لواء أديب يحكي لنا

منذ 2019-05-08

وهاهنا كتاب عنوانه: حكاية حياتي (1343-1924/1428-2007م)، تأليف اللّواء متقاعد علي بن عابدين زين العابدين، أعدّها للنّشر د.فهد بن عبدالله السّماري

 

لاتزال الأمم بخير ما روى الأوائل، واستمع الأواخر، فصدق المتحدّث، ووعى السّامع، مع حسن الظّن والإعذار، ولا مانع من الاجتهاد لإتمام ما لم يُسرد، أو بيانه وتجليته، ولأجل ذلك تحتلّ كتب السّير الذّاتية، والمذكرات، واليوميّات، مكانة عالية في أيّ مكتبة، ويعدّ النّشاط لها محمدة تضاف لمن أقدم عليها كي يلقي عن نفسه أثقالًا عالقة، ويبوح بآراء كتمت لسبب، أو نضجت بعد مزيد تفكير وحوار.

 

وهاهنا كتاب عنوانه: حكاية حياتي (1343-1924/1428-2007م)، تأليف اللّواء متقاعد علي بن عابدين زين العابدين، أعدّها للنّشر د.فهد بن عبدالله السّماري، وصدرت طبعته الأولى عن دارة الملك عبدالعزيز عام (1440=2018)، ويقع في (244) صفحة مكوّنة من تقديم ومقدّمة فتعريف بالمؤلف، ثمّ نموذج من أصل المذكرات بخط اليد، وبعدها ستون عنوانًا فرعيًا فملحق بالصّور وأخيرًا كشّاف عام.

 

يحمل هذا الإصدار الرقم (385) من كتب الدّارة التي لها باع واسع في حفظ الوثائق القديمة، والعناية بالشّهادات الشّفهية والمكتوبة، مع جهد واضح في التّحقيق، وكم أتمنى أن تواصل الدّارة مسيرتها العلمية لاحتواء جميع ما كتب حول الجزيرة العربيّة تاريخًا وبلدانًا، حتى لو كان بعض المضمون لا يُوافق عليه؛ لأنّه لا شيء يظلّ حبيس دائرة الكتمان مهما حرصنا، وهذه فرصة لإبداء رأينا، وإضافة وجهة نظر أخرى أو تفسير بجوار ما لا نقرّه، وإن لم نفعل فربّما يسبقنا آخرون لمآرب لا تكون علميّة أمينة أحيانًا!

 

وأشار د. السّماري في مقدّمته إلى أنّ هذه المذّكرات ترصد جانبًا من التّاريخ العسكري السّعودي، وتمنى أن يحظى هذا التّاريخ بتوثيق علمي شامل، وعسى أن ينهض لذلك القادرون، علمًا أنّ تدوين هذه المذكرات بدأ في عام (1381=1962) حين كان المؤلّف في القاهرة، وفرغ منها في عام (1426=2005م) أي قبل وفاته بقليل.

 

بينما أخبرنا المؤلّف في تمهيده أنّ فكرة الكتابة راودته عندما كان طالبًا في الكليّة الحربية بالقاهرة سنة (1363=1944م) ولم يستجب لها بسبب ندرة وقت الفراغ، ثمّ لمعت الفكرة من جديد بذهنه بعد انضمامه إلى القيادة المشتركة في القاهرة عام (1380=1959م) إذ أصبح الوقت لديه متاحًا، والعمل نادرًا، ومع ذلك لم يتشجع للتّنفيذ، وكان أصدقاؤه يحثونه على التّقييد إذا روى لهم شيئًا من ذكرياته، إلى أن هجم عليه العزم الأكيد للكتابة وهو يصلي المغرب في القاهرة، وما إن انفتل من فريضته حتى شرع يكتب هذا التّمهيد في الرّابع من شعبان عام (1381) الذي يوافقه الثّاني عشر من يناير عام (1962م).

 

يمتاز أسلوب الكاتب بالعذوبة، وأثر العناية باللّغة والأدب باد في أسلوبه، كما يظهر للقارئ شخصيته الواضحة، الصّادقة، الصّارمة، وجدّيته البالغة، مع روح طرفة حين يطغى الأديب على العسكري، وأكثر ما نلاحظه في هذه المذكرات اعتزاز الرّجل بدينه وموطنه وعروبته، وحسن تمثيله لبلده وحضارته، واعتداده بأخلاقه وقيمه، فلم يركع أمام طوفان الماديّة الغربيّة الجارف؛ ولذلك كره العيش في فرنسا ممّا أثار استغراب الآخرين!

 

نشأ علي في بيئة موسرة متدينة، ونال محبّة كبيرة من والده، ومنحه مكانة أثيرة حتى صار الطّفل علي يأمر وينهى فلا يُعارض، ومن شغف أبيه به أنّه أعطى أصدقاء صاحبنا أموالًا بناء على أمره؛ فعجب الأطفال من سلطة لدتهم على والده، وكان عجبهم من استجابة والدة السّريعة أكبر! بيد أنّ هذا الدّلال لم يستمر؛ إذ ارتحل والده عن الحياة في أواخر رجب عام (1350=1931م)، وأضحى ابن الثّمانية أعوام يتيمًا يذوق العقاب والضّرب لأوّل مرّة.

 

وفي طفولته ظهرت سماته العسكرية، فجهز جيشًا من أترابه وقادهم للمعارك، واتّخذ لنفسه سيفًا من خشب أو صفيح، وامتطى الدّواب من الحمار إلى الحصان، وكان مغرمًا بالمصارعة، ولأجل ذلك أصبح هدفه الدّراسي والوظيفي واضحًا، ولم يغب في لجة افتتانه بالشّعر والقراءة، وبعد تخرجه في مدرسة تحضير البعثات طلب إرساله للكليّة الحربيّة بمصر وهو ما كان.

