كيف يكون جوابك مسكتًا؟

منذ 2019-01-28

امتلاك الحجّة العلميّة، والإحصاءات الدّقيقة، تجعل من لديه علم، أو عقل، أو حياء، يمسك عن المجادلة والنّقاش العقيم، ويسلّم مذعنًا لهيبة العلم، وسطوة الحقيقة، ودلالة الأرقام.

 

سألني سائل عبر الواتساب، عن كيفيّة صنع الجواب المسكت، ومع أنّي لا أحمل همّ الجواب الملجم؛ لسبب سأذكره، إلّا أنّي أجبت السّائل باختصار، وأضمرت في نفسي أن أكتب جوابًا أوسع؛ فطالب الفائدة رجل صالح، ومعرفته كانت بواسطة جار عزيز؛ وبالتّالي فحقوقه مضاعفة.

 

وفي إرثنا الثّقافي، مؤلفات كثيرة عن الأجوبة المسكتة، والرّدود المفحمة، ورأيت مرّة كتابًا عن أجوبة ظرفاء الفرنسيين، وغالبًا يوجد أمثاله عند شعوب أخرى، ومن سياقها وأنساقها يمكن استقراء وسائل بناء الجواب، حتى يتخلّص به المرء من أهل الفضول، والأجراء، ومن غاض نصيبهم من الأدب والحياء.

 

وسأذكر هنا بعض الطّرق التي تفيد في الإجابة، وخشية الإطالة لن أمثّل لأغلبها، وستكون قراءة أيّ كتاب يضمّ أجوبة قاصفة، من القراءات الماتعة في رحلة سفر، أو خلال أوقات الانشغال، والله ينفع بما كتب هنا وهناك.

 

فمن طرق هذه الصّناعة المطلوبة:

 

الجواب الصّريح:

 

وهو قذيفة مفاجئة، تحطّم الفضولي وليس جبهته فقط كما يستظرف بعض المعاصرين، ولذلك حين سُأل عمرو بن العاص رضي الله عنه عن أمّه أجاب بوضوح، وقال للسّائل: اذهب وخذ جعلك! وكثيرًا ما يصرّح النّاس بأمر مّا، ويكرّرونه؛ لبيان أنّهم لا يجدون عيبًا في ماضيهم، أو نقصًا في هيئتهم، أو مثلبة في وضع اجتماعي، وأكرم بني آدم أتقاهم.

 

تخيّل الموقف:

 

استشراف المستقبل ينفع كثيرًا، فلو كنت ستقابل قومًا من شأنهم الخوض في أمور، أو يخالفونك في رأي، أو يطربون لإحراج الآخرين، فمن الحكمة أن تستعد لهم. ومثله حين تقع أحداث وتصبح هي محور المجالس والاجتماعات، فقد يحسن أن تهيئ نفسك لها، ومن هذا الباب أن يعرف المرء خبر من سيذهب إليهم، وشيئًا من تاريخ زائريه.

 

الشّواهد دون ابتذال:

 

في النّصوص المقدّسة، والحكم والأشعار مخرج آمن من الأسئلة المحرجة، والمواقف المزعجة، فعندما ناقش أعرابي هشام بن عبد الملك وهو خليفة أموي كبير، غضب هشام وقال: أتجادلني؟ فقال الأعرابي المشبع بالحريّة من فوره: “يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها”، أفنجادل الله ولا نجادلك؟!

 

القراءة والاستماع:

 

سواء في فنّ الجواب القاصم، أو في الّلغة والأدب والتّاريخ، وعمومًا فأيّ قراءة مفيدة، وكلّ استماع ناضج، سيكون لهما أثر ناجع على الإنسان في عقله، ولسانه، وتجاربه.

 

الملاحظة:

 

يمتاز البعض ببداهة الجواب، والقدرة على التّحكم في الحديث، مع براعة استعمال الألفاظ، وملاحظة هؤلاء مفيدة، وتتّبع سيرهم وأخبارهم نافع أيضًا، وفي مواقع التّواصل الاجتماعي نماذج طريفة منهم.

 

استخدام شواهد ثابتة:

 

مثل قول الله تعالى: ” { لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم} ”، وقول النّبي عليه الصّلاة والسّلام: ” «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ”، ومن جنس حكاية النّاس أن الكلمة أنثى وجوابها ذكر، مع أنّنا في زمن أصبحت الأنثى فيه بالمقدّمة، وكم تفسد أنوثتها بزجّها في موضع القوّة!

 

البراعة الّلغويّة:

 

حين تزيد حصيلة الإنسان من الّلغة سيجد لهذه الثّروة آثارًا واضحة في تفكيره، وسعة أفقه، وتنوّع جوابه، وقدرته على التّخلّص، وبتغيير حركة كلمة أمير من “أمير المؤمنين” في بيت شعر واحد، استطاع شاعر خارجي الإفلات من مقصلة عبد الملك بن مروان.

 

صرف وجه الكلام:

 

ويصار إلى هذا الحل حين الاستغناء عن الجواب المسكت؛ مراعاة لحال، أو تربية لسائل، أو لمحافظة المسؤول على سمته ووقاره، ومن سيرة الشّيخ ابن باز أنّه كان يقول كثيرًا لمن لا يعجبه كلامه: سبّح!

 

السّكوت:

 

فأنت لست مجبرًا على إجابة كلّ سؤال، ولست مضطرًا للرّد على أيّ أحد، وأعظم انتصار هو أن تنتصر على نفسك الغضبيّة، وأن تكون أقوى من الضّعف بأنواعه، وتمتلك إرادتك ولا تغدو عرضة للتّوجيه من الآخرين ولو بردود الأفعال.

 

مواجهة السّؤال بسؤال:

 

من الكيد الحميد أن تجيب عن السّؤال بسؤال آخر، وتحيل الكلام لمن ابتدأه مع الإصرار عليه، فإمّا أن يجيب ويكفيك، أو يكفّ عن المشاغبة، ومن هذا الباب النّفاذ من ثغرات في سؤال المبتدئ، ورميه بسهم من هذه الثّغرة.

 

الحجّة العلميّة والإحصاء:

 

امتلاك الحجّة العلميّة، والإحصاءات الدّقيقة، تجعل من لديه علم، أو عقل، أو حياء، يمسك عن المجادلة والنّقاش العقيم، ويسلّم مذعنًا لهيبة العلم، وسطوة الحقيقة، ودلالة الأرقام.

 

التّاريخ منجاة:

 

تاريخ الدّول والأشخاص والأحداث فيه فوائد كثيرة، ويمكن لمن وعى التّاريخ أن يحمل من الأجوبة المسكتة ما يكفيه حتى قيام السّاعة، ومن لطيف ما يروى أنّ أهل غنم وزراعة تضرّرت أملاكهم من جوائح طبيعيّة، فاستنجدوا بزعيمهم الذي قال لهم: الجائحة قدر من الله وليست منّي! فابتدروه قائلين: وهل الزّلازل منك؟! لأنّه أغدق المساعدات على دول أصابها زلزال!

 

المقارنة:

 

المقارنات تظهر جوانب خفيّة، وأصعب ما يواجه الذين يدافعون عن قضيّة، أو يهاجمون كيانًا، أنّهم قد ينتقدون شيئًا عندهم أضعافه من الخطأ أو المآخذ، فيكون الواحد منهم شبيهًا لبراقش! ويروى أنّ رجلًا قال لآخر: ما أكثر زواج رجالكم! فأجابه: لكنّه في نسائكم أكثر! وقال قرشي ليمني: ما أضعف عقولكم حين ولّيتم عليكم امرأة! فأجابه: أضعف عقولًا منّا من قالوا: ” اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء…” ولم يسألوا الله الهداية للحقّ!

 

بداهة الجواب:

 

وهي نعمة تحتاج لتدريب ذهني، واقتناص لقطة من حال، أو زمان، أو مكان، ولذلك حين التقى الفرزدق مع جرير في صعيد منى خلال الحجّ، قال الفرزدق لجرير:

 

فإنّك لاقٍ بالمنازل من منى ******* فخّارًا فخبّرني بمن أنت فاخر؟!

 

فقال له جرير: بلبيّك اللهم لبيّك.

 

وحاول صحفي إحراج زعيم بقوله ما تفسير قول الله تعالى: ” {إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها} …”، فقال المسؤول: نحن ولاة أمر!

 

هذا أمر لا يعنيك:

 

وهو جواب مختصر، قد يغضب السّائل، بيد أنّ من أجاز لنفسه اقتحام خصوصيتك، فعليه أن يتحمّل ما يسمع، وتبقى طريقة أداء الجواب ملكًا لك، وأجد في هذه الإجابة كفاية إلّا لمن رام أن يكون حاذقًا، بصيرًا بمواطن الكلام.

 

المصاهرة والتّدريب:

 

وأخيرًا، فيمكن لمن يرى نفسه محتاجة لهذا الأمر؛ أن يتزوج من قوم شهروا به؛ كي يرث أولاده البداهة والبراعة، مع تعاهد نفسه بالتّدريب الذّهني والافتراضي، وتكثيف استخدام ما سبق، ولعلّه أن يحقّق مناه، ويصل لمبتغاه.

 

وتبقى إشارة مهمّة، وهي أنّ الجواب المسكت لا يصلح في مواضع؛ على رأسها مع الوالدين وهو من العقوق المشين، وفي مناسبات ربّما يصبح سببًا في سوء يلحق بصاحب الجواب، أو رزقه، أو حياته، أو حريته، والله يكفينا وإيّاكم.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض