من مقامات النبوة - ورحل الحبِيب!! (16)

منذ 2018-03-07

فَلقَد كان فَقْده ووَفَاته – عليه الصَّلاة والسَّلام – أجَل وأخطَرَ مصيبَةٍ مَرت على تاريْخ الأرض، فَفَقد العُلمَاء والأوليَاء والكُبراء، والمجَاهدين والقَادة، والدُّعاةَ والمصْلحِين، لا يسَاوي ذرةً من ذَرات فَقد الحَبيب صلى الله عليه وسلم.

لما تكَامَلَت الدَّعوة، وكمُلت الرسَالة، وسَيطَر الإسْلام على جَزيرَة العَرَب، ودخَل الناس في دين الله أفواجَا، بَدأَت طَلائع التَّوديع، ومَلامح الفرَاق، ومعَالم الودَاع تَظهر وتلُوح، وأنزل الله – عز وجل – على نبيه سُورة النصْر ليبَلغه قرب أجَله، ودنُو رحيْله، فبدَأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتوديْع الأموَات قبل الأحيَاء، فعن أبي مُويهِبة مولى رسول الله قال: بعَثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَوف الليْل، فقال: "إني قَد أمِرت أن أستَغفِر لأهل هَذا البَقيْع، فانطَلق معي" فانطَلقْت معه فلما وقَف بين أظهُرهم قال: "السَّلام عليْكم أهل المقَابر، ليهنَأ لكم ما أصبَحتم فيه مما أصبَح الناس فيه، أقبَلت الفتَن كقطَع الليل المظْلم، يتبَع آخرُها أولَها، الآخرَة شَر من الأوْلى" ثم أقبل علي وقال: "يا أبا مُويهِبَة، إني قد أوتيْتُ مفَاتيح خزَائن الدنيَا والخُلد فيهَا ثم الجنَّة، فخُيرت بين ذلك وبين لقَاء ربي والجنَّة" قال: فقلت: بأبي أنتَ وأمي، فخُذ مفَاتيح خزَائن الدنيَا والخُلد فيها ثم الجنَّة، فقال: "لا والله يا أبا مُويهبَة لقد اختَرت لقَاء ربي والجنَّة" ثم استَغفر لأهل البَقيع وانصَرف[1]. وذهَب لشُهداء أحد فسَلم عليهم ودعَا لهم وَفَاء لما بذَلوه وقَدمُوه من أرواحهِم، تقول عائشَة: لما رجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البَقيْع وجدَني وأنا أجِد صُداعاً في رأسي، وأنا أقول: وارَأسَاه، فقال: "بل أنا – والله يا عائشَة – وارَأسَاه" قالت: ثم قال: "وما ضَرك لومُت قبلي، فقُمت عليك وكفنتُك، وصَليت عليْك ودَفَنتك" قالت: فقلت: والله لكَأني بك لو قد فعَلت ذلك لقد رجَعت إلى بيتي فأعرَسْت فيه ببعض نسَائك! قالت: فتَبَسم رسُول الله صلى الله عليه وسلم[2].

 

ثم ثَقُل به المرَض فجَعَل يسأل أزواجَه: "أَين أنا غَداً" يُريد بيت عائشَة ففَهمْن مُراده فأَذنَّ له حَيث شَاء، فانتَقَل إلى بيَت عائشَة يمشي بين الفَضل بن عَبَّاس وعلي بن أبي طَالب، عاصبَاً رأسَه، تخُط قدَمَاه في الأرض، حتى دخَل بيتها. فقَضَى عندَها آخرَ أسبُوع من حَيَاته، وكانت تقرأ عليه المعَوذَات والأدعية التي حفظَتها منْه، فكانَت تنفُث على نفسِه، وتمسَحه بيَده.

 

فلمَّا كان السَّبت أمَر رسُول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصَلي بالناس فأمَّهم، فكَان الصحَابة رضي الله عنهم يأتون للصَّلاة ويمرون في مجالس المدينة ولا يَرون حبيبهم فتوَافدوا عليه يعُودونه ويسلمون عليه، ويطمئنون على صِحته، فلما كان يوم الأحَد أقبَلت فاطمَة ابنته تَمشي كأن مشيَتهَا مشيةُ النبي صلى الله عليه وسلم فدخَلَت عليه وكَان إذا دَخَلت عليه قام وسَلم عليها ورَحب بها وأجلَسَها مكانه، وإذا دخَل قامَت وسَلمَت عليه ورحبَت به وأجلسَته مكانها، ولكنه هذه المرة لم يستَطع القيَام، فرَحب بها وهو جَالس وأجلسَها عن يمينه، ثم أسَر إليها حَديثا فبَكت، ثم أسَر إليهَا حَديثاً فضَحكت، تقول عَائشَة: فقلت: ما رَأيتُ كاليَوم فَرَحاً أقرَب من حُزن، فسألتها عَما قال لها فقالت فاطمَة: ما كنتُ لأفشِي سرَّ رسُول الله! فلما قُبض النبي سألتها فقالت: أسَر إلي "إن جبريل كان يعَارضُني القُرآن كل سنَة مرة، وإنه عَارضَني العَام مرتين، ولا أُراه إلا حَضَر أجَلي وإنك أول أهل بَيتي لحَاقاً بي " فبكَيت، فقال: " أمَا تَرضين أن تكوني سَيدةَ نسَاءَ أهْل الجَنة أو نسَاء المؤمِنين" فضَحِكت لذَلك "[3].

 

ودَخَل يوم الاثنَين: فبينَا أبو بكر يصَلي بالصحَابة صَلاة الفَجْر إذا بالسِّتر يرفَع فأَطَل الحَبيب منه وهو يبتَسم، يقول أنس: فهَمَمنا أن نفتَتن من الفَرح، فنَكص أبو بكر على عَقبَيه ليصِل الصَّف ويتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشَار إليه أن أتموا صَلاتكم.

 

 وكان قَبل ذلك قد اتقَدت حَرارة الحمى في بدَنه، واشتَد عليه الوجَع فقال: "هَريقُوا علي سَبع قرَب من آبارٍ شَتى، حَتى أخرُج إلى الناس فأعهَد إليهِم"  فأقعَدوه في مخضَبٍ وصَبوا عليه الماء حتى طَفِق يقول: "حَسبُكم" وعند ذلك أحَس بخفَّة، فدَخَل المسْجِد مسْدِلاً ملحفَةً على منكبَيه، قد عَصَب رَأسَه بعصَابةٍ حتى جَلس على المنبَر، ثم قال: "أيها النَّاس إلي"  فثَابُوا إليه، فخَطبَهم فكان مما قال: "إن عَبداً خيره الله بين الدُّنيا وبين ما عندَه، فاختَار ما عندَ الله" فبَكى أبو بكر وقال: فدَينَاك بآبائنا وأمهَاتنا، فعَجب الناس من بُكاء أبي بكر وجعَلوا يقولون: ما لهذا الشَّيخ يبكي! ولم يعْلموا أن المخَير هو رسُول الله صلى الله عليه وسلم،

 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَبك يا أبا بكر، إن من أمَن النَّاس علي في صُحبته أبو بكر، ولو كُنت متَّخذاً خَليلاً لاتخذته خَليْلا، ولكن أُخُوة الإسْلام ومودتُه، لا يَبقَى في المسجِد خَوخَةٌ إلا سُدت غير خَوخَة أبي بكر "[4]، ثم عرَض نفسَه للقصَاص قائلا "من كُنت جَلدت له ظَهراً فهذا ظَهري فليستَقد منه، ومن كُنت شتَمت له عرضَاً فهذا عرضي فليستقِد منه" 

 

 ورجَع – عليه الصَّلاة والسَّلام – فجعَل يزدَاد عليه الوجَع وهو يطرَح خميصَة له على وجهِه فإذا اغتَم بها كشَفَها عن وجهه فقال وهو كَذلك "لَعنة الله على اليَهود والنصَارى، اتخَذوا قبُورا أنبيَائهم مسَاجِد" يحَذر ما صَنعوا[5]. ودخل عليه في تلك الحَال عبد الله بن مسْعود فإذا هو يُوعَك وعَكَاً شَديداً فقال: يا رسول الله إنك توعَك وعَكاً شَديداً؟ فقال: "نعم إني لأُوعَك كمَا يوعَك الرجُلان منْكم" فقال: ذاكَ أن لكَ أجرَان؟ فقال: "نعَم"[6]، وكان أيام مرضه يوصِي أمتَه بأعظَم شَعيرة من شعَائر الدين فيقول "الصَّلاة... الصَّلاة وما مَلكَت أيمانُكم "[7]، حتى جَعَل يجَلجِلُها في صَدره وما يَفيضُ بها لسَانه.

 

نَسينا في ودَادكَ كُل غَالٍ *** فأنتَ اليَوم أغلَى ما لَدَينَا

نُلامُ على مَحَبتِكم ويكْفِي *** لنَا شَرَفٌ نُلامُ وما عَلينَا

ولما نَلقَكُم لكِن شَوقَاً *** يُذَكرُنا فكَيفَ إذا التَقَينَا

تسَلى النَّاس بالدُّنيا وإنَّا *** لعَمْرُ الله بعدَك ما سـَـــلَينَا

 

وأزِفَت السَّاعة التي يذل فيها الجبـَّار، ويُذعن فيها المتَكبر، ويضعُف فيها القَوي، ويفتَقر فيها الغَني، وبدَأت لحَظَات الاحتضَار، وقرُبت سَاعَات الرَّحيْل، وحَانت لفتَة الوَدَاع، فوالله لو سَالت الأقْلامُ بحِبرِهَا، ونطَقَت الشِّفَاه بألسنَتهَا، وأُعطي الأدَباء أزِمَّة الفَصَاحَة، وأَعنَّة البَلاغَة على أن يصَوروا عظَمَة تلك اللحظَة، وكُربة ذلك الخَطْب، وفَدَاحَة تلكمُ المصِيبة، وجَلالَة ذاك الحَدَث، لما جَاوزوا أورَاقهُم وآذانهم، فبأيِّ قلَم وبأيِّ عبَارة، وبأيةِ كَلمَة، أُسطِّر خَلجَات الفُؤاد، وما يحيْط بالمشَاعر، وما يثير كَوَامن النفْس، وعَوَاطف الحِس، أمَام فِراق تلك الشَّمائل، وذلك الجسَد الطاهِر، فرحَمَات ربي على تلك العين التي طالما سَهرَت وبكَت من خَشيَة الله، وتلك اليَد التي بطَشَت وجَاهَدَت في سبيل الله، وتلك القَدَم التي ورمَت في عبَادة الله، وذلك اللسَان الذي ما فتئ من ذكْر الله والدَّعوَة إلى الله، وذاكَ الجسَد الذي حمَل المَكَاره من جمَيع أبوابها فسمى بها للمَجد حتى بلغَ غَايتَه، ورَكز فيه رايتَه.

 

 فأسندَته عائشَة عليهَا، ووضَعَته بين سَحْرها ونحرِها، فجَعل يتغَشَّاه الكَرب، وبين يدَيه رَكوَةٌ فيهَا ماء، فجَعَل يدخِل يدَيه في الماء فيَمسَح به وجهَه ويقول: "لا إله إلا الله،  إن للمَوْت لسَكَرَات "[8].

 

وما عَدا  أن فرَغ من السِّواك الذي بيَده، رفع أصبعه وشَخَص بصَره نحو السَّقف، وتحَرَّكت شَفتَاه، فأصغَت إليه عائشَة فإذا هو يقول: "مع الذين أنعَمت عليهم من النَّبيين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين، اللهُم اغفِر لي  وارحَمني، وألحِقني بالرَّفيق الأعلَى، اللهم الرَّفيق الأعلى، اللهم الرَّفِيق الأعلَى، اللهُم الرَّفيق الأعلَى "[9]، وكان الأنبيَاء يخَيَّرون عندَ الموْت بين البَقَاء والوَفَاة.

 

رُوحٌ دَعَاهَا للوصَال حَبيبُها *** فَسَعَت إليْه تُطيعُه وتُجيبُهُ

يا مُدَّعي صِدقَ المحبَّة هكَذَا *** فعِْل الحَبيْبِ إذا دَعَاهُ حَبيبُهُ

 

ولما كَان يتَغشَّاه الكَرب كانت ابنتُه فاطمَة عند رَأسِه فقالت: واكَربَ أبَتَاه! فقال لها: "ليسَ على أبيْك كَربٌ بَعدَ اليَوم" فلما مات قالت: يا أبَتَاه أجَاب ربـَّاً دعَاه! يا أبَتَاه إلى جبريْل نَنعَاه! فلما دُفن لقيَت أنسَاً فقالت: يا أنَس كيفَ طَابَت أنفسُكم أن تحثُوا على رسُول الله صلى الله عليه وسلم التُّراب!![10].

 

وتسَرَّب الخَبر فأظلَمَت المدينَة على أهلهَا واجتَمَع النَّاس في المسْجِد، وقد بلَغ بهم الهَوْل والذُّهول مبلغَه، فجَاء أبو بكر وكان في مزرَعَته، فدَخَل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَطى، فَكشَف عن وجهِه ثم قَبله وقال: واصَفيَّاه! ثم قبَّله ثانية وقال: واحَبيبَاه ثم قبَّله ثالثة وقال وانَبيـَّاه! ثم قبـله وقال: بأبي أنتَ وأمي طبْتَ حَياً ومَيتَاً، ما كان الله ليُذيقَك الموت مَرتين، أما الموتة التي كُتبَت عليك فقَد مِتها، ثم خرَج ودخَل على الناس في المسْجِد، فإذا عمَر قَائم يخطُب ويقول: إن رجَالاً من المنَافقين يزعمُون أن رسُول الله قد تُوفي، وإنه ما مات، لكن ذهَب إلى ربه كمَا ذهَب موسَى بن عِمرَان، وَوَالله ليَرجعن فليَقطَعن أيدي رجَال وأرجُلهم  يزعُمُون أنه مَات، فقال: اجلِس يا عمَر، فأبى عمَر أن يجلس، فتشَهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتَركوا عمَر، فقَال أبو بكر: أما بعد فَمَن كان منْكم يعبُد محمداً فإن محمَّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله: {و َمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} يقول عمَر: والله، ما هو إلا أن سمعْت أبا بكر تلاها، فعَرفت أنه الحَق، فعُقِرت حتى ما تُقلِّني قدَمَاي، وحَتى أهوَيت إلى الأرْض، وعَلمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مَات، ويقول ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزَل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتَلقاهَا منه الناس كُلهم، فما أسمَع بشَراً من الناس إلا يتلوهَا[11].

 

كَذَا فليَجل الخَطْب وليفدَح الأمرُ *** فلَيسَ لعَينٍ لم يغِضْ مَاؤهَا عُذرُ

تُوفيت الآمَال بعْدَ محمَّدٍ *** وأصبَحَ في شُغلٍ عن السَّفَر السَّفْرُ

ثَوى طَاهرَ الأردَان لم تبَقَ رَوضة *** غَـدَاةَ ثَوى إلا اشْتهَت أنَّها قَبْرُ

عَليْك سَلامُ الله وَقفَاً فَإنني *** رَأيتُ الكَريم الحُر لَيْس له عُمرُ      

 

ثم اجتَمَع الأنصَار في سَقيفَة بني سَاعدة وَأرادوا أن ينُصبوا الخَليفَة منهم، فدَخَل عليهم أبو بكر وعمَر وأبو عبيدَة، فاستَقَر أمرهم على     أبي بكر فبَايعوه، فلما كان يوم الثلاثاء  وأرادوا غَسْله قالوا: والله ما نَدري أنُجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجَردُ مَوتانا أم  نغَسله وعَليه ثيَابه، فلما اختَلفُوا ألقَى الله علَيهم النَّوم حتى ما منهم رجُل إلا وذِقنُه في صَدره، ثم كلمَهم مكَلم من ناحيَة البَيت لا يدْرون من هو: أن اغسِلوا نبي الله وعَليه ثيَابه، فقَاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغَسلوه وعليه قَميصٌ، يصُبون الماء فَوق القَميص، ويدْلكُونه بالقَميص دون أيديهم ثم تَولى دفنَه: علي والعبَّاس والفَضل وصَالح مولى رسُول الله، فلما دفَنوه دخَل عليه الصحَابة أرسَالاً يصَلون عليه كلٌّ يصَلي وحدَه فيقفُون عليه ويقولون: اللهُم إنا نشهَد أن قَد بلغَ ما أُنزل إليه، ونصَح لأمتِه، وجَاهدَ في سبيل الله، حَتى أعزَّ الله دينَه، وتمَّت كلمتُه، وأُومن به وحده لا شريك له، فاجعَلنا إلهنَا ممن يتبِع القَول الذي أُنزل معَه، واجمَع بيننا وبينه حتى تعرفَه بنا وتعرفنَا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبغي بالإيمان بدَلاً، ولا نشتري به ثمناً أبداً، وصلى عليه الرجَال ثم النسَاء ثم الصبيَان. وكانت عائشَة قد رَأت رؤيا فعرضَتها على أبي بكر وكان من أعْبَر الناس قالت: رأيتُ ثلاثَة أقمَار وقعْن في حجرَتي فقال: إن صَدَقت رؤياك يدفن في بيتك من خَير أهل الأرض ثلاثة، فلما قُبض رسول الله ودُفن في حُجرتها قال أبو بكر: هذا خَير أقمَارك يا عائشَة.

 

يا خَيرَ من دُفنَت في القَاع أعظُمهُ *** فَطَاب من طيبهِن القَاع والأكَمُ

نَفسي الفِدَاء لقَبرٍ أنتَ ساكنهُ *** فيه العَفَاف وفيه الطُّهر والكَرمُ

 

وانطَلقَت قَرائح الصَّحَابة تُسطر عِظَم المصيبَة، وجَلالةَ الخَطْب، وهولَ الفَاجعَة التي حلت ونزَلت بهم، ونثَروا حُزنهم وألمهُم على فقْد حبيبهِم وقُرة عيونهم وبهجَة صُدورهم فكان في مقدمتهم حسَّان بن ثابت الذي طالما نثَر الشِّعر في مَدح الرسُول صلى الله عليه وسلم، وفي هجَاء أعدَاءه فقَام ومرارة المصيبَة تكوي قلبَـه وهو يقول:

 

بطَيبةَ رَسمٌ للرسُول ومعهَد *** مُنيرٌ وقد تعفُو الرسُوم وتهمُدُ

ولا تَنمحي الآيَات من دَارِ حُرمةٍ *** بهَا منبَر الهادي الذي كَان يَصْعدُ

بها حُجُراتٌ كان يَنزل وسْطهَا *** منَ الله نُورٌ يُستضَاءُ ويُوقَدُ

فَبورِكتَ يا قَبر الرسُول وبُوركَت *** بلادٌ ثَوى فيهَا الرَّشيد المسَدَّدُ

تُهيل عليه التُّرب أيدٍ وأعُينٌ *** عليه وقَد غَارَت بذلك أسعُدُ

لقَد غيَّبوا حِلماً وعِلماً ورَحمَةً *** عشيَّة عَلوه الثَّرى لا يُوسَّدُ

وَراحُوا بحُزنٍ ليسَ فيهم نَبيهُم *** وقَد وَهنَت فيهم ظُهور وَأعضُدُ

يبكون من تَبكي السَّموات يَومَه *** ومن قَد بَكتْه الأرْضُ فالنَّاس أكمدُ

وهَل عَدَلت يَومَاً رَزيةُ هَالكٍ *** رَزِيةَ يومٍ مَات فيْه مُحمَّدُ

 

وقال أخُوه وابن عَمه أبو سُفيَان بن الحَارث:

 

أَرِقتُ فبَات ليْلي لا يَزُولُ *** وليْل أخي المصِيبَة فيْه طُولُ

وأَرَّقني البُكاءُ وذَاكَ فيمَا *** أُصِيبَ المسْلمُون به قليْلُ

لقَد عظُمَت مُصيبَتنَا وجَلَّت *** عَشيَّة قيْل قد قُبضَ الرَّسُولُ

فَقدنَا الوَحْي والتَّنزيْل فينَا *** يَروحُ به ويغْدو جِبرئيلُ

 

فَلقَد كان فَقْده ووَفَاته – عليه الصَّلاة والسَّلام – أجَل وأخطَرَ مصيبَةٍ مَرت على تاريْخ الأرض، فَفَقد العُلمَاء والأوليَاء والكُبراء، والمجَاهدين والقَادة، والدُّعاةَ والمصْلحِين، لا يسَاوي ذرةً من ذَرات فَقد الحَبيب صلى الله عليه وسلم، ولا شَعرة من شَعَراته، فمن أصِيب بمصيبَةٍ بعدَه فليتَعَز بمصَابه به – عليه الصَّلاة والسَّلام – فإنه سِلوٌ له عن كل مصِيبَة، ومع ما هو فيه من جَلاله القَدر، وعظَم الجَاه، واتسَاع الملك، ونُفوذ اليَد، فقَد رحَل من هذه الدنيَا كلها ودرعُه مرهُونةٌ عند يهُودي، فلَم يخَلف قصُوراً ولا أموَالاً، ولا حَدائق، ولا خَدَم، ولا تجَارة، وإنمَا خَلف شَريعةً سمَاوية، وسُنةً ربانية، وجيْلاً يعبُد الله ويوحِّد الله، ويتلوا آيَات الله، ويَدعوا إلى الله، ويجَاهد في سَبيل الله، وَرجَالاً ينشُدونَ المجْدَ، ويطلُبُون المعَالي، ويسُوسُون الأمَم، ويحَررون من الرِّق والعُبودية لغَير الله، ويَسيرُون في الأرْضِ بالعَدل، ويُقيمُون القِسْط بين النَّاس، فنَسأل الله بأسمَائه وصفَاته أن يجمَعنَا به في جنَّته، وأن يجعَلنَا ممن ينَال شفَاعتَه، وممن يرد حَوضَه، ويقتَفي أثَره وسنَّته.....  إنه جواد كريم.      

 

بقلم/  نايف بن محمد اليحيى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أخرجه أحمد (25 / 376)، وحسنه ابن عبدالبر في الاستذكار (2/647)، وفيه ضعف. ينظر: دلائل النبوة للبيهقي (7/162).

[2] أخرجه أحمد (25156)، وحسنه الألباني.

[3] أخرجه البخاري (3426) مسلم (2450).

[4] أخرجه البخاري (3691) مسلم (2382).

[5] أخرجه البخاري (1265) مسلم (531).

[6] أخرجه البخاري (5342) مسلم (2571).

[7] أخرجه أحمد (44 / 84)، وصححه البيهقي في دلائل النبوة (7/205)، وجوده ابن الملقن في شرحه للبخاري (21/645).

[8] أخرجه البخاري (4184).

[9] أخرجه البخاري (4184).

[10] أخرجه البخاري (4193).

[11] أخرجه البخاري (1184).

المقال السابق
مقام الشفاعة (15)