 

بعد وصوله لمصر أفزعه ورود اسمه في قوائم كليّة الآداب؛ ولأنّه صاحب هدف سعى لاستنقاذه فقبل في الكلية الحربية متأخرًا، وروى قصّته فيها منذ حرجه من الكشف الطّبي الدّقيق، إلى أن أصبح طالبًا في كليّة عسكريّة يمعن بعض من فيها بإذلال الإنسان وكسر نفسه ليعتاد على الطّاعة، ويروّض نفسه على الاستجابة دون سؤال عن سبب أو حكمة، والله يكفينا وإيّاكم شر حياة تنهدم فيها معاني الإنسان، ولم ينكر الكاتب ما استفادة إبّان دراسته العسكرية من انضباط، وسرعة إنجاز، وقدرة على الملاحظة، وأعلن امتعاضه من معاملته على أنّه أجنبي، ومن بعض الإهانات والعقوبات الجائرة.

 

وتعد مذكرات زين العابدين جزءًا من تاريخنا العسكري كما ذكر د. السّماري، وعاصر فيها خمسة وزراء دفاع هم الأمراء منصور، ومشعل، وفهد بن سعود، ومحمّد بن سعود، وسلطان، وروى اللّواء شيئًا من خبره معهم، وذكر نبأ وفاة الأمير منصور المفاجئة، وفي سياق أحاديثه عن الوزراء فجوة في بعض فترات انتقال المنصب؛ وهي جديرة بأن تغلق بالمناسب المختصر إذا كان أصلها موجودًا في المخطوط.

 

وللمؤلّف أخبار مع فلسطين واليهود، وأكرمه الله بالصّلاة في المسجد الأقصى جمعتين متعاقبتين قبل احتلاله من يهود، وله مواقف ثابتة من الحقّ الفلسطيني، وفي أشعاره استنكر تصرفات يهود أمريكا تجاه زيارة الملك فيصل، أمّا الانتماء للعروبة والإسلام فلا تفقدهما عين قارئ المذكرات، حتى اشمأز من عسكريين عراة في أمريكا، ومن مناظر التصاق الجنسين بفرنسا، وما أحوجنا لتنقية الفطرة، ومخاطبتها بما ركزه خالقها فيها من خير.

 

وسرد المؤلف أخبارًا مهمّة عن التّعليم العسكري، والتّدريب، والارتقاء بالضّباط والجنود، وزيارات التّفتيش، والمشاركات العربيّة، وأفصح عن رأيه في عدد من الأعمال والمواقف والأشخاص، وله أوليّات عسكريّة، وجدير بمن يريد البحث في الشّؤون العسكريّة أن يعود لهذه المذكرات، ولعلّها أن تقود قدماء العسكريين على اختلاف قطاعاتهم للتّدوين والكتابة.

 

ولا يخلو عمل من نظر وإن قل، ففي الكتابة ملحوظة نحوية، وإملائية، وفي أحد حواشيه عن الفريق أول عبدالرّحمن آل الشّيخ لم يذكر المؤلف أنّه أصبح مديرًا للأمن العام، وقال بأنّه عمل سفيرًا في الكويت والصّحيح أنّه في عمل سفيرًا في البحرين، وفي حاشية أخرى نقصت مئة عام في السّنة الهجريّة لوفاة الوزير ابن سليمان. وأورد المؤلّف قصّة عن اثنين من العسكريين المصريين تدل على ضعف الانضباط، ووعدنا بواقعة عنهما كادت أن تحدث قطيعة بين بلدين، ومع ذلك فلم يرد شيء عنها، وختم الكتاب في نهاية جمادى الأولى عام (1426) الذي يصادف سنة (2005م) وليس (2006م) كما هو مكتوب.

 

ومن أخبار كاتبنا مهارته في الطّبخ، والزّوار القادمين إليه من علماء وأمراء ووزراء وسفراء ووجهاء وعسكريين وسواهم، وصراحته في الاعتذار عن مناصب، في مقابل مناصب وُعد بها بيد أنّها لم تكن من نصيبه في سابق علم الله، وله في دراسة اللّغات شأن محفّز، وهكذا يجب أن يكون من يلزمه التّعامل مع الأجانب، وعنده فقه في أدب السّياحة، ونظرة في تربية الأبناء، وحماية سمت المجتمع، وإنكار أيّ عمل يسوء الدّين والخلق، وأمّا خبره مع الاكتئاب والتّجارة بعد التّقاعد ففيه فوائد جمّة.

 

رحم الله الأجيال التي مضت بعد أن شيّدت وتركت آثارًا معنويّة وماديّة، وما أحوجنا لترداد سيرهم وإحياء مآثرهم؛ كي يعرف هذا الجيل ومَن بعده أنّهم سبقوا بأناس هذه تجاربهم، وأقوالهم، وعصارة خبراتهم ومعارفهم؛ فيقبس الّلاحق جذوة ممن سلف، إذ التّعاقب سمة أصيلة في المجتمعات العريقة، وإنّ عراقة مجتمعنا لمتينة عميقة لارتباطها مع دين الإسلام، ومكارم شيم العرب، وخدمة الحرمين، فضلًا عن تاريخ محفوظ، ولغة حيّة، وقمين بمجتمع هذه أركانه ألّا يخلد لما يناقضها، أو يركن إلى دعة ليست من تقاليد أوائله وأكابره.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العساف