سليمان السّليم وأقلام تروي

منذ 2019-05-13

فعلم التّراجم والطّبقات والسّير قام على رواية مآثر أموات في الغالب، إضافة إلى أنّ الثّناء على غير الموجود أقرب للموضوعيّة، وآمن من الفتنة

 

لا يعجبني الجدل ولوم الذّات بعد الحديث عن الرّاحلين، فعلم التّراجم والطّبقات والسّير قام على رواية مآثر أموات في الغالب، إضافة إلى أنّ الثّناء على غير الموجود أقرب للموضوعيّة، وآمن من الفتنة، وأقلّ إثارة لسخط الخصوم، وفيه أجر الاقتداء لمن كان حميد الخبر، وفوق ذلك عسى أن يكون من البشرى ولسان الصّدق الباقي، وليست طيّبات معجلّة.

أقول ذلك حين أكتب عن شخصيّة آثرت الانزواء وتحاشت الأضواء؛ بيد أنّ نورها سطع، وعبقها انتشر، ذلكم هو معالي د.سليمان بن عبدالعزيز السّليم وزير التّجارة ثمّ الماليّة الأسبق، الذي يمتاز كما وصفه زميله الوزير د.محمّد بن عبدالعزيز آل الشّيخ بهدوء المطمئن، وتواضع الواثق، وتعامل الإنسان، ومواقفه محدّدة بمفهوم رجل دولة، ولأنّه كذلك غادر الحياة عزيزًا ولم يحتج لأحد حسبما رأى الكاتب والأكاديمي د.محمّد بن حمد القنيبط، فيما وصفه د.إبراهيم بن محمّد العواجي بالمثال على تحدّي مغريات الكرسي.

درس أبو باسل في مدرسة النّجاة الأهليّة بالزّبير، ثمّ في كلّية التّجارة بجامعة القاهرة، وحصل على الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا، والدّكتوراه من جامعة جونز هوبكنز عام (1970م)، وكلاهما في تخصّص العلاقات الدولية، وزامل عددًا كبيرًا من الأسماء التي اشتهرت فيما بعد، ومن مواقف الدّراسة مع ثلاثة شباب أصبحوا وزراء فيما بعد أنّ أرواحهم كادت أن تتلف بحادث مروّع عام(1964م).

وعمل خلال مشوار حياته صبيًا في دكان قريب له بعرعر، ومؤذنًا في تبوك، وبائعًا في بقالة بالظّهران، وما أجمل الحياة بلا فراغ مشين، وحين أصبح وزيرًا للتّجارة طيلة عشرين عامًا (1395-1416)، واجه أزمات تموينيّة في الغذاء ومواد البناء، وأنشأ ملحقيّات تجاريّة في السّفارات، وجاهد لاستمرار انتخابات الغرف التّجاريّة، وسعى لمنح ميداليات الاستحقاق للمصانع والشّركات، وإيجاد نظام للشّركات العائليّة يمنع خلاف الورثة، واستقطب في مقر الوزارة كتابة عدل للتّيسير على المراجعين.

اختير في عام (1416) وزيرًا للماليّة عقب تغيير وزاري شامل، فسلخ عن كاهل هذه الوزارة العتيدة مسؤوليّة الإحصاء، والاقتصاد، ومعهد الإدارة، مستهدفًا قصر أعمال الوزارة على الخزينة فقط، ودهش وحقّ له أن يندهش إذا أنيط اختيار موقع لجهاز صرّاف بموافقة الوزير!

ثمّ قضى في الوزارة شهورًا قليلة قدّم استقالته بعدها، وقبلها الملك فهد بشفاعة من الأمير سلطان، وعلّلت الاستقالة حينها بأنّها لأسباب صحيّة، بينما يرى د.فهد بن عبدالله العبدالجبار بأنّ السّليم اكتشف أنّ طريقة عمل الوزارة لا تتناسب مع طبيعته فآثر مغادرتها ومغادرة مجلس الوزراء.

وللوزير السّليم مواقف راجع فيها الملوك والأمراء في أوامرهم، أو عن مسائل متداخلة بين التّجارة ووزارات سياديّة فوجد منهم الاستجابة والتّعاون، وأسوأ مسؤول هو من ينفذ دون نقاش، أو يخشى من مصارحة الأقوى منه بما يقتنع به، ظانًا أنّ طأطأة الرّأس، والإطراق، والصّمت، هي أسلم طريقة للبقاء في المنصب، أو أحسن دلالة على الولاء والطّاعة، وليست الطّريق هنالك!

ومن آرائه السّياسيّة ضرورة الموازنة في العلاقة مع أمريكا بين الوصل اللّذيذ والطّلاق القاطع؛ فشعرة معاوية تسعنا وتسعفنا، ويؤمن اقتصاديًا بأنّ الدّولة أسوأ تاجر، ولا يقدر على التّاجر إلّا جاره كما ينقل عن رجل الأعمال الشّيخ إبراهيم الجفّالي، ويروي مرارًا عن الثّري الشّهير الشّيخ سليمان العليان أنّ مدبّرًا بالدّار أحسن من حِدار، ومعناها أنّ ضبط المصروفات أولى من زيادة الإيرادات، وله يد بيضاء في إنشاء الكيانات المهنيّة وتمتينها مثل هيئة المهندسين، وهيئة المحاسبين القانونيين، وهي مبادرات تخدم المجتمع وترتقي به، وتربويًا يوصي بالابتسامة فهي أجمل زينة.

كما أنّه لا يعامل أقاربه وأصدقاءه معاملة تفضيليّة، ويخدمهم بشرطين هما ألّا تكون الخدمة مخالفة للنّظام، وألّا تصبح على حساب طرف آخر كما ذكر المحامي أسامة بن محمّد السّليم، وفي ذمته محامينا للقرّاء سيرة ذاتيّة قانونيّة عجّل الله فرجها، ومن العجيب سفره دون أبّهة الدّرجة والصّالات والاستقبال أو خصوصيّة في الطّائرات.

بينما نعته عارفوه بأنّه قليل الكلام، موسوعي الثّقافة، محافظ على المواعيد، منحاز إلى العمل، متشبّع بروح الفريق، ولا يسرق إنجازات موظفيه، ولذا كان وكيل وزارته د.عبدالرّحمن العبدالله الزّامل أشهر منه، وأجمعوا على أنّ المنصب لم يؤثر فيه، فتركه بسلاسة، أمّا من عرفه متأخرًا فلا يدري أنّه وزير وأكاديمي وكاتب؛ بسبب قربه من الآخرين، وندرة كلامه في مقابل إنصاته.

وهو مغرم بالتّعلّم والتّعليم، مسكون بحب اللّغة العربيّة وآدابها، وروى أناس كثر تصحيحه لهم من ناحية لغوية، فيما أشاد أساتذة لغة وأدب بسؤالاته وإيراداته، وكان رفيقه في الدّراسة والجامعة ومجلس الوزراء د.غازي القصيبي يسميه ديوان المراقبة أو سيبويه، وأكرم بمن يعلي من لغته، فكيف وهي لغة الكتاب العزيز؟

أمّا في بيته فهو ودود متواضع محبٌّ لأهل داره، شجّع زوجه وأولاده، وساند زوجته وابنته حتى حصلتا على أعلى الشّهادات وأرقى الدّرجات العلميّة، ولخصوصيّة مفهوم البيت لا يحضر إليه أوراق العمل، واتفق مع زوجه ألّا تنقل إلى دارها كتب أبحاثها، ولا يحبّذ أكل المطاعم، وخبزة مع زعتر هي عشاءه المفضّل!

ولديه مهارة في توزيع الحب، والتزام بالنّظام حتى في أوقات طعامه، ويصنع ألفة مع ملابسه، ويتذوق الجمال متى ما رآه، وهو مولع بالقراءة والشّعر والمشي والغذاء الصّحي، ويتابع مباريات كرة القدم لدرجة إعلان الطّوارئ في البيت خلال أوقاتها.

ومع أنّ داره في أوّل حياته الوظيفيّة كانت صغيرة، ووضعه المالي مختنق، إلّا أنّه استضاف خمسة من شباب أقاربه في خدمة شبه فندقيّة إضافة لمشاركتهم في لعب الكرة، وكانت لهم مقالب وحكايات، واستقبل طلّابه الجامعيين في حفلات شواء منزليّة، وحرص على إثارة روح التّساؤل فيهم.

وبعد أن أوسع عليه، افتتح ديوانيّة نهاية الأسبوع، طرقها الزّوار على تباينهم حتى بعد تقاعده، وفيها نقاش يديره د.السّليم بكلمات قليلة تاركًا لروّاد مجلسه الإفاضة في الحديث، ثمّ يختم الحوار بتوازن وتعابير محسوبة، ويهب جميع جلّاسه قسطًا من اهتمامه وعنايته دونما تفرقة أو تجاهل لحاضر، ويمنح التّرحيب لأيّ قادم، ويجدول سفره وإيابه بما يناسب موعد مجلسه، وحين واراه الثّرى تابع أولاده فتح المجلس شهريًا.

ولعنيزة وأهلها، ولأسرته العريقة بفروعها مكانة خاصّة لا تتناقض مع إسهاماته الوطنيّة، فيتابع شؤون بلدته مع محافظيها الذين يستضيئون بخبرته الإداريّة كما قال محافظا عنيزة اللّواء عبدالله اليحيى السّليم و المهندس مساعد اليحيى السّليم، بينما أشاد المحامي محمّد الأحمد الزّامل بمواقف أبي باسل تجاه أسرته؛ إذ يسبق الحاضرين لاجتماعاتها، ويشارك في الدّعم المالي لأنشطتها.

ولا تخلو حياته من مواقف طريفة يصنعها أو يحفظها ويطرب لها، فيسمّى كبرى أخواته الباجي، وإحدى بناته لموش، ولم تقنعه حفيدته بالفرق بين الزّهري والفوشي، وقال لزوج ابنته أغبطك على هذه الزّوجة، وبسبب حكاياته المرويّة عن جدّته التصق لقب عجوز الصّف بفتاة في الثّانوية!

وحين قال له ابن أخته بأنّ مجلس الإدارة يصعب إفهامه، واجهه برأي آخر فربمّا أنت يا ابن أختي لا تجيد العرض! وجلس على دكّة متجر قريبه في الطّائف وعنده رجل يجادله في السّعر ويهدد بالشّكوى لوزارة التّجارة، فقال التّاجر لزبونه: هذا الوزير أمامك!

ورغبت قرينته بشراء سيارة فخمة مستعملة، فرفض وقوفها أمام بيته، وفي حفلات الوزارة لأضيافها يوصي المشرفين ألّا ينسوا اللّبين والتّمير، ولم ينس حكاية الجبن والزّيتون لأحد أقاربه، واقترح على صديق ولدت له فتاة ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر تسميتها مريم، وتاب من إنابة د.القصيبي على وزارته إذا سافر.

اقتبست هذه المعلومات من كتاب ضخم عنوانه: أقلام تروي، من إعداد أ.د. نورة بنت صالح الشّملان الذي صدرت طبعته الأولى عام (1440=2019م) في (586) صفحة، ويتكوّن من إهداء ومقدّمة فأربعة فصول ثمّ خاتمة وملحق صور. ويتحدّث الفصل الأول عن إضاءات على حياة سليمان السّليم، وعنوان الثّاني أيّام سعيدة معه، ورصد الثّالث إسهاماته في الإعلام المكتوب والمرئي، وأطولها الرّابع الذي يحوي(152) مقالة صوّرت الرّاحل في عيون محبيه.

أهدت الزّوجة النّبيلة كتابها لمن أحب سليمان السّليم، ونبعت فكرته بعد هدوء نفسها ببركة القرآن على إثر رحيل رفيق حياتها؛ فجمعت ما نشر عنه واستكتبت معارفه في جهد من الوفاء جميل. وشكرت من ساعدها وعلى رأسهم د.عبدالرّحمن الشّبيلي أحد أشهر من كتب عن أعلام بلادنا، وفي خاتمة الكتاب ذكرت أنّ منجزات زوجها الرّاقدة أيقظتها أقلام محبيه، ووصفت الكتاب بأنّه كتاب العمر، وواسطة عقد مؤلّفاتها وأقربها إلى وجدانها.

يحتاج الكتاب لتصحيح أغلاط يسيرة في النّحو والضّمائر والطّباعة، وتعديل بعض التّواريخ، وإعادة تصنيف المقالات حسب علاقة الكاتب بالمترجَم، أو ترتيبها أبجديًا وهو مالم يكن مع أنّه أشير إليه، وأمّا الأنسب فيما يبدو فهو استلال مستخلص بالمواقف والقصص، ونشره في كتاب أصغر وأيسر للقراءة والانتشار.

وفي الكتاب رسالة ضمنيّة لكلّ صاحب خبرة ومواقف؛ كي يبادر لرواية ذكرياته أو كتابة سيرته، فنحن بحاجة لتجاوز اصطناع الزّهد، مع تحرّي الصّدق والموضوعيّة قدر الإمكان، وستكون التّجارب من خير ما يتركه السّابقون لمن يخلفهم، فإنّ حرص الأوّل على الثّاني، وتقدير المتأخر للمتقدّم، خصال تجدر بنا، وتتوافق مع قواعد ديننا، ولوازم عروبتنا، وسنن أوائلنا.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف