تحرير مذهب ابن تيمية في مسألة إيجاب الشورى على الإمام

منذ 2018-11-07

وفي الجملة: جنسُ المُناظرة والمجادلة فيها محمودٌ ومذمومٌ، ومفسدةٌ ومصلحةٌ، وحقٌّ وباطلٌ

 

نسب بعض المعاصرين إلى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) أنه يقول بوجوب الشورى على ولي الأمر في كل ما لم يرِد به نص، واستدلوا لذلك بقوله في «السياسة الشرعية»([1]): «ولا غنى لولي الأمر عن المشاورة».

والتحقيق أن نسبة القول بوجوب مشاورة الإمام للرعية في كل ما لم يرد فيه نصٌّ لابن تيمية غيرُ صحيحة، ومما يدلُّ على ذلك:

قولُه في «منهاج السنة»([2]): «الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات:

فإن كان الحقُّ فيها بيِّنًا أمر به.

وإن كان مُتبيِّنًا للإمام دونهم بَيَّنَهُ لهم، وكان عليهم أن يطيعوه.

وإن كان مُشتبِهًا عليهم اشتوروا فيه حتى يتبيَّنَ لهم.

وإن تبيَّنَ لأحدٍ من الرعية دون الإمام بيَّنَهُ له.

وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المُتَّبع في اجتهاده، إذ لا بد من الترجيح، والعكس ممتنع».

فلو كانت الشورى واجبةً على الإمام في جميع الأحوال، لما صح هذا التقسيم، ولما خص شيخ الإسلام (ت:728)  الشورى بحالة اشتباه الحكم، ولكانتِ الشورى واجبة على الإمام حتى في الحالة التي يتبين له فيها الحق دونهم.

فإن قيل: إن تبيين الإمام رأيَه لأهل الحل والعقد من الشورى.

قيل: هو ليس كذلك عند شيخ الإسلام (ت:728)، لأنه يفرق بين مناظرة المشاورة ومناظرة المجادلة، وهذا القسم من مناظرة المجادلة لا المشاورة، يقول: «وفرقٌ بين المشاورة والمعاونة التي مقصودُها استخراج ما لم يَعلم، وبين المجادلة التي مقصودُها الدعاء إلى ما قد عَلِم»([3])، وهذه الصورة الثانية مقصودُها الدعاء إلى ما علم لا استخراج ما لا يعلم.

ومن كلامه الذي يدلُّ - أيضًا - على عدم وجُوب الشورى في جميع الأحوال عنده، أنه يرى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يولِّ عمرَ عن شورى لأنه لم يحتج إليها، قال رحمه الله في «منهاج السنة»([4]): «كان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضًا؛ فإنَّ أبا بكر تبيَّن له من كمالِ عمر وفضلِه واستحقاقِه للأمر ما لم يحتجْ معه إلى الشورى، وظهر أثرُ هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين، فإن كل عاقل مُنصف يعلم أن عثمان أو عليًّا أو طلحة أو الزبير أو سعدًا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له».

ويقول أيضًا: «وأما أبو بكر فلما علم أنه ليس في الأمة مثل عمر، وخاف أن لا يُولُّوه إذا لم يستخلفه لشدته، فولاه هو؛ كان ذلك هو المصلحة للأمة»([5]).

ويُستفادُ من هذين النصَّينِ أمران:

الأول: أنه لو كانت الشورى واجبةً على الإمام على كُلِّ حالٍ عند شيخ الإسلام (ت:728)، لما صح له ما ذكره عن أبي بكر من أنَّه لم يُشَاور في شأنِ العهد إلى عمر، وأنه لم يكن مُحتاجًا لذلك.

الثاني: أنَّ وجوبَ الشورى عنده - بناءً على فعل أبي بكر رضي الله عنه- إنما هو الاحتياج لها لتحقيق مصلحةِ المسلمين، فلما كانت المصلحةُ حاصلةً بدون الشورى، لم يشاور أبو بكر.

وقد أوضح الإمامُ أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في كتاب «تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة»([6]) هذا المعنى في عدم مشاورة أبي بكر رضي الله عنه حيث يقول: فإن قيل: لِمَ لَمْ يجعلها شورى ؟ - يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه -  قيل له : إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الإيضاح والبيان فلا معنى للشورى.

ومما أستأنسُ به إلى أن هذا هو المناط في وجوب الشورى - أعني تحقيق المصلحة - عند شيخ الإسلام قولُه في «العقل والنقل»([7]) في سياق بيان ما يُذَمُّ وما يُمدَحُ من المناظرة: «والمقصود أن السلف نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.

وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكونُ واجبةً تارةً، ومُستحبَّةً تارةً أخرى.

وفي الجملة: جنسُ المُناظرة والمجادلة فيها محمودٌ ومذمومٌ، ومفسدةٌ ومصلحةٌ، وحقٌّ وباطلٌ».

ولما كانت المشاورةُ في حقيقتها ضربًا من المُناظَرَة، لأن المناظرة عند شيخ الإسلام - كما تقَدَّم - مناظرةُ مُجادلة ومناظرة مُشاوَرَة، صح إجراء هذه الأحكام على المشاورة.

ولتعرفَ البَونَ بين كلام شيخ الإسلام وبين تقريرات كثير من المعاصرين في هذه المسألة، حسبُك أن تعلم أن ما قرره  - وغيره من أهل العلم - من عدم مشاورة أبي بكر رضي الله عنه هو عندهم تعطيلٌ لقوله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم»، وأبو بكر أبَرُّ وأتقى من أن يُعطِّل هذه الآية - كما يقولون([8]) - .

أما قول شيخ الإسلام: «ولا غنى لولي الأمر عن المشاورة»، فهي عبارة دقيقة أساء المعاصرون فهمها، ومدلولُ عدم الغُنيةِ عن الشيء وجوب قدرٍ منه، لا وجوبه مطلقًا، في كل حال، وقد تقدّم أن تقرير ابن تيمية هو وجوب مشاورة الإمام عند الاشتباه، وعند اقتضاء المصلحة ذلك، لا مُطلقًا، والله تعالى أعلم.

 

 

([1])  (ص227).

([2]) (8 / 273).

([3]) «المستدرك على مجموع الفتاوى» ( 2/226-227).

([4]) (6/142).

([5]) «منهاج السنة» (7/350).

([6]) (ص277).

([7]) (7/174).

([8]) عبارة الأستاذ عبد القادر عودة - رحمه الله تعالى - في كتابه «الإسلام وأوضاعنا السياسية» (ص113).