من مقامات النبوة - (3) مقام الرسالة

منذ 2018-03-04

لك أن تتَأمل وتتَفكر في حَاله بهذا المَقام الذي قَامه على الصَفا، وما حَدث له، وكيف أنه قَام وحيداً بلا أتباعٍ ولا أنصارٍ ولا أعوانٍ..

في إِحدَى ليالي الصَيف القائظة شديدة الحَر حيثُ كانت تُسيطَر على فجاج مَكة وسُهولهَا رَمضاء شديدة التوهج والحَرارة، وكان رجال مكة في هذه اللحظَات كلٌّ مُنهمِك في عَمله وشُغلِه، وأما النِساء في تلك القَرية الصَغيرة المحُاطة بالجِبال والتِلال والحِجارة فَبعضهن يخَبزن ويعجِن، والبعض قد أشغَلت يديها في الخِياطة وغَزل الصوف، ومنهن من هي في صراخ وضَجيج مع صِبيانهَا وأطفالهَا، كان ذلك اليوم كما سبقه من الأيَام معتاداً على نمط المعيَشة المعَروفة، ونهْج الحيَاة السَابق، بالنسبة لأهَل مكة ورجالها فلا جَديد ولا غَريب في هذه الأَثناء!! ولكن البَشرية كُلها، والتَاريخ بأكملِه، والكَون بأَسرِه يتطلع إلى ذلك الجَبل الشَاهق الطَويل، الذي سَينعقد فيه ويحَدث عِنده أعَظم لِقاء وأجَل حَدث مَر على الحياة الدنيا بأطوارها، أتدريْ من المؤسس لهذا اللِقاء؟ وهل تَعرف تلك الشخصيات التي ستَلتقي فيه؟ وهل تَعلم شئياً عن المادة والسبَب الذي عُقِد من أجْله؟ إنها أسئلةٌ كَثيرة تتهَافت إلى الذِهن، وتتَسابق إلى الفؤاد لتبَحث لها عن إجابة في واقع الحِس المُشاهد!!

 

لقد كان المؤسس لهذا اللِقاء والآمر به في ذلك الزمان وفي تلك البُقعة من المكان هو " الله " خَالق الأكوان ومُصرِف الشَهور والأَعوام، وأما شَخصيات اللِقاء فهي بين أَزكى وأشرف رَجل من البشر، وأكرم وأجل مخلوق من الملائكة!! إنه بين روح القُدس جِبريل الوسِيط بين الله ورسله وأَعظم الملائكة خَلقَاً وأقربهم من الله، وبين محمد بن عبدالله سيد الثقلين وخَير المرسلين وخاتمهم.

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم مُتحنثاً في غَار حِراء في جَبل النور المجاور لمِكة فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ! فأخَذه فَغطه وضَمه ضَمة شديدة ثم قال: اقرأ ثلاثاً.. ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [1] فعندَ ذلك خَرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسرعاً إلى بيته يَرجف فؤاده، فلقي زوجهُ خديجة فحاورته ثم انطلَقت به لورقة بن نوفل ابن عَمها فكلمته في ما حَدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شَيخاً كبيراً قد كتب الإنجيل وعرفه، فأخبرها أن هذا هو النَاموس الذي أُنزل على موسى، وأعلمه أن ذلك علماً على نُبوته، وجلّى له ما يحَصل لأهل هذه المَقامات من البلاء، وأنهم يُضطَهدون ويخُرجون من دِيارهم، وتحُارب هذه الدَعوة وهذه القيم التي يحَملون، ثم تمثل وَرقة بعد ذلك بأبيات يخُاطب بها خديجة فيقول:

 

إن يكُ حَقاً يا خَديجة فاعلَمي *** حَديثَك إيانَا فأحمَد مُرسَلُ

وجبريل يأتيه ومِيكَال معهُمَا *** من الله وحْي يَشرحُ الصَّدر مُنزلُ

يَفوز بها من فَاز فيهَا بتوبةٍ *** ويَشقَى به العَاني الغَوي المظَللُ

فسُبحان من تهوي الرِّياح بأمرِه *** ومن هو في الأيَّام ما شَاء يفعَلُ 

ومن عَرشُه فوق السَّماوات كلهَا *** وأقضَاؤه في خَلقِه لا تُبدَّلُ

 

وذَهبت الأيام بعد ذلك اللقاء، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في غَار حراء قد تحَنث فيه شهراً، فلما قَضى تعبُده ونَزل من الغار واستَبطن الوادي ونَزل فيه سمِع صوتاً يُناديه، فالتفت يمنةً ويسرةً فلم يَر شيئاً!! ثم نَظر أمَامه وخلفه فلم يرَ شيئاً!! ثم رفعَ رأَسه إلى السماء فإذا جبريل على عَرش في الهواء، بين الأرض والسماء، فَخاف ورُعب من ذلك الموقف وهَلع من ذلك الجسم العظيم فأتى تَرجِفُ بوادِرهُ إلى بيته فدَخل على زوجه وهو يقول: دَثِّروني دَثِّروني!! فغَطوه بِلحَاف وصَبوا عليه ماءً، [2] وفي تلك اللحظة في ذلك الخوف نزل الوَحي السَماوي، والأمر الرباني من الله – عز وجل – بتبَليغ الرِسالة وتحَمُّل أعبَاء الدعوة:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ 1 قُمْ فَأَنذِرْ 2 وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ 3 وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ 4}  "إنه النِداء العلوي الجَليل، للأمر العظيم الثَقيل، نذارة هذه البَشرية وإيقَاظها، وتخَليِصها من الشَر في الدُنيا، ومن النَار في الآخرة، وتوجيههَا إلى الخَلاص قبل فوات الأوان.

 

إنه واجبٌ ثقيلٌ شاقٌ، حين يُناط بفردٍ من البشر، مهما يكن نبياً ورسولاً، فالبشرية من التَمرد والعصيان والضَلال والعتو والعِناد من هذا الأمر ما يجَعل من الدَعوة أصعب وأثقل ما يُكلّفَهُ إنسانٌ من المهامِ في هذا الوجود، لاسيمَا وأنها مهمَّةٌ تمتَد إلى قيَام السَّاعة، وتتكَفل بعلاج مشَاكل البشَرية كُلهَا في كل زمَان ومكَان إلى حين زوال الدُّنيا وفنَاء البشَرية.

 

ربـَّاه أي مقَامٍ هذا؟!! من يُطيـقه؟!ومن يَقدر عَليـه؟! ولكن: {الله أعْـلم حَيث يجْـعَل رسَالتَـه}.. إن كلَّ أحدٍ، وكل شيءٍ، وكل قيمةٍ، وكل حقيقةٍ صغيرٌ!! والله وحده هو الكبير.

 

وتتوارَى الأجَرام والأحجَام، والقُوى والقيم، والأحدَاث والأحَوال، والمعَاني والأشكَال، وتنَمحي وتَزول في ظِلالِ الجلالِ والكمالِ لله الواحد الكبير المتعال.

 

إنّ هذه الآيات توجيهٌ للرسول صلى الله عليه وسلم ليوَاجه نذارة البَشرية، ومتاعبها وأهوالها وأثقَالها، بهذا التَصور، وبهذا الشعور فيستَصغر كلَّ كَيد، وكل قوة، وكُل عَقبة، وهو يستَشعر أن ربه هو الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة" [3].

 

لقد قام صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر خيرَ قيام، فبدأ بِزوجه فكانت أول من آمن به وصدّق، وفي هذا بيان تأثير المرأة في الإسلام، وذلك أن أول من صدق بالرسالة، وتابع وواسى الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها.

 

 ثم عَرض ذلك على أبي بكر فما تَردد ولا تَلكأ، بل سُرعان ما آمن وصدّق وآزر النبي صلى الله عليه وسلم، وقام معه يَدعو إلى الله، فما ذَهب على إسلامه بِضعة أيام حتى أسَلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة، ثم أسلَم علي وزيد وبلال، ثم أتى الأمر الإلهي {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فقَام – صَلوات الله وسَلامه عَليه – على الصَفا وهتَف بأعلى صوته ليوصِل دعوة الله ورسَالته إلى كُل إنسان، يا صَباحاه!! يا صَباحاه!! فتَجمعت حوله قَبائل قريش ورِجالها ونِساؤها، فجعل يناديهم قبيلةً قبيلة، حتى وَصل إلى قبيَلته فجعل يُنادي بأسماء أعمَامه ليرى الناس أنه لا محاباة في دين الله فيقول: يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، بل هتف باسم ابنته ومهجة فؤاده فقال: يا فاطمة بنت محمد أنَقذي نفَسك من النار لا أُغني عنك من الله شيئا، [4] وفي هذه الأثنَاء وفي أول مَقام يَقومه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول خِطاب يُعلنه على الملأ، وهو يَقوم أمام البَشرية كُلها وهي تتخبط في ظُلمات الشِرك والأصنَام والعِصيان، ليدعُوها إلى تَوحيد العبادة لله، وأنه لاَ معبود ولا مألوه ولا مُطاع بحقٍّ إلا الله!! في هذه اللَحظات الحَرجة التي ينَتظر فيها رسَول الله ردّ الجماهير التي تِقف أمامه وتسَمع كَلامه، يقَوم عَمه وأَقرب النَاس إليه، الذي كَان من فرَحه بولاَدته أن أعَتق أمته عندما بَشرته بمولده، فماذا تَظن موقفه في هذه اللحظات وأمام هذه الكَلمات؟!! هل تظن أنه مؤيدٌ لذلك؟ أم مُصدق ومُناصر لهذه الدعوة الجديدة؟! لقد قام وهو ينفض الترَاب من يديه ويقول: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا!! فكَان لمقَام عَمه صَدمة مُفاجئة! ولكنّ عُمق الإيمان، ورسُوخ المبدأ، وصِدق الهَم الذي كان يحَمله جعَلته لا يعبؤ بمثل هذه المواقف التي تعترضه وتقف له في طريقه.

 

ولك أن تتَأمل وتتَفكر في حَاله بهذا المَقام الذي قَامه على الصَفا، وما حَدث له، وكيف أنه قَام وحيداً بلا أتباعٍ ولا أنصارٍ ولا أعوانٍ، وبحالِه بعد ثلاثٍ وعشرين سنة حِينما قَام في نفس ذلك الموطن وفي ذات البُقعة ولكنه هذه المَرة أمام ناظِرَيْه وبين يَديه مائة ألف رَجل كُلهم يلهجون بالتَلبية والوحدَانية لله!! وكل فَرد منهم يستنُّ بفعله ويأتم بتصرفاته!! فكيف تحَقق ذلك؟! وكيف وَصل إلى هذه الحال؟! وماذا كان بين هذا المَقام وذاك المَقام من الأحدَاث الجِسام والمَقامات العِظام!! هذا ما سَنُترجم بعضه في هذه الصَفحات التي صورت شيئاً من مقاماته، وبَذله، وتَضحِيته، وتَعبُده، ودَعوته، وشفَاعته، ورَحمَته، وتَربيَته، وشَجاعَته، وعنَاية الله به...!!

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.

المقال السابق
(2) ميلاد الحياة
المقال التالي
(4) مضى عهد النوم!