فقه اسم الله "الرؤوف"

منذ 2018-05-16

فقه اسم الله "الرؤوف" يقتضي تمثل صفة الرأفة في كل شؤون الحياة، فلا نعامل أنفسنا إلا بالرأفة، ولا نمشي بين الناس إلا بالرأفة، ولا ننصحهم أو ندعوهم إلى الحق إلا بالرأفة.

تحدثنا - سابقاً - عن الجانب التأصيلي لاسم الله "الرؤوف"، الذي يدل على قوة الرحمة وشدتها. فعرفنا أن الله -تعالى- بالمؤمنين رؤوف رحيم، يتلطف إليهم بكثرة النعم والخيرات، ويتقرب إليهم بعظيم الأفضال وجزيل العطاءات، ويتحبب إليهم بالعفو والغفران، ويفتح لهم باب التوبة والرجعان، وبعث إليهم رسولاً بهم رؤوف رحيم، صبور عليهم كريم. وتجلت لنا رأفة الله تعالى بنا في تمكيننا من الجوارح التي بها نحصل الأجر والثواب، من سمع، وبصر، ويد، ورجل.. وفي تسخير ما في السماوات والأرض لمصلحتنا الدينية والدنيوية، وفي هدايتنا إلى طريق مرضاته، حتى جعل منا من يبيع نفسه في سبيل جنته ورضوانه، بل تصحبنا رأفته - سبحانه - في الآخرة، فيلطف بنا عند البعث، والميزان، والصراط.

 

أما فقه هذا الاسم الجليل، فيتجلى في عدة أمور، منها:

1- استجلاب رأفة الله ورحمته، يستوجب التعبد باسمه "الرؤوف"، بأن تحسن الظن بالله، وترضى بعبادته، وتكثر من استغفاره، مع اليقين التام بوحدانيته وربوبيته، وأنه بكل شيء عليم. قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ). وعلى قدر محبته، والقرب منه، والتعلق به، تكون رأفته بك. قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). وهل هناك رأفة أعظم من معية الله لك؟

 

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ -تعالى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" متفق عليه.

 

2- اعتقاد أن ما بذل في سبيل الله لم يضع، وإنما سيعوضه الله أضعافا مضاعفة، وذلك قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ). روى الحاكم في المستدرك عن عكرمة قال: لمّا خرج صهيب رضي الله عنه مهاجراً، تبعَه أهلُ مكّة، فنثَلَ كنانته، فأخرج منها أربعين سهما، فقال: لا تصلون إليّ حتّى أضع في كلّ رجل منكم سهما، ثمّ أصير بعدُ إلى السّيف، فتعلمون أنّي رجل، وقد خلفت بمكّة قينتين، فهما لكم"، ونزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)، فلمّا رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ"، وتلا عليه الآية.

 

هؤلاء ملئت نفوسهم رأفة، وأشرقت قلوبهم رحمة، فنزل فيهم قرآن يتلى. أما نحن، فقد نبت بين ظهرانينا فئام من الناس، طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فنبذوا القرآن، بل طعنوا فيه وأرادوا تغييره، بدعوى تكييفه مع مستجدات الواقع، والحاجة إلى مساواة النساء بالرجال، فكان من ذلك دعواهم تغيير آيات المواريث، التي تجعل للذكر - في بعض الحالات - مثل حظ الأنثيين، ومنع تعصيب الرجال للنساء. وتجندت بعض الجهات ممن يدعي أهلها الثقافة، والتنوير، وحقوق الإنسان، ليرفعوا أصواتهم عالية بمعارضة كتاب الله، بل وتوقيع عوارض تعلن رفضها لآيات المواريث كما شرعها الله -تعالى- لعباده، اعتقادا منهم أنهم - بذلك - سيضغطون على المغاربة المسلمين ليقبلوا بفريتهم، محاولين تغليط الرأي العام، بإظهار أن من يرفض نداءهم هم مجرد شيوخ وفقهاء متشددين. وما علموا أن علماء المغرب قاطبة يرفضون التحكم العقلي في مواجهة نصوص كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير).

 

3- ضرورة الحذر من مبارزة الله -تعالى- بالمعاصي، والتمادي في معاداته ومحاداته بالموبقات والمنكرات بدعوى الاتكال على رأفة الله ورحمته، بل إن ذلك يجلب غضب الرب، ويورث نقمته وعذابه. قال -تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ). ولذلك نهى أن تأخذ المسلمين رأفة فيمن انتهك حرمات الله بالاعتداء على الأعراض، فقال -تعالى-: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ).ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع، أيسر وأخف من ألم المرض الباقي. فلم تفرض الحدود قسوة وانتقاما، وإنما ردعا وتطهيرا، وكل ذلك رأفة من الله ورحمة. قال -تعالى-: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ). قال الحسن: "من رأفته بهم، حذّرهم نفسه". وقال الشّيخ الطّاهر بن عاشور: "وذيّله هنا بقوله: (وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ)، للتّذكير بأنّ هذا التّحذير لمصلحة المحذَّرين... وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم".

 

4- فقه اسم الله "الرؤوف" يقتضي تمثل صفة الرأفة في كل شؤون الحياة، فلا نعامل أنفسنا إلا بالرأفة، ولا نمشي بين الناس إلا بالرأفة، ولا ننصحهم أو ندعوهم إلى الحق إلا بالرأفة. قال -تعالى- في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

 

5- ومن أعظم مظاهر الرأفة بالمؤمنين، أن تعفو عمن ظلمك، وتصفح عمن اعتدى عليك بعد أن تمكنت منه، مهما عظم الجرم، وشنُع الاعتداء. قال -تعالى-: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وفي الآية الأخرى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، أي لتحل الرأفة محل الانتقام، ولتحل الشفقة والرحمة محل البطش والإجرام، واجعلوا من عطفكم ورحمتكم شفيعا لمن آذاكم، فتجاوزوا عنهم، فإنه قمة التعبد باسم الله "الرؤوف".

 

ولنا أن نتأمل هذا المشهد البديع، الذي سطره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لنا عبرة، تستجلي فقه اسم الله "الرؤوف" في أبهى صوره:

 

فعن وائل رضي الله عنه قال: إِنِّي لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ (جلد مضفور)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَقَتَلْتَهُ؟". فَقَالَ: نَعَمْ، قَتَلْتُهُ. قَالَ: "كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟". قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبَّنِي، فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ، فَقَتَلْتُهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدِّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟". قَالَ: مَا لِي مَالٌ إِلاَّ كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: "فَتَرَى قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟". قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِي مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ. وَقَالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ". فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ". (قال النووي: أي: لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر، لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفا عنه، فإنه كان له الفضل والمنة، وجزيل الثواب، وجميل الثناء). فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ"، وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟". قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ". قَالَ: فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ، وَخَلَّى سَبِيلَهُ" مسلم.

 

ولما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من قريش في فتح مكة، لم يغره بهم ما كانوا عليه من الصدود والتمرد، مع ما صاحب ذلك من فراق الأهل والولد والمال، وظن زعيم القوم أبو سفيان أن الهلاك قد حل بهم، حتى قال: "يَا رَسُولَ الله، أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ"، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو ويصفح ويقول: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ" مسلم. فَحُقنت الدماء، وتراحم الناس بينهم، وعمت الفرحة أرجاء مكة.

 

فآمِنوا بِنَبِيٍّ لا أَبا لكُمُ * ذِي خاتَمٍ صاغهُ الرحمنُ مَخْتُومِ

رَأْفٍ رَحِيمٍ بأَهْلِ البِرِّ يَرْحَمُهم * مُقَرَّبٍ عند ذِي الكُرْسِيِّ مَرْحُومِ

 

ولنا أن نتساءل: ما الذي يغلب على البشرية اليوم، أهو الأمان والرأفة، والطمأنينة والرحمة، أم هو التدمير والخراب، والقلق والحيرة؟

 

لقد استيقظ العالم مطلع القرن الحالي على عشرات الحروب والنزاعات، جعلت العالم يملك قرابةَ 30 ألف رأس نووي، تهدد السلم في العالم، وتحيل ما ينبغي أن يكون عليه أهله من التعايش والتراحم والتوادد، إلى ساحة معركة كبيرة، وتسابق إلى امتلاك القوة المدمرة، ولمَّا يتعافَ بعدُ من حربين عالميتين، كان لهما أسوأ الأثر على البشرية، حيث خلفت الأولى قرابة 37 مليوناً ما بين قتيل، وجريح، وأسير، ومفقود، ولاجئ، فضلا عن انتشار البطالة، والفقر، والمجاعات، وتدهور الاقتصاد، وازدياد المديونية، وظهور النزاعات بين الدول. كما نتج عنها إنشاء ما يسمى بـ: "الوطنٍ القومي اليهودي" في فلسطين، الذي اندلع معه عدم الأمن والاستقرار في المنطقة، وأنتج صراعا لا نزال نعيش ويلاته، مخلفا - إلى الآن - أزيد من 200 ألف قتيل فلسطيني.

 

وخلفت الثانية - التي دامت ست سنوات، وشاركت فيها 27 دولة - أزيد من 62 مليون قتيل، وهو ما يقارب 2.5% من تعداد السكان في العالم في ذلك الزمان. وبلغت قسوة القلوب في هذه الحرب أن خلفت قنبلتان اثنتان أزيدَ من 200 ألف ما بين قتيل وجريح في دقيقة واحدة، لا تزال آثارهما الكيماوية بادية إلى الآن.

 

وأعقب كلَّ ذلك حرب صامتة تسمى بالباردة، تهافتت فيها الدول القوية إلى امتلاك أكبر قدر من الأسلحة، مع تطوير قوتها التدميرية، مما جعل العالم كله يعيش تحت وطأة الخوف والقلق.

 

هذه الحروب المقيتة، وما يستتبعها من مشاكل، مسؤولة عن قرابة 240 مليون يتيم في جنوب أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية. أما الألغام الأرضية، والذخائر غير المنفجرة، التي تبلغ تقارب 100 مليون لغم في العالم، فقد أودت بحياة مليون شخص منذ 1975. وهي - اليوم - تشكل تهديداً كبيرا للمجتمعات في أكثر من80 بلداً كانت في حالة صراع.

 

فلا أقل من تسود الرأفة المسلمين، الذين أراد منهم شرعنا أن يكونوا كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص.

 

بقلم/ محمد ويلالي.