهما وفي نتائجهما، فأما حديثُ فِرعون: فقد أهلَكه الله وجُندَه، ونجَّى بني إسرائيل، ومكَّن لهم في الأرض فترةً؛ ليحقِّق بهم قدرًا مِن قدَره، وإرادة مِن إرادته، وأمَّا حديث ثمود: فقدْ أهلكهم الله عن بكْرةِ أبيهم، وأنجَى صالحًا والقلةَ المؤمنة معه؛ حيث لم يكُنْ بعد ذلك ملك ولا تمكين، إنَّما هي مجرَّد النجاة مِن القوم الفاسقين.
وهُما نموذجان لفِعل الإرادة، وتوجه المشيئة، وصورتان مِن صُور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقَّعة، إلى جانبِ الاحتمال الثالِث الذي وقَع في حادث الأخدود، وكلها يعرِضها القرآن للقلَّة المؤمنة في مكَّة، ولكلِّ جيل مِن أجيال المؤمنين.
• وفي الخِتام يجيء إيقاعانِ قويَّان جازمان، في كلٍّ منهما تقرير، وكلمة فصْل وحُكم أخير: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 19 - 20].
فشأن الكفَّار وحقيقة حالهم أنَّهم في تكذيب يُمسُون به ويُصبحون؛ ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]، وهم غافِلون عمَّا يُحيط بهم من قهْر الله وعِلمه، فهم أضعفُ مِن الفئران المحصورة في الطوفان العميم!
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: 21 - 22]، والمجيد الرَّفيع الكريم العريق، وهل أمجد وأرْفَع وأعرق مِن قول الله العظيم؟! وهو في لوحٍ محفوظ، لا نُدرك نحن طبيعتَه؛ لأنَّه مِن أمر الغيب الذي تفرَّد الله بعِلمه، إنَّما ننتفع نحن بالظل الذي يُلقيه التعبير، والإيحاء الذي يترُكه في القلوب، وهو أنَّ هذا القرآن مصونٌ ثابت، قوله هو المرجِع الأخير في كلِّ ما يتناوله مِن الأمور، يذهب كل قول، وقوله هو المرعي المحفوظ.
ولقدْ قال القرآنُ الكريم قوله في حادِث الأخدود،
وفي الحقيقة التي وراءَه.. وهو القول الأخير.
وتَنتهي رِواية الحادث في هذه الآيات القِصار، التي تملأ القلبَ بشُحنة من الكراهية لبشاعةِ الفِعلة وفاعليها، كما تَستجيش فيه التأمُّلَ فيما وراء الحادث ووزنه عندَ الله وما استحقَّه مِن نقمته وغضبه، فهو أمرٌ لم ينتهِ بعدُ عندَ هذا الحد، ووراءَه في حسابِ الله ما وراءَه.
كذلك تَنتهي رواية الحادث وقد ملأتِ القلب بالروعة: روعة الإيمان المستعلِي على الفِتنة، والعقيدة المنتصِرة على الحياة، والانطلاق المتجرِّد مِن أوهاق الجِسم وجاذبية الأرض، فقد كان في مَكِنَّةِ المؤمنين أن ينجُوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدُّنيا قبل الآخِرة؟! وكم كانتِ البشرية كلها تخسَر؟! كم كانوا يخسرون وهم يَقتُلون هذا المعنى الكبير: معنى زَهادة الحياة بلا عَقيدة، وبشاعتها بلا حريَّة، وانحطاطها حين يُسيطِر الطغاة على الأرواح بعدَ سيطرتهم على الأجساد!
إنَّه معنًى كريمٌ جدًّا، ومعنًى كبيرٌ جدًّا، هذا الذي ربِحوه وهم بعدُ في الأرض، ربِحوه وهم يجدون مسَّ النار فتحترق أجسادُهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار! وبعدَ ذلك لهم عندَ ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب، يعقب به السِّياق والكون كله في تجدُّد مستمر، وفي بِلًى مستمر.
وفي ظلِّ هذه الحرَكة الدائبة الشاملة من البَدء والإعادة يبدو حادث الأُخدود ونتائجه الظاهِرة مسألةً عابرة في واقِع الأمر وحقيقة التقدير، فهو بدءٌ لإعادة، أو إعادة لبَدء، في هذه الحرَكة الدائبة الدائرة.
والله وليُّ التوفيق.
.... يتبع إنْ شاء الله تعالى.
محمود العشري
كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: