اعتراف الرسول بغير المسلمين
منذ الأيام الأولى لهذه الدعوة الإسلامية الكريمة، والقرآن يتنزل على رسول اللهيشرح له قصص الأنبياء الذي سبقوه، ولا يكتفي القرآن بذكر أخبارهم دون تعليق، بل إنه على الدوام يعظِّم ويبجل من شأن كل الأنبياء، وبلا استثناء..
منذ الأيام الأولى لهذه الدعوة الإسلامية الكريمة، والقرآن يتنزل على
رسول اللهيشرح له قصص الأنبياء الذي سبقوه، ولا يكتفي القرآن بذكر
أخبارهم دون تعليق، بل إنه على الدوام يعظِّم ويبجل من شأن كل
الأنبياء، وبلا استثناء.
وقد استمر هذا النهج الكريم في المدينة المنورة حتى بعد الصراعات
التي دارت بين المسلمين واليهود تارة، وبينهم وبين النصارى تارة أخرى،
وما توقَّف القرآن عن الثناء على أنبياء الله عليهم السلام، وفي
مقدمتهم موسى وعيسى -عليهما السلام- أنبياء اليهود والنصارى..
فها هو القرآن يتحدث عن موسى u -على سبيل المثال- فيقول: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14].
والأمر كذلك بالنسبة لعيسى؛ فموسى وعيسى -عليهما السلام- يذكرهما
ربنا كاثنين من أُولي العزم من الرسل؛ فيقول سبحانه في حقهما: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}
[الأحزاب: 7].
فإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه السورة -وهي سورة الأحزاب- قد نزلت
بعد خيانة يهود بني قريظة للمسلمين، ومحاولتهم استئصال كافة المسلمين
من المدينة، أدركنا مدى التكريم الإلهي لموسى وعيسى عليهما السلام
-وهما من أنبياء بني إسرائيل- وأدركنا أيضًا مدى الأمانة التي اتصف
بها الرسول؛ إذ ينقل تكريم الله لهؤلاء الأنبياء العظام على رغم خيانة
أقوامهم وأتباعهم.
ولم يكن هذا الاحتفاء والاحترام لهذين الرسوليْن العظيمين أمرًا
عرضيًّا عابرًا في القرآن الكريم، بل كان متكررًا بشكل لافت
للنظر..
فعلى الرغم من ورود لفظ "محمد" أربع مرات فقط، ولفظ "أحمد" مرة واحدة
فقط، نجد أن لفظ "عيسى" قد جاء خمسًا وعشرين مرة، ولفظ "المسيح" إحدى
عشرة مرة، بمجموع ست وثلاثين مرة!! بينما تصدر "موسى" قائمة الأنبياء
الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم، حيث ذُكر مائة وأربعين مرة!! ويمكن
لمن يريد الاستزادة من مظاهر تكريم الإسلام للأنبياء السابقين
واعترافه بأقوامهم أن يراجع كتابنا (فن التعامل النبوي مع غير
المسلمين).
ونتساءل: أبَعْد كل هذا الذكر والتعظيم يقال: إن المسلمين لا يعترفون
بغيرهم؟!!
مَن مِن أهل الأرض يعترف بنا كما نعترف نحن بغيرنا؟!
وعلى الرغم من قناعتنا أن رسول الله هو أفضل البشر وسيد الخلق، إلا
أن القرآن الكريم يأمرنا بالإيمان بجميع الأنبياء دون تفرقة بينهم،
فيقول اللهيصف الإيمان الأمثل الذي يجب أن تتحلى به أمة الإسلام:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:
136].
ثم إنه كان يدرك أن بقاء اليهود والنصارى إلى يوم القيامة أمر
مُسَلَّم به، وقد أخبر بذلك في روايات عديدة غزيرة.. وإن كان وجودهم
من الأمور المقطوع بها، فلا بُدَّ -إذن- من الاعتراف بهم والتعايش
معهم، والبحث عن أفضل الوسائل والطرق للتعامل والتفاعل مع وجودهم.
ولذلك نرى أن الرسول قَبِل -ببساطة- فكرة التعايش مع اليهود من أول
يوم دخل فيه المدينة المنورة، بل قام بعقد معاهدات مهمة معهم، كما
سنفرد لذلك كتابًا مستقلاًّ إن شاء الله تعالى.
ولم يشأ لهذه المعاهدات أن تنقضي أو تُلغى أبدًا، وإنما كان النقض
والغدر يأتي دائمًا من قبل اليهود، وقد ظل النبيُّمحافظًا على مبدأ
التعايش السلمي والاعتراف بالآخرين، ما دام لم يحدث منهم اعتداء ظالم
أو تهديد خطير، بل إنه كان يتجاوز كثيرًا عن تعديات غير مقبولة من أجل
أن تنعم المدينة بالاستقرار.
ولم يُغيِّر الرسول هذا النهج إلى آخر حياته، حتى إنه قام بعمل قد
يستغربه الكثيرون، وهو أنه اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى
أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ!!
ووجه الاستغراب أن الصحابة الأغنياء كانوا كُثُرًا في المدينة
المنورة، ولم يكن عندهم أغلى من رسول الله، فكان من الميسور أن يُهدَى
إليه الطعام، أو على الأقل أن يَقترض منهم، أو يرهن درعه عند أحدهم،
ولكن الواضح من الموقف أنهفعل ذلك لإثبات جوازه للمسلمين، ولتوجيه
المسلمين إلى جعل العلاقة بينهم وبين اليهود طبيعية، ما داموا يحترمون
جوار المسلمين ولا يعتدون على حرماتهم، ولو وصل الحد إلى رهن الدرع،
وهو شيء عسكري مهم كما هو معلوم، ولكنه كان لإثبات حسن النوايا إلى
أكبر درجة.
وكما تعامل رسول الله مع اليهود فعل ذلك أيضًا مع النصارى، وقام بعقد
المعاهدات معهم أكثر من مرة واعترف بوجودهم مع اختلافه معهم في
العقيدة في أكثر من جزئية، ومنها جزئيات خطيرة لا تحتمل إلا الشرك
الصريح بالله، ومع ذلك لم يُكْرِههُم على تغيير دينهم، على الرغم من
خوفه على مصيرهم. يقول تعالى مخاطبًا النبيَّ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي
الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
إن المساحة المتاحة فقط هي مساحة الدعوة بالتي هي أحسن، ومساحة الشرح
الجلي والتوضيح المبين، ثم بعد ذلك يُترك الأمر تمامًا للإنسان ليختار
ما يشاء، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ
يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}
[الكهف: 29].
ومن هذا المنطلق قَبِل رسول اللهأن يَبقى اليهود على يهوديتهم، وأن
يَبقى النصارى على نصرانيتهم، وأن يستمر التعاملُ بصورةٍ سِلميَّة
طيبة بين الطوائف كلها[1].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نشر في جريدة الأهرام تحت عنوان "اعتراف الإسلام بالآخر" بتاريخ
22-1-2011م.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف: