الاستدلال بحديث: (...فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) على جواز حلق اللحى

منذ 2019-05-22

الحق واحد لا يتعدد وإن اختلفت أفهام الناس فيه، فيستحيل أن يكون الحق متعدداً، إنما الحق واحد، وطرق الناس في الذهاب إلى الحق متباينة، لكن الذي أصاب الحق واحد فقط، فلا شك أن أحدهما مخطئ ولم يعنفه النبي عليه الصلاة، إنما الذي يعنف هو المأزور،

الاستدلال بحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) على جواز حلق اللحى


الحمد لله رب العالمين، 
فقد ذكرنا حديث: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران» وقد ذكَّرني هذا الحديث بقضية أثارها بعض الناس، فقد استدل بعضهم على حكم حلق اللحية بإقراره صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الذين غزوا بني قريظة واختلفوا في صلاة العصر: أيصلونها في بني قريظة أم يصلونها في وقتها؟ ولم يعنف النبي عليه الصلاة والسلام إحدى الطائفتين، فقالوا: كذلك الذي يعفي لحيته لا يجوز له أن يعنف حالقها، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين.


وهذه فرية بلا مرية؛ إذ كيف يقيس هذا الإنسان إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين اختلفوا في أداء العصر أفي الوقت أم في بني قريظة بعد الوقت على أمر نص النبي عليه الصلاة والسلام نصاً واضح الدلالة أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد حلق لحيته؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اعفوا اللحى وقصوا الشوارب».


أما الذين ذهبوا لغزو بني قريظة فقد سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، فقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصد ظاهر الخطاب؛ بل أراد أن يحثنا على القتال حتى ندخل بني قريظة قبل العصر فنصلي هناك، أو ندخل بني قريظة في وقت العصر فنصلي هناك، فهذا حث منه لنا عليه الصلاة والسلام أن ندخل بني قريظة في وقت العصر، ولم يكن يقصد أننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو كان وصولنا بعد العشاء.


وذلك لأن عندهم أدلة واضحة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فهذه الأدلة الواضحة لا يمكن أن يتركوها لنص فيه احتمال، والعلماء يقولون: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، فإذا كان ظاهر الخطاب يحتمل أكثر من وجه، فلا يتعين أحد الأوجه إلا بدليل مستقل خارج عنه.


وعندهم أدلة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فيقولون: لا نترك هذه الأدلة القاطعة بنص يحتمل أكثر من وجه، فحملوا دلالة النص على معنى الأحاديث الأخرى، وهو: استحثاث المسلمين على دخول بني قريظة في وقت العصر.
وقال بعضهم: لا.
بل قصد أننا لا نصلي العصر حتى نغزو بني قريظة، ولو أخذ منا الجهاد إلى وقت العشاء.


ولم يعنف بعضهم بعضاً، ولم ينشق المسلمون وهم يقاتلون بسبب هذا الاختلاف الفقهي، إنما كلٌ أخذ برأيه ولم يعنف الآخر، فالذين أبوا أن يؤخروا العصر عن وقته صلوا العصر، والآخرون لم يصلوا العصر حتى غزوا بني قريظة، فكان وقت العصر قد ذهب.


فعندما جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذكروا له ما حدث، تبسم ولم يعنف أحداً، فإقراره عليه الصلاة والسلام حقٌ؛ لأنه لا يقر على باطل ولا خطأ، فلما سكت دل على أنه أقر كلا الطائفتين.


فالشبهة التي يحتجون بها: أن طائفة فعلت شيئاً، وطائفة فعلت عكس الطائفة الأولى، فلم يعنف هذه ولا تلك، فكذلك المسلم إذا أعفى لحيته لا جناح عليه، فإن حلق لحيته فلا يجوز للآخر أن يعنفه، فهل واقعة بني قريظة كمثل هذا المثل الذي ضربه هذا المحتج؟

الجواب
شتان ما بين الأمرين، ولا يستقيم في الأذهان شيء إذا كانت القسمة هكذا، إذاً: فلماذا لم يعنف النبي عليه الصلاة والسلام إحدى الطائفتين برغم أن الحق في جانب واحد منهما بلا شك؟

لأن الحق واحد لا يتعدد وإن اختلفت أفهام الناس فيه، فيستحيل أن يكون الحق متعدداً، إنما الحق واحد، وطرق الناس في الذهاب إلى الحق متباينة، لكن الذي أصاب الحق واحد فقط، فلا شك أن أحدهما مخطئ، فلماذا لم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر»، فهل يجوز أن يعنف من له أجر واحد المأجور؟ لا يعنف،

إنما الذي يعنف هو المأزور، وهذا بنص الحديث، فلذلك لم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لا لأنه أقر الاثنين، بمعنى: أنه أقر أن ترك العصر حتى يخرج وقتها صواب، وأن الذين صلوا في الوقت على صواب، إنما لم يعنفهم؛ لأن الذي أخطأ أصاب أجراً واحداً.
فحديث واقعة بني قريظة التي أقرها النبي عليه الصلاة والسلام لا علاقة لها بالمثل المضروب؛ لأن المثل المضروب في أمر، وعلماء الإسلام يقولون: إن الأمر إذا خرج من النبي عليه الصلاة والسلام يفيد الوجوب، أي: أنه لا يجوز للمسلم أن يخالف أمره صلى الله عليه وآله وسلم.


ورحم الله الإمام المجتهد تقي الدين السبكي إذ قال في جزء له أسماه (بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: وليتخيل أحدكم إذا سمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم أنه واقف بين يديه، وسمع هذا الأمر منه، أكان يسعه أن يتخلف؟ الجواب: لا.


لذلك إذا سمع المسلم حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام فواجب عليه أن يمتثل.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.

والله اعلم.
 

أبو إسحاق الحويني

أحد الدعاة المتميزين ومن علماء الحديث وقد طلب العلم على الشيخ الألباني رحمه الله