الحق قديم
إن الأوبة إلى الحق سلوك نبيل، وفضيلة لا تدانيها فضيلة.. تجرد عن الهوى، وإذعان للحق، وقبوله للصواب ممن كان صغيراً أو كبيراً؛ فإن الحق أكبر من كل الناس، والحق أكبر من كل كبير.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه.. وقديماً قالوا: «العود أحمد»، وفي خطاب عمر إلى أبي موسى -رضي الله عنهما- يوصيه بالتراجع عن الخطأ عندما يلوح له الصواب، فيقول: "ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل".
قال السرخسي -رحمه الله- معقباً على كلام الفاروق -رضي الله عنه-: "وليس هذا في القاضي خاصة، بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين، الواعظ والمفتي والقاضي في ذلك سواء، إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك، فزلة العالم سبب لفتنة الناس.. وقوله: «الحق قديم»؛ يعنى هو الأصل المطلوب، ولأنه لا تنكتم زلة من زل، بل تظهر لا محالة، فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً" (المبسوط: 16 / 62).
وقال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: "الحق قديم لا يخلق، وإن لكم في الحق سعة، ومن ضاق عنه الحق فالباطل عنه أضيق".
وقال بعض أهل العلم: "إن الشريعة ثابتة، لكن الفقه اجتهادي، ولذا كان للشافعي قولان، وغيّر تلاميذ أبي حنيفة ثلثي مذهب إمامهم، وتعددت الروايات عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة، ولم يكونوا يخرجون بذلك عن كلمة عمر الشهيرة «ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي» وقوله لأبي موسى: «ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم»، وجاء رجل للإمام أحمد بكتاب قال: سميته «اختلاف العلماء»، فقال له الإمام أحمد: لا تسمه اختلاف العلماء، سمه: «كتاب السعة»".
ليس من أخطأ الصواب بمخط … أن يؤب لا ولا عليه ملامة
إنما المخطئ المسيء إذا ما … ظهر الحق لجّ يحمي كلامه
حسنات الرجوع تذهب عنه … سيئات الخطا وتنفي الملامة
إن الأوبة إلى الحق سلوك نبيل، وفضيلة لا تدانيها فضيلة.. تجرد عن الهوى، وإذعان للحق، وقبوله للصواب ممن كان صغيراً أو كبيراً؛ فإن الحق أكبر من كل الناس، والحق أكبر من كل كبير.
والمسلم الحق عادلا في أقواله وأفعاله؛ لأن الحق قديم في تراثه، والعدل عريق في مجتمعه، والإنصاف مقدس في معتقده.
وما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه، ووضوح المحجّة بين يديه، إلا ضرب من ضروب المكابرة، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالإثم، فآثر العاجل على الآجل، وهذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً وحديثاً، ولهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير والتحذير.
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس».
وروى أحمد وغيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لكعب: إني أسألك عن أمر فلا تكتمني. قال: والله لا أكتمك شيئاً أعلمه. قال: ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أئمة مضلون. قال عمر: صدقت، قد أسر ذلك إليَّ وأعلمنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال عبد الله بن المبارك -رحِمَه الله-:
وهل أفسد الدين إلا ... الملوك وأحبار سوء ورهبانها
ومثل (أحبار/علماء) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام: كمثل صخرة وقعت في فم النهر، لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص وباطنها نتن، أو مثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام. (إحياء علوم الدين: 1/74).
يقول الشوكاني -رحمه الله-: "من آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة كما يصدر ممن يفتي أو يصنف يناظر غيره ويشتهر ذلك القول عليه؛ فإنه يصعب عليه الرجوع إلى ما يخالفه وإن علم أنه الحق، وتبين له فساد ما قاله، ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين؛ فإنه قد يسول له الشيطان أو قد تسول له نفسه الأمارة بالسوء، أن ذلك ينقصه ويحط من رتبته، ويخدش في تحقيقه ويغض من رئاسته، وهذا تخيل مختل وتسويل باطل؛ فإن الرجوع للحق يوجب له من النبالة والجلالة وحسن الثناء ما لا يكون في التصميم على الباطل، بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص والإزراء بصاحبه، والاستصغار لشأنه؛ فإن منهج الحق واضح كالمنار يفهمه أهل العلم ويعرفون براهينه، وقد قال أهل العلم في ذلك مقالات كثيرة، ومن شأن الصحابة في مشورتهم، وقصة عمر -رضي الله عنه- في المرأة التي ماتت وتركت زوجاً وأماً وأخوة لأم وأخوة أشقاء في الميراث، فقضى للأم بالثلث فاحتج عليه الإخوة الأشقاء، وقالوا: إن الأخوة من الأم ورثوا لأمهم وهي أمنا، وهب أن أبانا كان حماراً أو كان حجراً ملقاً في اليم أي كأنه ما كان، فما كان من عمر إلا أن أشرك بينهم، فقيل له قد قضيت في أول العام بخلاف هذا، فقال: «ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي».
وعن يزيد بن عميرة قال: كان معاذُ لا يجلس مجلساً للذكر إلاَّ قال: الله حَكَمٌ قِسْطٌ، هلَكَ الْمُرتابون، إنَّ مِنْ ورائكم فِتَناً يَكثرُ فيها المالُ، ويُفتحُ فيها القرآنُ، حتى يَأخُذَهُ المؤمنُ والمنافقُ، والرَّجلُ والمرأةُ، والصغيرُ والكبيرُ، والعبدُ والْحُرُّ، فيوشِكُ قائلٌ أنْ يقول: ما للناس لا يَتَّبعونِي وقدْ قرأتُ القرآنَ، ما هُمْ بمُتَّبِعيَّ حتَّى أبتدعَ لَهم غيرَهُ، فإيَّاكم وما ابتُدعَ فإنَّ ما ابتُدع ضلالةٌ، وأُحذِّركم زَيْغَةَ الحكيمِ، فإنَّ الشيطانَ قد يقولُ كلمةَ الضلالةِ على لسان الحكيم، وقد يقولُ المنافقُ كلمةَ الحقِّ، قالَ: قلتُ لمعاذ: ما يُدرينِي رحمكَ الله أنَّ الحكيمَ قد يقولُ كلمةَ الضلالةِ، وأنَّ المنافقَ قدْ يقولُ كلمةَ الحقِّ، قال: بلى، اجتنب مِنْ كلام الحكيمِ المشتبهاتِ التي يُقالُ لها: ما هذه [يعني: أنك تستنكرها]، ولا يَثْنِينَّكَ ذلكَ عنه، فإنه لعلَّه أنْ يُراجع، وتلَّقَ الحقَّ إذا سمعته، فإنَّ على الحقِّ نوراً.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: