لماذا لا يعلن الإخوان ومن وافقهم المراجعة والتراجع؟؟!!
يظهر بوضوح أن في الخلفية من يؤثر في قرار الجماعة ويثبتها على البقاء في دائرة الصراع، بمعنى يوجد مستفيد من حالة الصراع المحدود الذي ينهك الجميع ويؤدي إلى إحداث تحولات جذرية- داخل المجتمع
{بسم الله الرحمن الرحيم }
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان أحدهم يلقى النبي- صلى الله عليه وسلم- بوجهٍ طلق ويناديه بأفضل الأسماء (الصادق الأمين)، وحين يجتمع عددٌ من قريش مع بعضهم تنعكس الصورة تمامًا، يتطاولون ويسيئون الأدب. والسبب يكمن في أن الفرد من عامة الناس يكون له عقلان: عقل فردي.. حين يكون وحده وعقل جمعي.. وهو بين الجموع من الناس. ولذا نصحهم الله بقوله: ( {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} ).
وفي وقت الأزمات يتحول النخبة المثقفة إلى عامة ويدخلون في العقل الجمعي.
ولا ينجو من العقل الجمعي وقت الأزمات إلا خاصة المفكرين وقادة الرأي في المجتمع، أولئك الذين يصنعون الأزمة أو يفيدون منها.
بهذا المقولة النظرية- أو من خلال هذا المنظور-: (العقل الفردي والعقل الجمعي) نحاول قراءة الحالة الإسلامية في المشهد المصري بعد ثمان سنوات من المشاركة السياسة. ودعنا نشخص الحالة من خلال البحث عن إجابة لهذا السؤال: لماذا لا يعلن الإخوان ومن وافقهم المراجعة والتراجع؟!
بدايةً لماذا السؤال؟. ما هي المشكلة البحثية التي أفرزت هذا السؤال؟!
تكررت المراجعة والتراجع كثيرًا في الحالة الإسلامية. بشكل علني أو من خلال تحولات جذرية في المواقف والأفكار أو بدعوى تطور الفكرة. على مستوى الأفراد والجماعات وفي جميع الاتجاهات: المسلحة، والسياسية، والدعوية الوعظية. فبسهولة نستطيع أن نقرر أن التحول وتغيير الأفكار والمواقف من أبرز ما يشاهده متأمل للحالة الإسلامية- في مصر وغيرها-. وعلى سبيل المثال: أعلن الأستاذ حسن البنا قبل وفاته- حسب رواية رفيقه الأستاذ فريد عبد الخالق في برنامج شاهد على العصر/ الجزيرة- أنه ينوي التحول إلى المسار التربوي وترك- أو تقليل- النهج السياسي، وقبل ذلك أدخل النظام الخاص وحاول إخراجه؛ وسيد قطب حالة من التحول داخل الإخوان؛ ورفضُ الإخوان لنهج سيد قطب (مشهور نقد الشيخ القرضاوي لسيد قطب)؛ والعمل المسلح الذي بدأ في الستينات يعد حالة من المراجعة والتراجع مقارنة بما سبقه؛ ورموز من طليعة الحالة الجهادية تخلوا بشكل فردي عن العمل المسلح والتزموا الجانب التربوي فانحصر خطابهم (مؤلفاتهم) في التربية والأسرة والرد على شبهات النصارى؛ والجماعة الإسلامية تحولت من الحالة الدعوية للحالة القتالية ثم تحولت عن الحالة القتالية وانكفأت على نفسها ثم خرجت للمشاركة السياسية ثم تراجعت عن المشاركة والتزم عامتها الحياد في الصراع الحادث بعد 2013؛ والسلفية العلمية تموج موجًا، بداية من ظهور سلفية الاسكندرية وسلفية القاهرة في نهاية السبعينات كتطور داخل أنصار السنة، والقطبيون( الشيخ عبد المجيد الشاذلي وبعض الإخوان)، والجامية، وشيوخ الفضائيات، ثم جيل المنتديات والإنترنت. وهذه كلها صور لتحولات أو استجابات لتحديات خارجية. وللأسف لم تلق هذه الظاهرة ما يناسبها من اهتمام بحثي رغم انتشارها ومحوريتها، ورغم أنها تُظهر طبيعة وأثر التحديات الخارجية والداخلية على الحالة الإسلامية، و تظهر واقع ومآلات الحالة الصحوية والتجديد في الأمة. ومع كثرة التحولات في الأفكار والمواقف ومع فداحة الثمن الذي تدفعه الحالة الإسلامية بعد يوليو2013، ومع اتعاظ الإسلاميين في تونس واليمن مما حدث في مصر ومبادرتهم للانسحاب مبكرًا إلا أن الإخوان المسلمين ومن وافقهم في مصر وقفوا مكانهم ولم يحدثوا تحولًا، فلماذا لا يتراجع الإخوان كما غيرهم، وكما فعلوا هم من قبل؟!
يصعب تفسير الظواهر بمتغير واحد، فغالبًا ما يوجد متغير أساسي وعددٌ آخر من المتغيرات الداعمة له في إحداث الظاهرة محل البحث، ومنذ أربعة أعوام وأنا أحاول ترتيب أسباب صلابة قيادات الإخوان ورفاقهم على موقفهم بعد يوليو2013 مع ما عرف عنهم من براجماتية.
وكلما ظهر لي سبب أعدت النظر فيه مرة بعد مرة وقارنته بغيره حتى اهتديت إلى أن السبب الرئيسي لصلابة الموقف هو وجود من يتصل بهم ويثبتهم على موقفهم، فهي حالة من الثبات في المكان انتظارًا للحل من الخارج، وليست حالة من المقاومة الإيجابية التي تراعي السياق والإمكانات.
نعم هو ذا... أراه بوضوح كمتغير مستقل للظاهرة، وغيره من المتغيرات يتبعه ويخدمه!!
يظهر بوضوح أن في الخلفية من يؤثر في قرار الجماعة ويثبتها على البقاء في دائرة الصراع، بمعنى يوجد مستفيد من حالة الصراع المحدود الذي ينهك الجميع ويؤدي إلى إحداث تحولات جذرية- داخل المجتمع وداخل الحالة الإسلامية نفسها- في اتجاه العلمانية، على المدى القريب والمتوسط.
وقد طبقت هذا المتغير في تفسير اعتصام رابعة العدوية في مقالٍ سابق بعنوان (مذبحة رابعة أنقذت الإسلاميين) وأعتقد أنني وفقت للتشخيص الصحيح.
ويمكن دعم هذا الاستنتاج بحديثٍ عن سياق دولي وإقليمي يتعلق بإحداث تحولات في الأنظمة ومن ثم خريطة التفاهمات أو التحالفات بين الدول في الإقليم والقوى العظمى من أجل السيطرة على مصادر الطاقة الجديدة وخاصة الغاز ولكن المقام مقال وتكفي الإشارة.
لو بقيت الحالة الإسلامية ضمن الإطار الدعوي الخدمي بعد يناير وظلت في الخلفية تدعم من يتبنى مطالبها من الساسة لتغير عمقها الاجتماعي (رأس المال الاجتماعي) واستطاعت تحريك المشهد من الخلفية ولو جزئيًا وخاصة لو نبتت فيها نخبة تفيد من المتاح ضمن إطار الدولة القومية وتعالجها من داخلها (منهج إصلاحي). وكان هذا الخيار متاحًا جدًا لو نشطوا لدراسة الحالة الجزائرية فهي شديدة التشابه مع الحالة المصرية: ضربت وأنهكت ثم أخرجت من المشهد كلية حتى أنك لا ترى لهم حضورًا اليوم في الجيل الجديد الذي (يثور) على الظلم، وأعتقد أن من يهدهد الإخوان ورفاقهم ويثبتهم على الصمود يهدف إلى أن يعطل حركة التجديد داخل الإخوان أنفسهم.. يفوت فرصة التصحيح من قريب كما فعل الأتراك بعد تعثر أربكان.
