اسم الله القاهر ( القهار تأصيلا وفقها )

منذ 2018-05-14

يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه".

اسم الله "القاهر/ القهار" تأصيلاً وفقهاً:

نعيش زمانًا كثرت فيه القلاقل، واختلت فيه كثير من موازين الرحمة والرأفة، حتى أوشك أن يصبح الشعور بتملك القوة والقهر هو الغالب، مما يسلمنا إلى الحديث عن أحد أسماء الله الحسنى، الذي - ربما - لا يعيره كثير من دعاة القوة والسيطرة ما يستحقه من التقدير، ولا يولونه من الاهتمام ما هو به جدير. إنه اسم الله: "القَاهِر"، و "القَهَّار".

 

ويأتي اختيار هذا الاسم البديع، في سياق ضعف التدين الذي تميز به بعض من يزعمون أنهم من أهل الثقافة والتنوير والانفتاح، وعدم معرفتهم بالله - عز وجل - الذي عرفنا ذاته بأسمائه وصفاته، ومنها أنه فوق عباده قاهر، وأنه صاحب العظمة الحقيقي، الذي يجب أن يخاف فلا تقتحم حدوده، وأن يطاع فلا تتجاوز شرائعه، إذ لو آمنوا به حق الإيمان، لما طعنوا في دينه بعدم صلاحيته لزماننا، ولما طالبوا بتغيير بعض أحكامه، اعتقاداً منهم في عدم عدله بيننا، ولما طعنوا في أنبيائه بأقذع الألفاظ، وأبشع الصفات، ولما لمزوا الصحابة الكرام بألوان التهكم والازدراء، ولما تناولوا شرائع ديننا بالزراية، كإظهار الانزعاج من الأذان، والدعوة إلى منع الصلاة في المؤسسات العمومية، واعتبار شعائر عيد الأضحى تتنافى والسلوك المدني، والطعن في ستر المرء وحجابها.. ولما استنقصوا من حرمة الذات الإلهية ورسله، حتى طالبوا بإسقاط عقوبة الاستهزاء بالله ـ تعالى ـ والرسل، ولما دعوا إلى تحليل ما حرم الله من خمر، وربا، وميسر، وزنا، وشذوذ.. مما كان له عاقبة السوء في مجتمعاتنا، حتى صرنا نرى الخمر يباع في بعض الأزقة، ويشرب في بعض قوارع الطرق، وصرنا نرى الزوجة يعتدى عليها أمام الملأ ضرباً، وجرحاً، وتنكيلاً، وصرنا نرى الفتاة تغتصب أمام المارة، وتحت عين آلة التصوير، وغير ذلك من المشاهد المؤلمة، التي كانت نتاج هذا الفكر المتسيب، الذي يريد فتح أبواب الحرية الشخصية على مصاريعها، وأن يمد المعتدين بأنواع من الحماية الفكرية، والحصانة الحقوقية، مما لم تزد الوضع إلا تفاقماً واتساعاً، ولا التجاوزات إلا طفوحاً وتمييعاً.

 

إن غياب معرفة الله بأسمائه وصفاته، أدى إلى استفحال أقاويل بعض من أظلم عندهم ليل قلوبهم، فتلاطمت فيه أمواج المعتقدات، وادلهم فيه نهار عقولهم، فتعددت فيه المناهج والأفكار والمرجعيات، حتى نبت من بيننا من لا يَقدُر قدر العزيز القهار، ولا يأبه لبطش القوي الجبار، الذي أصبح ـ سبحانه ـ مادة رخيصة على مائدة النقاشات السخيفة، وطرفا من الجدالات العقيمة، استبيحت فيها حرمته، وانتهكت فيها محارمه، حتى تجرأوا على كتابه، رمياً له بالقصور عن المستجدات، ووسما له بالنكوص عن التطورات، وما علموا أنه ـ عز وجل ـ هو القاهر فوق عباده، الكبير المتعال. ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ﴾.

 

القهر لغة: هو السيطرة، والغلبة، والعلو على الغير، مع تمام القوة والسلطان.

 

والقاهر ـ سبحانه ـ هو الذي أخضع كل شيء، وسيطر عليه، لا يخرج شيء عن ملكه وسلطانه. والقهار ـ سبحانه ـ هو المذلِّل المستعبِد لخلقه.

 

قال الأَزهري: "الله القاهرُ القَهّار، قَهَرَ خَلْقَه بسلطانه وقدرته، وصَرَّفهم على ما أَراد طوعاً وكرهاً".

 

وقال ابن الأَثير: "القاهر هو الغالب جميع الخلق".

 

وقال الحَليمي: "الذي يَقهر ولا يُقهر بحال".

 

وقال الخطابي: "هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت".

 

 

 

قال ابن القيم في نونيته:

 

وَكذلِكَ القّهَّارُ مِنْ أوْصَافِهِ * فَالخَلْقُ مَقْهُورُونَ بِالسُّلْطَانِ

لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيّاً عَزِيزاً قـَادِراً * مَا كَانَ مِنْ قَهْرٍ وَمِنْ سُلْطانِ

 

 والقاهر مستعل على من يقهره. ولذلك قال ـ تعالى ـ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾.قال ابن جرير رحمه الله: "ويعني بقوله: (الْقَاهِرُ)، المذلِّل المستعبِد خلقَه، العالي عليهم.. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه".

 

 ولم ترد القهار في القرآن إلا مسبوقة بالواحد. قال ـ تعالى ـ: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "القهار لا يكون إلا واحدا، ويستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان".

 

 ولذلك الذين ظنوا أنهم كانوا على الناس قادرين، ولرقابهم قاهرين، وعلى مصائرهم مستعلين، بعد ما ملكوا الدنيا، واستقووا بالجند والعتاد، كلهم فَنَوا وبادوا، لأن فوقهم القهار الحقيقي، المتفرد في علوه وقهره، فلا يغلبه أحد، ولا ينادده أحد، ولا يساميه في قدرته وقوته أحد، فكان القهر والتوحيد متلازمين.

 

 وقال السعدي ـ رحمه الله ـ: "كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر للواحد القهار. فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده".

 

 وقوة العبد مقهورة بقهر الجبار الذي لا يغلبه شيء، مهما ملك من الدنيا. ولذلك لما أدركت هارون الرشيدَ ـ رحمه الله ـ الوفاةُ، نظر إلى جيوشه التي لا يكاد يحصي عددهم إلا الله، مع ما عليهم من مظاهر القوة والبأس، فقال: "يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه".

 

 ولقد ورد هذا الاسم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن.

 

ـ فقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله ـ عز وجل ـ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ" مسلم.

 

 ـ وقالت ـ رضي الله عنها ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تَضَوَّرَ (تقلب) منَ الليلِ قال: "لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ القهارُ، ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما، العزيزُ الغَفَّارُ" صحيح الجامع.

 

ـ وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجميل، الذي يتضمن مقتضيات اسم الله "القاهر" و"القهار"، حيث قال للبراء بن عازب رضي الله عنه: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" متفق عليه.

 

 فكل شيء تفر منه، إلا الله، فإن فرارك إليه، لا ملجأ لك من دونه، ولا منجى لك منه إلا إليه. قال ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

 

سُبحانَ مَن يُعطي المُنى بِخَواطِرٍ * في النَفسِ لَم يَنطِق بِهِنَّ لِسانُ

سُبحانَ مَن لا شَيءَ يَحجُبُ عِلمَه * فَالسِرُّ أَجمَعُ عِندَهُ إِعلانُ

سُبحانَ مَن هُوَ لا يَزالُ مُسَبَّحًا * أَبَداً وَلَيسَ لِغَيرِهِ السُبحانُ

 

وللقاهر والقهار مشاهد كثيرة، بثها الله في كونه للعبرة والاتعاظ، منها:

- القهار الذي أسلم وخضع له كل ما في الكون. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.

 

- والقهار الذي أذل كل ما في هذه الأرض لابن آدم. قال ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. فترى الجمل الضخم يقوده الغلام الصغير، ويسير به في حاجته، وهو منقاد له طيع. قال ـ تعالى ـ: ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾.

 

- والقاهر الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة الدنيوية والأخروية، حتى إذا أفنى الخلائق كلهم، وقهرهم بالموت، بعثهم الله يوم القيامة ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾، ثم سألهم: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، فَلاَ يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.

 

فكيف يغتر بعضنا بقوة بعض الأمم ـ اليوم ـ وجبروتها، إلى درجة الظن بأنهم لا يغلبون من قوة، ولا يقهرون من عتاد وعدد؟ ونسي أن الله ـ عز وجل ـ هو صاحب الكبرياء الحقيقي، والجبروت الحقيقي. قال ـ تعالى ـ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾. وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾.

 

لقد زعم فرعون أنه على كل شيء قادر، وأنه لجميع الخلائق قاهر، حتى قال: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾. فرد عليه موسى قائلا لقومه: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾. فكانت النتيجة أن جعله الله وقومه نكال الآخرة والأولى. ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ﴾.

 

سُبْحَانَ مَن تَجْرِي قَضَايَاهُ عَلَى * مَا شَاءَ منها غَائبٌ وعِيَانُ

يَبْلَى لِكُلِّ مُسَلَّطٍ سُلْطَانُهُ * واللهُ لا يَبْلَى لُهُ سُلْطَانُ

 

ومن أعظم الدروس المستفادة من فقه اسم الله "القهار"، أن لا يتجبر الإنسان على غيره، وأن لا يجعل القوة مطية للكبرياء والاستعلاء في الأرض. فإن التاريخ يشهد أن كل جبار يقصمُه الله، وكل متكبر يهينُه الله، وهو القائل ـ سبحانه ـ: "الكبرياءُ رِدائِي، فمَنْ نازعَنِي في رِدائِي قَصَمْتُهُ" صحيح الجامع.

 

وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثنا بوقائع كثيرة، كفيلة برجوع المعتدين عن اعتدائهم، ووقوف المتجبرين عند ضعفهم وهوانهم أمام الجبار ـ سبحانه ـ، الذي لا يعجزه شيء، ولا يغلبه شيء.

 

ولنتأمل في غزوة بدر، كيف جعلها الله ـ عز وجل ـ نكالا بالمشركين، وعبرة لمن بعد من المعاندين، الذين استخفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فازدروهم، وعيروهم، واستهزأوا بهم.

 

روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي؟ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلاَنٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا، وَدَمِهَا، وَسَلاَهَا، فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وهو عقبة بن أبي معيط). فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَهِيَ جُوَيْرِيَةُ، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ.. قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ـ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ـ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ". قال ابن مسعود: فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ". ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.

 

وكانت قريش قد خرجوا في جيش قوامه أزيد من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، في أجواء من الزهو والفخر والكبرياء، (بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، متلبسين بأنواع المنكرات، ومُتَحَدِّين رسالة رب الأرض والسماوات، حتى قال كبيرهم أبو جهل: "والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً، فننحرَ الجزور، ونَطعمَ الطَّعام، ونُسقَى الخمر، وتَعزفَ علينا القيانُ، وتسمعَ بنا العربُ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً"، استضعافا للمسلمين، وإيقانا منهم بالسطوة على عباده المؤمنين. وفي هذه اللحظة الحاسمة، لحظة استعراض القوة والسيطرة، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتوكل على الحي الذي لا يموت، فينظم جيشه أحسن تنظيم، ويمكث الليل في قبته يدعو ربه أن ينجز له وعده، وأن يريه قونه في أعدائه ويقول: "أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ". ثم خرج صلى الله عليه وسلم معه سلاحه، يلهج بما نزل عليه من القرآن: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ البخاري. فقهر الله ـ عز وجل ـ بقدرته الكاندين المعاندين، وردهم على أعقابهم خائبين. ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.

 

زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَن سَتَغْلِبُ رَبَّها * ولَيُغْـلَبَــنَّ مُغـالِـبُ الغَــلاَّبِ

 

ومن أعظم الأمثلة على قهر الله ـ عز وجل ـ للمستكبرين المتجبرين، دحره ـ جل وعلا ـ للأحزاب الحلفاء، الذين تكالبوا على المسلمين في معركة الخندق، حيث تقضي كل المؤشرات المادية بأن المسلمين سينهزمون لا محالة، وأن الأعداء المتكتلين سيغلبون لا محالة. لكن القادر القاهر، يُصرف الأحداث بما يثبت ضعف المتجبر، وعجز المتكبر.

 

فقد خان يهود بني النضير العهد المضروب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدرجوه بالحيلة ليغتالوه، فنجاه الله ـ تعالى ـ من مكرهم، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فخرجوا ذليلين، بعد أن ﴿ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

خرجوا ومعهم أحقادهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحركوا وفدا يهوديا رفيع المستوى، يجوب الجزيرة العربية لتجهيز أكبر جيش وثني لاستئصال الإسلام والمسلمين، واحتلال المدينة، ونهب خيراتها. واستطاعوا ـ بدهائهم ومكرهم ـ أن يستميلوا قريشا، الذين خرجوا في 4000 رجل، ثم أقنعوا غطفان، وَفَزارة، ومرة، وأشجع، حتى صاروا 10000 رجل، يقودهم أبو سفيان الذي أصبح مع باقي زعماء العرب بيادق تحركها سلطة دهاء اليهود، الذين خانوا رسالتهم السماوية، ليقروا الوثنيين على باطلهم وفساد عقيدتهم، تدليسا للأمانة التي حملوها، وشهادة بالكذب والزور بصحة دين الأصنام، وأحقيته على دين خير الأنام. فقد فقالت قريش: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إنّكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الأول، وَالْعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟". فقال علماء بني إسرائيل: "بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْحَقّ".

 

وأَرَّخ القرآن الكريم لهذا الموقف المخزي لليهود، فقال ـ تعالى ـ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا﴾.

 

وهكذا استعانت اليهودية بالوثنية لضرب الإسلام والمسلمين، تماما كما تستعين اليوم بالملاحدة واللادينيين لطعن المسلمين من الداخل والخارج.

 

شَهيدٌ عَلى قَوْمٍ بما كانَ مِنْهُمُ * فَيا حَقُّ خُـذْ بالثّأرِ مِنْهُمْ وَعَجِلا

وَأَنْتَ وَكيلي يا وَكيلُ عَلَيْهمُ * وَحَسْبي إِذا كَانَ الْقَوِيُّ مُوَكَّلا

 

أما المسلمون فكان عددهم 3000، وكان عليهم أن يحفروا خندقا طوله كيلومتران ونصف، وعرضه خمسة أمتار، وعمقه أربعة أمتار، وفي مدة عشرين يوما ـ تقريبا ـ. أما طعامهم، فقد وصفه أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: "فكانوا يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ، فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ (دهن يؤتدم به) سَنِخَةٍ (متغيرة الرائحة)، تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ، وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ" البخاري.

 

وزاد من تعميق الوضع غدر يهود بني قريظة، الذين كانوا قد دخلوا في معاهدة هدنة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسكنون أسفل المدينة. واشرأبت أعناق المنافقين من داخل المسلمين، حتى قال أحد زعمائهم: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط". وقالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). واعتذر بعض المنافقين الآخرين وقالوا: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾، أي: غير حصينة، فرد عيهم المولى ـ عز وجل ـ: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾.

 

وفي وصف عجيب لتكالب هذه الفئات الثلاث الغادرة، يقول ـ تعالى ـ: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ (الأحزاب) وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ (بنو قريظة) وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ (مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع) وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (هم المنافقون) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).

 

في هذه الأجواء المرعبة، عرضت للمسلمين كدية صلبة في الخندق، فَأَخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فقال: "بِسْمِ الله". فَضَرَبَ ضَرْبَةً، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: "الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: "بِسْمِ الله"، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: "بِسْمِ الله"، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "الله أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَالله إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا". ففرح المسلمون واستبشروا. رواه أحمد.

 

قال إبراهيم الحربي في "غريب الحديث": "فَقَدْ كَانَ مَا أُرِيِ: فُتِحَتِ الَيَمن فِي حَيَاتِهِ، وَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِ، وَفَتَحَ عُمَرُ العِرَاقَ".

 

أما الأحزاب، فقد سلط عليهم القوي القهار ريحا شديدة، وملائكة مُسوَّمة. قال ـ تعالى ـ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾.

 

اجعـل لربِّك كـلَّ عـزِّك يستقـرُّ ويثْبُتُ

فإذا اعتززتَ بمن يموتُ فإن عزَّك ميتٌ

 

 

ومن كان يزعم "التاريخانية"، فليرجع إلى التاريخ، ينبئه بقهر الله للمتجبرين، وعلوه على المستكبرين، وعقوبته للمتسلطين. وينبئه كذلك برحمته بعباده المؤمنين، ولطفه بأصفيائه الصالحين.

 

لقد وجد سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ نفسه لقمة سائغة في بطن حوت قد يزن 170 طنا، ويبلغ طوله سبعة وعشرين مترا، وَجبته المعتدلة تبلغ أربعة أطنان مرة واحدة. فأين سيدنا يونس من هذا المخلوق العجيب؟ ولكنه عَلِم ـ عليه السلام ـ أن له ربا هو أقوى من هذا الحوت، بل هو خالقه ورازقه وقاهره، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾.

 

وكلمة بجانب هذه البشارة العظيمة، قد لا ينتبه لها كثير ممن يزعم أن هذه من معجزات الأنبياء، أو من كرامات الأولياء، وأن ما حصل مع ذي النون لن يتكرر مع غيره من عباد الله المؤمنين، وهي قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، فصار هذا التقرير بمثابة قانون كوني، تفضل به المولى ـ عز وجل ـ على عباده الصالحين، كما في الآية الأخرى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

 

إن قهر الله ـ عز وجل ـ للمتجبرين، تقابله معية خاصة بالمؤمنين المخبتين، لأن اللجأ إلى القوي الجبار ـ سبحانه ـ، عصمة من الاستضعاف والاستخذاء، ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ﴾.

 

هذا سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ، ملأ الله قلبه يقينا، وعَلَّمه فقه اسم الله القهار، وأن فرعون وإن ادعى القهر فقال: ﴿سَنَقْتُلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾، فإن الله ناصر عبده المتوكل عليه. ولما اعتقد أتباع موسى أن فرعون غالب، وقالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾، أجابهم موسى ـ عليه السلام ـ بقوله: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.

 

والنبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار، والمشركون واقفون على رأسيهما، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرهما، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول بكل اطمئنان ويقين: "يَا أَبَا بَكْر، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا" متفق عليه. وهو تفسير لقوله ـ تعالى ـ: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: "فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ، والحفظ والإعانة.. فمن حَفِظ الله، وراعى حقوقه، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه".

 

قيل لأحد الصالحين: نراكَ وحدكَ. فقال: "من يكن الله معه، كيف يكونُ وحده؟".

 

وقيل لآخر: أما مَعَكَ مؤنسٌ؟ قال: "بلى". قيل له: أين هو؟ قال: "أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي".

 

وقال قتادة: "من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله ـ عز وجل ـ معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل".

 

فقه اسم الله القهار، يورث صاحبه قلبا حَسن التوكل على مولاه، لأنه علم أن له ربا عظيما، قويا، قاهرا، مقتدرا، فلم يخش أحدا إلا الله، وهو قلب الطير الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ، أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ" مسلم، وليس قلب من انخدع بقوة الظالمين المستكبرين، وارتعب من زمجرة بعض الأعاجم الظالمين، فاستكانوا لهم، وخضعوا لسلطتهم، بل مجدوهم، وتسابقوا إلى محالفتهم، والاعتزاز بقربهم. وهؤلاء هم الذين حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لَيأتِينَّ على الناسِ زَمانٌ، قلوبُهم قلوبُ الأعاجم" الصحيحةِ.

 

قال بعض العلماء: "لا تتكل على غير الله، فيكلك الله إلى من اتَّكلت عليه".

 

وقال الحسن ـ رحمه الله ـ: "يا أبن آدم، إن من ضعف يقينك، أن تكون بما في يدك أوثقَ منك بما في يد الله ـ عزَّ وجلَّ ـ".

 

وقال يوسف بن أسباط ـ رحمه الله ـ: "كان يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عملُه، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له".

 

والمؤمن يقهر بالتوكل الخوف من العدو، مهما عتا وتجبر، ومهما تسلط وتكبر، ومهما سطا وقهر، فالعاقبة للمتقين. قال ـ تعالى ـ:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.

 

وقد أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال له: "وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ. وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" صحيح سنن الترمذي.

 

وما أُتي المسلمون ـ اليوم ـ إلا من ضعف اليقين بأن الله هو القهار، وأنه هو القوي الجبار. فلم تغن عنا كثرتنا شيئا، بل صارت زمرة من اليهود ـ وهم عدة ملايين ـ يسيطرون على مقدراتنا، ويتحكمون في مصائرنا، ويفكرون بدلنا، ويزعمون تقديم الحلول لأزماتنا ومشاكلنا، حتى أسلسنا لهم القياد، وتركنا صدق التوكل على القاهر فوق العباد.

 

إذا نَحْنُ أدلَجْنَا وأنت أَمامَنا * كَفَى لِمَطايَانا بذِكـرك هاديا

 

لقد بلغ قوم عاد في زمنهم من براعة في العمران، وازدهار في الصناعة، وتنظيم في الجيش، وتقدم في العلم، ما لم يُعرف لأحد قبلهم، حتى قال ـ تعالى ـ:﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾. غير أنهم سوغوا قوتهم في البطش بخلق الله، والسعي في الأرض بالظلم والفساد والاعتداء على عباد الله. قال ـ تعالى ـ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾، وقالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾. فقد اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا، وسيطروا عليها، وتحكموا في رقاب أهلها، ولم يعلموا أن الله ـ عز وجل ـ ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾. فأهلكهم بجند من جنوده فقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾.

 

لما فتحت قبرص، بكى أبو الدرداء. فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى. ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه".

 

إن ما يجري اليوم في الشام، من بسط يد العتو والجبروت في أرض الله بالفساد، وفي عباد الله بقتل منهم، وتدمير ما يحتاج إلى 400 مليار دولار لإعادة إعمار بيوتهم، في استعراض للقوة، وتفاخر بالكثرة، لهو دليل عن الذهول الكامل عن بطش الله وقهره، الذي جرت سنته ـ سبحانه ـ أنه يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته.

 

سُبْحَانَ مَن تَجْرِي قَضَايَاهُ عَلَى * مَا شَاءَ منها غَائبُ وعِيَانُ

مَلِكٌ لَهُ ظَهْرُ الفَضَاءِ وبَطْنُهُ * لم تُبْلِ جِدَّةَ مُلْكِهِ الأَزمَانُ

يَبْلَى لِكُلِّ مُسَلَّطٍ سُلْطَانُهُ * واللهُ لا يَبْلَى لُهُ سُلْطَانُ

 

إن استحضار معاني اتصاف الله ـ عز وجل ـ بالقهر، يورث المسلم الخوف من الله، فتستقيم حياته، وتهنأ عيشته، وتعظم سعادته. وإذا تحقق الخوف من الله وحده، هان بجانبه كل جبار، وضعف بإزائه كل متسلط قهار. قال ـ تعالى ـ: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾. وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾. وبين رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أن خوف الله في الدنيا، أمن ومنجاة في الآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " يَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ. إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا، أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا، أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" الصحيحة.

 

الذي يقرأ القرآن الكريم بتمعن وتدبر، يعلم أنه يقرأ كلام الكبير المتعال، يقرأ كلام العزيز القهار، يخاطبه ـ سبحانه ـ بالأوامر والنواهي، فيعلم ضعفه وتقصيره، يخبره بلطفه ورفقه، فيستحضر مغفرته ورحمته، فيرق قلبه لذكر الله، وتنهال دموعه بغير استئذان. قال ـ تعالى ـ في وصف هؤلاء المؤمنين المخلصين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾. ويقول ـ عز وجل ـ: ﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾.

 

والذي ارتقى إلى هذا المستوى الإيماني، يعتصر قلبه لذنوب اقترفها، وتتألم نفسه لعبادة قصر فيها، فيخاف من الجبار أن يؤاخذه بها، فيهرع إلى التوبة، ويسارع فيخاف من الجبار أن يؤاخذه بها، فيهرع إلى التوبة، ويسارع إلى الأوبة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا" البخاري.

 

إن كانَ جُودكَ لا يَرجُوهُ ذو سَفَهٍ * فمَن يَجُود على العَاصِينَ بِالكَـرَمِ

 

ومن حقق هذا الخوف المبني على استحضار اسم الله "القهار"، وجد من نفسه حاجزا عن معصية الله، ومانعا عن الاعتداء على حرمات الله، ووقوفا عند حدود الله.

 

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ـ عز وجل ـ".

 

وقال أبو عثمان الحيري ـ رحمه الله ـ: "صدق الخوف، هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا".

 

وصدق الخوف مرتبط بمعرفة الخالق ـ سبحانه ـ، فمن عرف قدره، وعظم مكانته في قلبه، واستظل بمعاني قوته وقهره، خافه ووجل منه، واستحيى أن يعصيه أو يتجاوز حدوده.

 

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "كلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (كفى بخشية الله علماً). ونقصان الخوف من الله، إنما هو لنقصان معرفة العبد به. فأَعرف الناس أخشاهم لله. ومن عرف الله، اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وكلما ازداد معرفة، ازداد حياءً، وخوفاً وحباً".

 

أَهابُكَ إجلالاً وما بك قدرة * عليَّ ولكن ملء عينٍ حبيبها

 

وقال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "من علم عظمة الإله، زاد وجله، ومن خاف نِقَم ربه، حسن عمله. فالخوف يَستخرج داء البطالة ويشفيه، وهو نعم المؤدِّب للمؤمن ويكفيه".

 

لم يخف الله القهار، من تطاول على شرائعه بالتسفيه والاستنقاص، فقصد إلى إباحة الخمور، وأكل الربا، وتسهيل القمار، والأكل جهارا في نهار رمضان.

 

ولم يخف الله القهار، من أباح الشذوذ، ولم ير بأسا بالزنا، ورأى المجون حرية شخصية، والخيانة والعبث والتهتك والسفور اقتناعات ذاتية.

 

ولم يخف الله القهار، من طمع في تغيير أحكام القرآن، بمنع التفاضل في الإرث بدعوى المساواة، وعدم اعتقاد قوة إلهية فوقية بدعوى حرية الاعتقاد، ومن أساغ سب رموز المسلمين ومقدساتهم بدعوى حرية الفكر.

 

ولم يخف الله القهار، من اغتنى على حساب الفقراء والمعوزين، وملأ جيبه على ظهر الضعفاء والمحرومين، وقوى عضلاته على أشلاء الزمنى والمهزولين، وابتسم على وقع دموع المشفقين المسترحمين.

 

والله لو علم هؤلاء وهؤلاء حق العلم، أن فوقهم جبارا يمهل ولا يهمل، ﴿ يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُمُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾، ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾، يوم عَبَّر عنه أحد الحكماء بقوله:

 

وأُحضِروا للعـرضِ والحسابِ * وانقطَعَتْ علائقُ الأنسابِ

وارتَكَـمتْ سحـائبُ الأهوالِ * وانعـجمَ البليغُ في المقالِ

وعنَتِ الوُجـوهُ للقيُّومِ * واقتُصَّ مِن ذي الظُّلمِ للمظـلومِ

وشهِدَتْ الاَعْضاءُ والجَوارِحْ * وبدَتِ السَّـوْءاتُ والفضائحْ

وابتُلِيَتْ هنالِكَ السـرائِرْ * وانكشَـفَ المخفِيُّ في الضمائِرْ

 

لو استحضروا هذه الآيات والنذر، واتعظوا بمن قبلهم من الظالمين المسرفين، ما تجاوزوا حدودهم، ولا اعتدوا على غيرهم، ولا طعنوا في شريعة ربهم، ولا استهزأوا بسنة نبيهم.

 

وها نحن في زمن تظلنا فيه سُبُحات الرحمن، وتحفنا فيه نفحات المنان، شهر شعبان، شهر التسامح والغفران. فليعد هؤلاء إلى رشدهم، وليجددوا العهد بربهم، فهذه فرصتهم، وهو ـ والله ـ خير لهم. يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" صحيح سنن ابن ماجة. قال ابن الأثير: "المشاحن، هو المعادي. والشحناء: العداوة". وقال الأوزاعي: "أراد بالمشاحن ـ ها هنا ـ صاحب البدعة، المفارقَ لجماعة الأمة".

 

فليرجعوا فيه إلى ربهم بالتوبة والزلفى، ولينشدوا فيه حسن المآل وجميل العقبى، بالإكثار من الصيام كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل، ويقول: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" صحيح سنن النسائي. قال الإمام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "واعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها معظمة القدر، لاشتغال الناس بالعادات والشهوات". ف "مَنْ خُتِمَ لَهُ بِصِيَامِ يَوْمٍ، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ الله قَبْلَ مَوْتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ " كما قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم. صحيح الترغيب.

 

قال المناوي ـ رحمه الله ـ: "أي من ختم عمره بصيام يوم، بأن مات وهو صائم، أو بعد فطره من صومه، دخل الجنة مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب".

 

وليكثروا فيه من قراءة القرآن كما كان عليه هدي السلف. قال سلمة بن كهيل: "كان يقال: شهر شعبان، شهر القراء". وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القرّاء". وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان، أغلق حانوته، وتفرّغ لقراءة القرآن".

 

يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه".

 

أَلاَ رُب ذِي أَجَلٍ قَدْ حَضَرْ * كَثيرِ التَّمَنّي قَليلِ الْحَذَرْ

إِذا هَزَّ في الْمَشْيِ أعْطافَهُ * تَعَرِّفْتَ في مَنْكِبَيْهِ الْبَطَرْ

يُؤَمِّلُ أكْثَرَ مِنْ عُمْرِهِ * وَيَزْدادُ يَوْمًا بِيَوْمٍ أشَرْ

 

بقلم/ محمد ويلالي.