اللحظة الراهنة

منذ 2018-05-21

إن العصر الذي نعيش فيه عصور ثوري بكل ما تعنيه الكلمة، إنه يتحدى كل أفكارنا ويمتحنها في شتى مجالات الحياة.

نعيش اليوم في زمنٍ يُعرض فيه على الانسان كمٌ هائلٌ من الخيارات والمعلومات في مختلف شؤون الحياة، سواء كانت الحياة الإفتراضية أم الواقعية. 

إن هذا التراكم الهائل للمعلومات والتنوعات في الفلك الذي نسبح فيه يجب أن يتم التعامل معه وفق منهجيه رصينة تقي الانسان من أن يحتار أو يتخبط عندما يحاول أن يختار ما يناسبه.

ذلك لأن في الأمر مجازفة إذا تم اتخاذه بشكل فردي، قد ينتهي بالإنسان في منزلقات خطيرة. فكم من مفكر أصابه الجنون من هول ما رأى في الحياة أو ربما تطرف في فكره وأنشأ له مذهباً شاذاً كتلك التي ظهرت على مر التاريخ، أضف إلى ذلك أن اتخاذ الآلية المثلى في التعامل مع تغيرات الحاضر واستيعابها  يفتقر فيه الفرد للخبرة الواسعة وسعة الوقت وربما أيضاً يعجز لغيابه الشخصي وانعدام إمكانية الاجتهاد ناهيك عن نشأته التي يشوبها قلق التحضر.

 

إن وقوف الفرد العادي أمام شاشة هاتفه أو حاسوبه أو في مكتبته أو في اجتماع موسع أو ندوة علمية لخيارٌ صعب، فكيف له أن يختار ما يناسبه ويقول قولاً سديداً، وكل ما يراه أمامه جذّاب ويدعو للفضول ويظهر له المعاني على هيئة مبهمة، هل يُحَكّم المنطق في قراره؟ وما أدراه أن المنطق الذي بنى عليه أفكاره وتصوراته منطقٌ سليم، ولهذا نلحظ تصرفات عبثية في التعامل مع الماضي الحاضر والمستقبل من قبل الفئة المتعلمة للأسف، تظهر لنا في تصرفات  بعضهم آثاراً توحي بغياب الثقة بالمستقبل والماضي وبالضياع الزمني والهيجان على اللحظة الحاظرة، كأنما تلهث نفوسهم على اللذّات لهثاً، إنه هوس اللذة ورعب الألم.. هذا ما يبحثون عنه في مقالاتهم وكتاباتهم وتصرفاتهم في الحياة، بينما تركوا البحث عن المعاني والقيم وفَصَلوها من العلمية وجعلوها في الميتافزيقية، لكي نُسكت الضمير لبعض الوقت ونطلق العنان لسلوكيات مدفوعة ببواطن شخصية تفوح بالأنانية وليس لديها أدنى اكتراث بيوم ثقيل تذره وراءها.

 

إن العصر الذي نعيش فيه عصور ثوري بكل ما تعنيه الكلمة، إنه يتحدى كل أفكارنا ويمتحنها في شتى مجالات الحياة. مهما بلغتَ علماً وفكراً ونفوذاً سوف تتحطم كل أفكارك الواهية وتنتشر كالرماد مع الرياح العاتية، لن يصمد أمام هذا التحدي إلا من كان على بينة من ربه، وعلى حق وهُدى ورشد وليس على ظن وفرضية ونظرية تخطئ وتصيب! إنه تحدٍ قاس وصعب وإذا ما استسلمت فستسحقك الأيام بلا هوادة. 

لهذا قبل أن نطالب بالحقيقة، علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن قادرون على تحمّلها، قادرون على أن نقبل بها وأن نحافظ عليها؟ 

إذا أردنا أن نفهم الواقع علينا أن نكون على استعداد تام لأن نضحي من أجل أن نعرف، أن نضحي بالغالي والنفيس، {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران من الآية:92]. وعلينا إذا ما رُزقنا العلم بأن لا نولّي الأدبار، فقد كان في السابقين عبرة، من آتاهم الله الكتاب ولم يصبروا على حمله فحرّفوه وانتهجوا فيه منهجهم حتى ضاعت حجتهم وانطوت صفحتهم.

 

إن العالم يسير بالاتجاه الذي لا يعلم إلى أين سيوصله، إنه يتبع الصدفة، يتأمل الحظ في اللحظة. واأسفي على البشرية، كون أكبر كارثه ستصيب البشر ليست زلزالاً ولا حرباً نووية، بل إنها كارثة انهيار الإنسان وانسلاخه من القيم، واستعباد المادة له، وامتلاء قلبه بالسواد والحقد والحسد.

لقد كرّم الله الإنسان عن سائر الخلق وجعله خليفة على الأرض وعلّمه الأسماء كلها وبعث النبيين مبشرين ومنذرين وأبان الطريق والمنهاج ليرفعه من هذا النتن ويزكيه ويطهره تطهيرا، وقال له أن كل نفس بما كسبت رهينة، الإنسان مسؤول عن نفسه قبل غيره.

إننا نسأل ونتساءل: قبل أن نطلق عباراتنا الخلابة ما هي أهدافنا في الحياة، وعلى ماذا بنيناها، وهل عرفنا أنفسنا أم مازلنا نُلَبّس عليها مما يلبسون، ومما نخاف وعلى ماذا نخاف؟

 

أما بخصوص هذا الكم الهائل من الخيارات والأفكار والعناوين والأسماء التي انتشرت اليوم في ملايين المطبوعات والمنشورات الإلكترونية والحقيقية فنحن لسنا بحاجة لكل هذا، فقط تتبع نفسك والفكرة التي تؤثر عليك، مهمتك أن تبحث أكثر من أن تقرأ أو تحفظ أو تكتب! التفكير وتتبع الفكرة دون الانشغال بغيرها، التركيز على معنى. وأهمّ ما يمكن أن يركز عليه الإنسان ليُقَوّي حجته هو القيم.

 

الكاتب: مرسل من أقلام قراء الموقع.