من مقامات النبوة - رحمة للعالمين (11)

منذ 2018-03-06

فإذا كانت هذه رحمته ووصيته بالحيوانات والبهائم التي لا تعقل، فكيف سيكون حاله مع من كرمه الله بالعقل من البشر؟! ولهذا اكتفيت بذلك عن ذكر حاله مع الناس ورأفته بهم.

لقد امتزَجت الرحمَة، وخالط الكرم، وضَوَّعت المحبة خَلايا دمه، ومنَاسم عُروقه، _عليه الصلاة والسلام_ فلم يعُد يبالي وينظر أوقَف من أجل مشكِلة ناقة وجمل، أم من أجل جَارية ضاقت بها الحيَل، وانقطعَت عليها السُّبل، أم لأجل صَبي أحب أن ينفُث مشَاعره، ويبُث هموم صبَاه، أم لأعرابي خلِق الثوب، متطَاير الشَّعر، جاف الطبَاع، كل ذلك في ميزانه سوَاء؛ وأن يقف لأجل قبيْلة بكاملها، أو سادَات قوم، أو فرسَان بواسِل، أو خطَباء مفَوهين، فلم يكن شرَف النبوة، وكَرَم الرسَالة، ورفعَة الجَاه، وعزُّ الجنَاب، يحول بينه وبين أن يمشي في حاجَة الصغِير قبل الكبير، والجَارية قبل السَّيد، والحيوان والبهيمَة والطيْر، ففي أحَد أسفاره ومعه أصحابُه – رضوان الله عليهم – ذهَب – عليه الصلاة والسلام – لحاجَة له، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «من فجَع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها» ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: «من حَرق هذه؟» قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربُّ النار» [1].

 

جَاءت إليه حَمَـامةٌ مشـتَاقة *** تشْكو إليه بقَلب صَبٍ واجِفِ

من أخْبَر الوَرْقاء أن مكَانه *** حَرَم وأنَّك ملجَأٌ للخَائفِ

 

ودخَل ذاتَ مرةٍ في نفَر من أصحَابه بستَاناً لرجل من الأنصَار، فإذا فيه جمَل: فما إن رأى رسُول الله حتى حَن الجمَل وذرَفَت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسَح ذفْرَاه فسَكن، ثم قال: "مَن ربُّ هذا الجمَل؟ " فقال فتى من الأنصَار هو لي يا رسول الله، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ألا تَتقي الله في هذه البَهيمة التي مَلكك الله إياها، فإنه شكَا إلي أنك تجيعُه وتدئِبُه!! [2].

 

حنَّت له النُّوق من وَاد العقِيق بكَت *** تجْـري بأحمَالهـا شَوقاً للقيَـاه

 

وفي حَجة الودَاع لما أرَاد – عليه الصلاة والسلام – أن ينْحَر الإبل للهَدْي كانت الإبل والنُّوق تتسَابق، وتتصَارع، أيهَا تتشرف وتحظى بنَحر رسول الله لها بيَده الشَّريفة [3]،  فإذا كانت هذه نوق وجمَال تَدافعت وبادَرَت لتحْظى بشرف النحْر باليَد فقط، فأين رجَال الإسْلام، وفتيَان الإيمان، وأحفَاد الكرَام، من بذل الغَالي والنفِيس، وإزهَاق الأرواح والمهَج، وتسْخير الأوقات والأموَال، طاعة لله واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم!! وأين من ادعَوا أنهم فدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهَاتهم وأنفسهم، فلم تُتَرجم ذلك أعمَالهم، ولم تقم شاهِدة على ذلك أفعَالهم، "فإن محَبة رسول الله ليسَت دعوى باللسَان، ولا هُيَاماً بالوجدَان، ولا عبَارات ترَدد، ولا كلمَات تقال، ولا شعَارات ترفَع، ولا مشَاعر تجيْش، ولا شعَائر تقَام فحسب"[4]، وإنما هو مع ذلك انقيَاد لله وللرسول، واتباع للمنهج  الذي يحمِله الرسول. ولما كان عليه الصلاة والسلام يخطُب على جذْع شجَرة فصنع له منبَر ليخطُب عليه، فلما صَعد على المنبر بكَى ذلك الجذع الذي كان يقُوم بجَانبه، حزْنا على فراق ذاكَ الجسَد الطَّاهر،، واللسَان الصَادق، واليَد الشَّريفَة، وحزن كذلك على موَائد الوَحي، ورياض الجنَّة، وبسَاتين الإيمان التي كانت تقَام بجَانبه، فنزَل الشفيق الرحيْم إلى ذلك الجِذع فاحتضَنه فجعَل يئن ويخفت صَوته كالصبي الذي يُسكَّت، حتى هدَأ وسَكن، فقال عند ذلك نبي الرحمَة: "والله لو تركتُه لحَن إلى يوم القيَامَة! [5]. وكان الحسَن البصْري إذا حَدث بهذا الحديث بكَى وقال: يا أهل الإيمان جذع يحِن إلى رسول الله، أفلا تحِن إليه قلوبُكم!!.

 

وكان يخفف الصلاة التي هي قرة عينه وأنس روحه من أجل بكاء صبي؛ لئلا ينشغل قلب أمه عليه.

 

وجاءه أحد أصحابه يسأل عن شفقة ورحمة يجدها في قلبه للبهيمة عند ذبحها فكان من سؤاله: يا رسول الله إني لأذبح الشاة، وأنا أرحمها - أو قال: إني لأرحم الشاة أن أذبحها - فقال: "والشاة إن رحمتها رحمك الله" [6].

 

وخرج صلى الله عليه وسلم في حاجة فمر ببعير مناخ على باب المسجد من أول النهار، ثم مر به آخر النهار وهو على حاله، فقال: أين صاحب هذا البعير؟! فابتغي فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في هذه البهائم، ثم اركبوها صحاحا، واركبوها سمانا" كالمتسخط آنفا [7].

 

ومر على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: "أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟! [8].

 

فإذا كانت هذه رحمته ووصيته بالحيوانات والبهائم التي لا تعقل، فكيف سيكون حاله مع من كرمه الله بالعقل من البشر؟! ولهذا اكتفيت بذلك عن ذكر حاله مع الناس ورأفته بهم.

 

كل القـُـلوب إلى الحبيب تميل *** ومعي بذلك شَاهد ودلــيل

أما الدلــيل إذا ذكَرت محمداً  *** ارت دمُوع العاشِقين تسِيل

هذا رسـُـول الله هذا المصطَفى *** هذا لرَب العَـالمين خليْل

هذا الذي رد العُــيون بكفه *** ابدت فوق الخدُود تسِـيل

هذا الغمـَامة ظللته إذا مشَى *** كانت تقيل إذا الحبـيْب يقيل

صلّى عليك الله يا عَـلم الهدى *** ما حَن مشتَاق وسـَار دليـْــل

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أخرجه أبو داود (4 / 367)، وصححه ابن الملقن، وقال ابن مفلح: إسناده جيد. البدر المنير (8 / 689)، الآداب الشرعية (3 / 357).

 [2]أخرجه أبو داود (2549)، وأحمد (1754)،وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.

المستدرك على الصحيحين (2 / 109).

 [3] الخبر عند الإمام أحمد (190986) وصححه شعيب الأرنؤوط.

 [4] ينظر: في ظلال القرآن (1 / 387).

 [5] أخرجه البخاري (875).

 [6]أخرجه أحمد (24 / 359)، وصححه الحاكم وابن القيم. المستدرك (4 / 257)، جلاء الأفهام (1 / 167).

[7] أخرجه أحمد (4 / 180 - 181)، وابن حبان (844) وقال الألباني: سنده صحيح على شرط البخاري. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 63).

 [8]رواه الطبراني في المعجم الأوسط (4 / 54)، والحاكم (4 / 257)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي والألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 64).

المقال السابق
(10) مقــام الإقـدام
المقال التالي
دلائل النبوة (12)