وثمة أسباب أخرى تعزز هذا السبب وتدعمه، تجتمع- هذه الأسباب الفرعية- تحت مظلة العقل الجمعي الرافض للمراجعة والتراجع.
ويساهم في تكوين العقل الجمعي أشياء منها: الذين بالخارج. فهؤلاء ضمن سياق إنهاك المجتمع والحالة الإسلامية، وضمن سياق تفاوض/تنافس الدول الباحثة عن دور إقليمي أو حصة أكبر في الاستثمار ضمن مشاريع الطاقة وخاصة الغاز بالمنطقة. - أو الإفادة من الموارد الطبيعية والسوق الاستهلاكية في المنطقة عمومًا-، فهم يتلقون دعمًا محدودًا لا يمكنهم من إحداث تغيير حقيقي وفي ذات الوقت لا يُهملون كليةً فينصرفون عن المقاومة. ويُزَاحمُون بغيرهم من العلمانيين وحين تحين ساعة الصفر لإحداث تغيير جديد (ثورة) يتقدم العلمانيون الصف أو يدَّعون أنهم كانوا مع الإسلاميين.. مبعدين مشردين خارج الأوطان وندخل في دورة (ثورية) جديدة كالتي كانت في 2011، و1952...
وبعض الذين بالخارج قد حيل بينه وبين الرجوع لمصر بما صدر ضده من أحكام قضائية، وفي ذات الوقت يخشى تغير الحال في الدولة التي يعيش فيها، ولذا أصبح خيار (الثورة) لا بديل عنه بالنسبة له.
وبعضهم عاش لحظة تاريخية وجد فيها حضورًا ونفوذًا..أو وضعًا يشتهيه ولم يحصل عليه من قبل (الحرية والأمان)، ولا يريد أن يرحل عن هذه اللحظة أو يريد أن يعود إليها ثانية، ولذا تجد كثيرًا منهم يحتفظ بالألقاب التي حصل عليها في هذه الفترة مع أنها ألقاب علمانية يصفها هو في أدبياته بالكفر (مثل: نائب برلماني، رئيس حزب... )، أو كيانات وهمية لم يعد لها حضور في أرض الواقع (جبهة، جماعة،..). وبعضهم حدثت له مكاسب شخصية من المقاومة كوظيفة أو حضور إعلامي ويحافظ عليها.
فهؤلاء في الحقيقة يدافعون عن قضية شخصية بالأساس تتعلق بتحصيل منافع أو دفع مضار.
وللأسف لا أحد يفرق بين الصالح العام والمصلحة الشخصية، أو يحاول التوفيق بينهما فيجعل المصلحة الشخصية ضمن إطار المصلحة العامة.
وحين يتعارض قول وفعل فلا عبرة بأقوال كذبتها الأفعال فقد كذب الله من ادعى الإيمان بلسانه وكفر بأفعاله ( {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} )(البقرة:8).
وطبيعة التواصل اليوم يساعد على تشكيل العقل الجمعي، فالناس يلتقون في مواقع التواصل الاجتماعي بأسماء مستعارة ومن بيوتهم ويحضر النساء بعواطفهم الثائرة وثنائهم الذي يبحث عنه كثيرون، ولذا تجد حالة من الهيجان والعيش ضمن لحظة تاريخية فارقها الواقع.. وكلهم يندد بالذين لم يتعظوا بالتجارب السابقة وهو يشاهد الجزائر وقد أصبحت كلها علمانية ولا يريد أن يتعظ.
لم آت على كل ما عندي، وإن شاء الله أرجع لأضيء على المشهد من زاوية أخرى.
محمد جلال القصاص
29 مارس 2019
رجب 1440
- التصنيف: