مدخل إلى علم التجويد
اعلم - أخي يا صاحب القرآن - أن من الحيفِ الحكمَ المسبق على الشيء قبل تصوره وذوقه وشمه، وأن من ظلم المعرفة إصدار فتوى مسبقة قبل الاطلاع والتأمل، وسماع الدعوى، وقراءة الحجة، ورؤية البرهان.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وهيِّئ لنا من أمرنا رَشَدًا.
أما بعد:
فإن الله - سبحانه وتعالى - لَمَّا أنزل القرآن الذى أضاء به القلوب، وأوضح به المسالك والدروب، وأبان به الأخطاء والعيوب، ووعد مَن تمسَّك بالعمل بما فيه الوصولَ إلى أعلى وأغلى مطلوب، وجعله نبراسًا على مدى الزمان في كل شروق وغروب - اصطفى من عباده حملةً لهذا الكتاب، وأوجب عليهم تجويدَه ووَعَدهم على ذلك جزيلَ ثوابه، ووفَّقهم للمداومة على قراءته وإقرائه، وسقاهم لذيذَ شرابه، وخصَّهم بمزايا بين العباد وجعلهم من خواصِّ أحبابه.
فسبحانه من إلهٍ اختارهم وفضَّلهم على مَن سواهم لحفظ كتابه الكريم، وصَوْنه عن التبديل والتغيير والتحريف والتخريم، فحَفِظوه وصَانُوه من النقص والزيادة والتأخير والتقديم، وحرَّروا طُرُقه ورواياته، وأوضحوا وجوهَ إعرابه، وبيَّنوا مخارج حروفِه وصفاتها، وحقَّقوا كيفية النطق بمفرداتها ومركباتها، وعلموا كيفية النزول وسببه، والمحكم والمتشابه، وفرَّقوا بين مفخَّمه ومرقَّقه، ومخفاه ومُدْغَمه، وميَّزوا بين مقصوره وممدوده، ومختلَسه ومتمَّمه، وعرفوا أنواع وَقفِه، وحثُّوا على تعليمه وتعلُّمه؛ حتى يبقى الكتاب غضًّا طريًّا كما أُنزل من غير تحريف ولا تبديل، كما وعد بذلك الرب الجليل؛ حيث قال في محكم التنزيل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
فطوبى لمَن تلاه حقَّ تلاوته، حتى صار ممتزجًا بلحمه ودمه وأعصابه، وكان لا ينطلقُ إلا مِن خلاله، ولا يتحاكمُ إلا إليه وإلى ما أُمِر به من السنة الصحيحة، وكان يعيشه بقلبه وقالبه، فحينئذٍ يصبح العالم كله - والله - تابعًا له، يسير الجميع وراءه، ويبتغون رضاءه، فتتم له السيادة العظمى في الدنيا والآخرة بهذا القرآن؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضع به آخَرين.
ولكن - للأسف - فرَّط المسلمون في نبراس حياتهم، والنعمة الكبرى التي منَّ عليهم بها ربهم، فتركوا كلامَ ربهم، ونبذوه وراء ظهورهم، أو اتَّخذوه زينة لبيوتهم ومتاجرهم وسياراتهم، وحتى بعض الذين اهتمُّوا به شيئًا جعلوه عادة تألفُه أسماعهم في مناسباتهم، أو مجرَّد ألفاظ تتردَّد على ألسنتهم، من غير أن يكون لها أثر في سمت أو إصلاح أو عمل، وكان نتيجة ذلك أن ضاعتِ الدنيا، فصِرْنا أذلَّ أمم الأرض، وضاع الدين؛ فقلَّت السُّنة، وانتشرت البدعة، وكاد الحق يغرق بين دوَّامات الباطل، لولا أن الله - سبحانه وتعالى - قضى بحكمته أن حجته لا بد أن تظلَّ باقية على وجه الأرض.
وفي ظل هذه الصحوة المباركة التي يعيشها المسلمون في هذه الآونة، وفَّق الله -تعالى- رجالاً حملوا أمانة إعادة الأمة إلى منهج ربها ونبيِّها، وردها إلى إسلامِها على أكتافهم، وواكب ذلك اهتمامٌ ببعض العلوم - كعلم الحديث مثلاً وغيره - وكان من بين تلك العلوم علمُ التجويد، الذى هو أول خطوة على طريق تدبُّر كتاب الله رب العالمين؛ حيث إن النطق الصحيح للكلمات يساعد كثيرًا في الفهم الصحيح لمعانيها، وباب اللحن - الجلي، والخفي، ولحون الأداء - خير شاهد على ما أقول.
والتجويد في اللغة هو:
الإتقان وإعطاء كل شيء حقه، وتأمل معي حال الدول الكبرى؛ فبالتجويد في العمل سبقتِ اليابانُ الأممَ، وبالتجويد في الإدارة وشؤون الدنيا فَرَضت أمريكا سيطرتَها على العالم - وهذا في شؤون الدنيا - وذلَّ المسلمون ذلاًّ ليس بعده ذل!
أما المسلمون الأوائل، فكان التجويد في كل شيء شعارَهم، علَّمهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما علَّمه جبريل - عليه السلام - عن ربه إتقانَ تلاوة القرآن وحسنَ النطق به، حتى صار ذلك منهجَ حياتهم؛ فمن تجويد القرآن انطلقوا إلى تجويد الإدارة والتجارة والصناعة، وأحسنوا تجييش الجيوش، وأحكموا الخُطَط، وساسوا الأمم، وفَتَحوا الدنيا، وهَزَموا الروم وفارس، ونالوا خيري الدنيا والآخرة..
ولقد جعل الله -تعالى- الخير في هذه الأمة باقيًا إلى يوم القيامة، فلم تعدم حتى في أحلكِ مواقفِها علماء مخلصين، يذكِّرونها علوم الدين، ويُحْيون ما درس منها، وكان من أجَلِّ العلوم التي تفرَّغ لها العلماء بالتصنيف علم التجويد، فأفردوا له مصنفاتٍ بعد أن كان مباحث في ثنايا كتب التفسير واللغة أو غير ذلك، وكان متن تحفة الأطفال وكذا المقدمة الجزرية، مما انتشر وذاع وشاع بين المسلمين، وشَرَحَهما عددٌ ليس بالقليل.
ولما تبنَّيتُ مشروعَ الإقراء في الريف المصري، طلب إليَّ تلامذتي أن أُسعِفهم بشروحٍ على المتون التي قررتُها عليهم - وهي التحفة، والجزرية، والسلسبيل الشافي، وبعض المتون الخاصة بطرق الإمام حفص بن سليمان - فأحببتُ أن أَضرب بسهمٍ في هذا المنوال، وأُدلي بدلوي، وإن لم أكن أهلاً لذلك، ولكن أقدمتُ على هذه الشروح رجاءَ أن أُدرَج في مثل هذه المسالك، وأن يقبلَنِي الله -تعالى- بمثل هذا العمل القليل، ويتجاوز به عن الزلل الكثير، وأن يجعله ذكرى طيبة لي في الحياة، وذخيرة لي يوم ألقاه؛ فإن عملاً مثل هذا لو تقبَّله الله -تعالى- بفضله وكرمه، فلن ينقطع ثوابُه عني إلى يوم يحشرون، وإلا فعسى دعوة صالحة من رجل صالح استفاد منه، كلمة تنجيني، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89].
ولكن قبل الدخول في شرح هذه المتون أحبُّ أن أقدِّم بمقدِّمة طويلة، كمدخلٍ إلى علم التجويد، أتناول فيها بعض المسائل المهمة؛ حتى لا أضطرَّ إلى تكرارِها في شرح كل متن على حِدَةٍ، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل، وبعد أن كانت هذه المقدِّمة في أول شرح التحفة، مما ضاعف حجمها، رأيتُ أن أُفرِدَها في رسالة مستقلة، فأسأل الله -تعالى- النفع والقبول.
واعلم - أخي يا صاحب القرآن - أن من الحيفِ الحكمَ المسبق على الشيء قبل تصوره وذوقه وشمه، وأن من ظلم المعرفة إصدار فتوى مسبقة قبل الاطلاع والتأمل، وسماع الدعوى، وقراءة الحجة، ورؤية البرهان.
فاصبر، وإن وجدت - رحمك الله - خيرًا، فادع الله أن يجزيني عنه خيرًا، والحمد لله -تعالى- وحدَه على كل حال، وإن عثرتَ على شيء مما طغى به القلم، أو زلَّت به القدم، فلتدرأ بالحسنة السيئةَ، وأحضر بقلبِك أن الإنسان محلُّ النسيان، وأن كل بني آدم خطَّاء، وأن الصفح عن عثرات الضعاف من شِيَم الأشراف، وأن الحسنات يُذهِبن السيئات، واصدقْ ربك في النصيحة؛ فهي الدين كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم.
إنْ تجدْ عيبًا فسُدَّ الخَلَلا *** جَلَّ مَن لا عيبَ فيه وَعَلا
والله أسأل أن يغفر لي ذنوبي، ويستر عيوبي في الدنيا والآخرة، وأن يتفضَّل دائمًا عليَّ وعلى كل مَن أنصفني - في شروحي وبحوثي - بالقبول، وبلوغ كل مأمول، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبي ونعم الوكيل، والحمد لله حمدًا لا يفنَى ما بقيت الليالي والأيام، ولا يزول وإن زال دوران الشهور والأعوام، والصلاة والسلام على رسول الله الكاشف بأنوار الوحي - بإذن ربه - كل ظلام، وعلى آله وصحبه الكرام، ومَن تبعهم من الأئمة الأعلام.
محمود العشري
كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: