مشيناها: حكاية ذات أنيقة!

منذ 2018-11-24

ومعي سيرة ذاتية سعودية، لها نكهة خاصّة، عنوانها: مشيناها... حكاية ذات، تأليف: عبدالرّحمن الصّالح الشّبيلي، صدرت طبعتها الأولى في صفر 1440


لدى أكثر النّاس حكاية جديرة بالرّواية، وإنّما التّفاوت في طريقة العرض، وصراحته، وصدقه، وكيفيّة نظر المرء لذكرياته بعد أن فصلت بينهما سنون وأحداث وأماكن. ومن الطّبيعي أن يكون الاختلاف واضحًا حسب المواقف، والأعمال والخبرات والمهارات، وأدوات التّعامل مع السّوانح والتّأملات. 

والتّدوين ليس أمرًا يسيرًا على الكاتب فضلًا عن غيره، والحديث عن النّفس مسلك وعر كثير المهالك، ومع ذلك فلا مناص من خوض هذا العمل الخالد، خاصّة ممن شغف بالكتابة؛ فالذّكريات منجم لا ينضب، وفيها مقاومة لحبسة الكاتب، وعلاج لجفاف المنابع الأخرى.

ومعي سيرة ذاتية سعودية، لها نكهة خاصّة، عنوانها: مشيناها... حكاية ذات، تأليف: عبدالرّحمن الصّالح الشّبيلي، صدرت طبعتها الأولى في صفر 1440= نوفمبر ٢٠١٨م، وعدد صفحاتها (447) صفحة، وعلى الغلاف الخارجي صورة "الصّنقر" وهو معلم تراثي أشبه ببرج المراقبة ومقصورة الحماية، يتجاوز عمره مئة سنة، وفي عام ١٤٠٧ شُيّد عليه مركز ابن صالح الثّقافي، ويتكون الكتاب من مقدّمة، ثمّ ثمانية أقسام، وبعدها كشّاف عام فملحق صور، وتعريف مختصر بالمؤلف.

التّوثيق عمل ماتع ينقل المرء من صخب الوظيفة إلى حياة ذهنيّة منتجة كما قال الكاتب في المقدّمة، وأشار إلى أنّه قضى سنة ونصف وهو يدّون هذه الذّكريات ابتداء من رمضان عام ١٤٣٨، وحرص على ألّا يقلّد أحدًا في سرديته، فالتّفرد سمة جميلة تستحق العناء، فجاء كتابه من طراز مختلف بين الرّواية والسّيرة. 

وحرص على السّلاسة والبعد عن الجفاف والهوامش، وذكر فيها أسماء أناس كثر ممن عاصر وزامل، وهو صنيع حسن مع أنّ نسيان البعض محرج، وباح الشّبيلي بالممكن من مكنون الصّدر، وطوى غيره في صندوق الكتمان، واسترسل مع خواطره محاولًا التّعبير عن ذاته، ولديّ أمل بأن يتجاسر على إخراج كثير من المكنون ففيه جواهر، وأخبار، وآراء.

ونلمح من خلال حكاية ذات مشاها الشّبيلي أنّه جعل من التّقاعد مرحلة تنافس ما قبلها، وهذا المعنى قد يغيب عن المتقاعدين؛ فلكلّ مرحلة أهدافها وما يناسبها. وفي كتابه تركيز على الجانب الإعلامي والثّقافي مع إعطاء حقبتي التّعليم والشّورى حقهما، مع الإشارة إلى الأعمال التّطوعيّة، وعضويّات المجالس، وكم هو مبارك ذلكم الإنسان الذي ينفع حيثما حل.

وبطبيعة الحال أسهب في وصف مراحل النّشأة والتّكوين، وجعلنا نستنشق عبق المكان في عنيزة الآسرة، ونعيش معه ذكريات الوالدين والإخوة، وليته استطاع الحصول على شهادة نفيسة من والدته الكريمة فاطمة كما فعل الأمير د. سيف الإسلام بن سعود مع أمه بطلة روايته الماتعة "قلب من بنقلان"، وذلك لتشابه أحوال الوالدتين في القدوم إلى المملكة، وإن جاءت واحدة من الشّاطئ الشّرقي للخليج، والأخرى من أقاصي تركيا.

ومع أنّ والدته قدمت لعنيزة من بيئة اسطنبوليّة مختلفة، إلّا أنّها استطاعت الاندماج مع عنيزة في لهجتها وعاداتها، ومطبخها وأنواع تمورها، بل وفي أنساب الأسرة ومصاهراتها، حتى حفظت رثاء زوجها لقرينته الأولى التي توفيت سنة الرّحمة عام ١٣٣٧ بقصيدة تقع في نحو مئة بيت، ومع أنّ زواجها بوالد المؤلف كان في عام 1345، إلّا أنّ القصيدة تثير غيرتها، فيتمازح الأبوان بشأنها، ويعد الوالد زوجته بمرثية مثلها إن سبقته! والتّمازج بين فاطمة وعنيزة فضيلة تحسب لهما.

وفي الكتاب موافقات لطيفة وحزينة، وحكايات طريفة، منها إثبات يوم ولادة د. عبدالرّحمن بالضّبط من إكمال والدته صيام أيام السّت من شوال، وتحديد سنة ميلاده بدقة من تجديد جامع عنيزة عام 1363، ويتوافق يوم مولده مع اليوم الوطني للمملكة في الثّالث والعشرين من سبتمبر عام 1944م. ومن حزينها تشارك نجل المؤلف مع نجل د. ناصر السّلوم في كثير من شؤون المحيا والممات، إضافة إلى فواجع أخرى رواها المؤلف.

من الموافقات بناء مطار القصيم في منطقة المليدا التي شهدت معركة تاريخيّة لا تنسى عام ١٣٠٨، وادعاء تحية كاريوكا أنّ أصول عائلتها ترجع إلى عنيزة، ومنها أنّ أبرز مذيع في الحقبة النّاصريّة خفت صوته في الخامس من يونيو سنة ١٩٦٧م بعد انكشاف كذب جهازه الإعلامي الفج، ومات في ذات التّاريخ عام 2018م! ولست أغفل عن معاناة صاحبنا من التّهم المعلّبة، فالصّيغة المكارثية جاهزة للإقصاء، وهو ما حدث مع أبي طلال حين وصم بالشّيوعية في أوج حربها محليًا، ووشى ببرامجه نافذون في وزارته فنُقل من الإعلام إلى التّعليم!
يبرز الكتاب اكتفاء عنيزة بالحرفيين من أهل البلد، ونشاط سوق المسوكف، وتطوع أهله لقراءة البريد وإيصاله، وخلع الضّروس وتجبير الكسور، وكتابة الوثائق والصّكوك، وإطراب العابرين بالقصيد والملح، فأصبح السّوق ملتقى اجتماعيًا، وناديًا للأخبار خاصّة من القادمين بالطّائرة من الرّياض وجدّة إلى مطار عنيزة المحلي القديم، الذي يعمل به موظف واحد؛ فيحجز التّذاكر، ويوجه الطّائرات للهبوط والإقلاع. 
ونقل المؤلف شيئًا من مكانة الشّيخ السّعدي، وحفاوة الجميع به حتى الأطفال، وتباسط الشّيخ معهم، وهذا أمر غير معهود من بعض المشايخ، وللسّعدي مواقف جميلة منها المدّون والمروي، ومثله إمام يقتدى به، ومن جميل المشاهد أن يأتي قاضي البلدة للسّوق؛ فيقضي بين المتخاصمين وهو جالس على كيس قمح دون أن يستهلك أعمارهم بذهاب وإياب، وفي سياق ذكريات الطّفولة، يأسف الشّبيلي على هدم التّراث العمراني القديم أو إهماله، ولو أدركته العناية الّلائقة لغدا مزارًا وتذكارًا.

ولم يهمل د. عبدالرّحمن العمل التّطوعي في عنيزة، وأشار إلى لجنة الأهالي، وهي عمل تطوعي مبكر، ومن إنجازاته إصلاح بعض الطّرق، ومتابعة تبرع الوزير عبدالله السّليمان الحمدان بمشروع سقيا الماء، وغير ذلك، وهذا الاهتمام المبكر يفسّر لنا بروز أهل عنيزة في مجال الأعمال المجتمعيّة والخيريّة والتّطوعيّة.

وللمرأة مكان في ممشى الشّبيلي، حيث ذكر أسماء نساء من عنيزة تزوجهن الملك عبدالعزيز، والملك سعود، وهنّ من كبار عوائل البلدة، كما أشاد بخمس عشرة معلّمة من نساء عنيزة صيرن بيوتهنّ كتاتيب لتعليم الفتيات قبل بداية التّعليم النّظامي، ومن الطّبيعي أن يكثر الحديث عن المرأة في سيرة رجل عاش قسمًا من عمره في عالم الإعلام والثّقافة.

ويعترف أبو طلال أنّ الشّروع في تدوين سيرته فتق ذاكرته حتى نفضت الغبار عن مخزونها، فاستحثاث الذّهن ينتج إبداعًا لا يتصوّر قبل رؤيته، وأبدى ندمه على تأخر اهتمامه بالتّوثيق؛ حتى ضاعت عليه مرويات كثيرة؛ خاصّة رحلة والده للهند، وغيرها، وكأنّ المؤلف ينادي غيره أن أدركوا كباركم، وخذوا منهم الأخبار شفاهة واحفظوها.

يتميز المؤلف بجديّة وانضباط وقيم راسخة تحاشى التّصريح بها تواضعًا، حيث درس في أكثر من نظام تعليمي، والتحق بجامعتين في زمن واحد، وتعلّم الّلغة الإنجليزية والطّباعة، ولم يكن له حظ من الرّياضة أو السّياسة أو لعبة البلوت، ومن فضل الله عليه أنّه لم يتورط بالتّدخين، ولم ينغمس في دهاليز اشتهر بها بعض الإعلاميين، بل واستنقذ نفسه من هذا المحيط سعيًا لتطوير ذاته، وتثقيف نفسه، غير آبه بالنّجومية، أو متشبث بفتنة الظّهور، والحقيقة التي أبانتها حكمته العمليّة هذه هي أنّ أعظم مكسب يحوزه المرء هو أن يرضى عن نفسه ويرضيها، ويسعى في تزكيتها وتبصيرها، فما أثقل أن يشار لإنسان بالبنان وهو من الدّاخل خواء.

وكان تخرجه في كلية الّلغة العربيّة سلّمًا إلى عالم الإذاعة ثمّ الإعلام المرئي والمكتوب، وإليه يعود فضل إضافة الدّعاء المأثور عقب نقل الآذان، وتولى مهمّة تسجيل خطاب العرش بعد العصر في قصر الملك فيصل بالمعذر في ٢٧ من شهر جمادى الآخرة سنة ١٣٨٤ بحضور الأمير سلطان، والشّيخ محمّد النّويصر، ود. رشاد فرعون، ود. كنعان الخطيب، ثمّ طار إلى جدّة لإذاعته ليلًا مع نشرة الأخبار.
أسهب أبو طلال في ذكرياته الإعلاميّة وطرائفها ومواقفها الحرجة، ومن الّلافت أنّ الوزيرين الشّيخ جميل الحجيلان وخلفه الشّيخ إبراهيم العنقري هما أكثر شخصين ذكرا بالاسم في الكتاب مع الملك فيصل، وللشّيخ جميل سيرة ذاتية منتظرة. وأورد المؤلف شهادته على بداية البث التّلفزيوني وما صاحبه من تحديات، وأنصف الأمير خالد بن مساعد، وبرأه من تهمة مهاجمة مبنى التّلفزيون أو قيادة مظاهرة باتجاهه كما يشاع، وأبان عن تعاون السّفارة الأمريكية في تشغيل التّلفزيون من خلال إبرام عقود لشركات أمريكية.

وكان التّلفزيون ضمن منهج الإصلاح الدّاخلي للملك فيصل إبّان ولايته للعهد، على أن يكون من التّرفيه البريء، وبدأ البث بين العشاءين، ثمّ امتد لأربع ساعات، وظهرت المرأة بصوتها فقط ثمّ بيديها، ومن الطّريف وصف البث بأنّه تجريبي لتطمين المتحفظين عليه وإيهامهم بوجود خط رجعة كما يبدو لي. ومن المعلومات التي تضيفها السّيرة الشّبيلية أنّ المذيعة هدى بنت عبدالمحسن الرّشيد قرأت أوّل نشرة أخبار في صيف عام 1394، وعليه فالسّبق لها، وأنّ أوّل تسجيل لمناسك الحج تمّ في عام 1391، كما روى المؤلف مواقف الملوك والأمراء مع التّلفزيون وبرامجه واستضافاته الفكريّة وأعماله الفنيّة، وأبدى أسفه على ضياع لقاءات مسجلّة ثمينة المحتوى، وانقطاع برامج ذات مضمون نافع.

ولخبرة المؤلف، وثقافته، وأفقه الواسع، يلمِح بأنّ الرّقابة الصّارمة للإعلام، وغياب الاحتراف المهني الإعلامي، وانقطاع الصّلة بين السّياسي والإعلامي، واستشراء آفة التّملق والمديح أو الهجاء البذيء، وهجرة بعض وسائل الإعلام، وضعف العناية بالإعلام الخارجي -وهي ملاحظة يشاركه فيها د. نزار مدني-، ساهمت في جعل الحضور الإعلامي المحلي باهتًا في الدّاخل، مفقود الأثر في الخارج.

وهذه معضلة تحتاج لحلول أدلى مؤلفنا بدلوه حولها حسبما يراه، ومن المؤلم إداريًا إشارته إلى إجهاض أحد وزراء الإعلام أيّ فكرة لا يحبّذها بحجة أنّه يملك توجيهًا ملكيًا شفويًا، فمتى يجرؤ أحدنا ويقول لمن يمرر مشروعاته بالاتّكاء على هذه التّوجيهات الخيالية أحيانًا: نريدها مكتوبة أو معلنة! 
وتتحوّل كلمات الكتاب إلى نهر من الدّموع، وفيض من الإيمان، حين يقف الشّبيلي مع مأساة وفاة ابنه طلال بعد معاناة طويلة غريبة التّسلسل، كشفت له حقيقة الحياة، وكيفيّة التّعامل الحصيف معها، وفوائد الهروب من توافهها، والله يرحم الرّاحل، ويعظم أجر المفجوعين، ويبارك في الحفيد سمي جدّه، ويحفظ أخواته الثّلاث، ويقر بهم العين، مع عمّاتهم وأبنائهن.

ويحمد المؤلف مولاه أن جعل بضاعته الكلام في الإعلام والتّعليم والشّورى والكتابة والمحاضرات، واجتهد فيها بأن يحافظ على دينه، ويصون ثقافته، ويفتخر بموروثاته، مع انفتاح معتدل، وانجفال من التّملق والإسفاف، وتعبير صادق عن الرّأي، مع دعوات مخلصة لتفعيل الإعلام وإلزامه بتوقير تراث الأمّة، واحترام مشاعر أفرادها.

ويرى أبو طلال ورشا وشادن أنّ أبهى مراحل العمر كانت مع التّوثيق والتّأليف، علمًا أنّه كتب بعد بلوغه الأربعين جلّ انتاجه، فكان بعيدًا عن الأغراض الوظيفية ومتطلبات التّرقية، وليس له أرباح مادية؛ لكنّ لذة العلم لا يعدلها شيء، خصوصًا بعد أن منحته عضوية الشّورى مزيدًا من الوقت للبحث والقراءة، فالتفت لمكتبته المنزلية ليعمرها، وجعل من سفره مع أسرته سياحة ترفيهية وتاريخية وتعليمية.

ثمّ وقف مع كتبه المطبوعة وهي كثيرة، وذكر قصة تأليف أغلبها التي تعود إلى كتابة مقال أو إلقاء محاضرة، وأتصوّر أنّ تجربته مع الكتابة والتّأليف تستحق مؤلفًا منفردًا. وفي سياق تآليفه خصّ سيرة السّفير العظيم أبو سليمان بنصيب وقدر من البيان والإيضاح، وإنّ أبا سليمان لحقيق بالاختصاص وتسطير مآثره، وهو ما سيجتهد المؤلف لتحقيقه في الطّبعة الجديدة من كتاب السّفير الشّبيلي.

ولأنّ ابن عنيزة لا يكف عن التّطوع والمشاركة الإيجابية الفاعلة، كان لصاحبنا عضوية في مراكز ثقافية تحمل اسم حمد الجاسر، وعبدالرّحمن السّديري، وعمل ضمن مجلس الشّركة السّعودية للأبحاث والنّشر، وفي المجلس الأعلى للإعلام، ومجلس إدارة صحيفة الجزيرة، وهو عضو فاعل في رحلة سنوية داخلية لأعضاء الشّورى القدامى يجوبون بلادنا، وما أكثر ما في بلادنا من مواضع سياحية تتناسب مع فصول السّنة.

كما انضم إلى مجموعات تواصل ذاتية بين أعضاء الشّورى المنتهية عضويتهم، وهذا مسلك حميد لتكوين بيت خبرة، وشبكة مجتمعية ظاهرة ونافعة. ومن ثمار جهوده حصوله على أعلى الأوسمة المحلية، وأرقى الجوائز، والله يطيل عمره على طاعة وإنجاز متين، ويجعل آثاره شاهدة له عند مولاه بعد عمر حافل بالمسرات والخيرات.

وغادرنا المؤلف بدون خاتمة؛ فهل هناك جزء آخر ينتظر الصّدور، فمن عادة الذّكرى أن يسحب آخرها أوّلها، ويستدعي حديثها قديمها، فهل نتوقع من د. عبدالرّحمن الشّبيلي كتابًا آخر كما فعل د. جلال أمين في ثلاثيته التي أصدرها متفرقة، فيمكن شراء كتاب وترك الآخر، ولا يلزم لقراءتها التّرتيب، وتتقاطع مع ممشى الشّبيلي في المتعة، والثّراء، والإفادة؟


أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض