نفحة من ليلة!
ومن جملة نعم الله الزّمانيّة علينا أن جعل ليلة من ليالي أفضل الشّهور ذات قدر ومكانة، تضيق الأرض من كثرة ملائكة السّماء المتنزلين إليها بأمر ربّهم
لله مِنن في الزّمان والمكان والحال، لينقلب الموفّق من فضل إلى فضل، ولا يكاد ينقطع المحسن عن فرصة يزداد فيها تعبّدًا لمولاه، فأيّ فوز أعظم، وأيّ منزلة أسنى، من حبّ الله والرّضى عنه؛ عسى أن ننال محبته ورضوانه وولايته.
ومن جملة نعم الله الزّمانيّة علينا أن جعل ليلة من ليالي أفضل الشّهور ذات قدر ومكانة، تضيق الأرض من كثرة ملائكة السّماء المتنزلين إليها بأمر ربّهم، وتُكتب فيها الأقدار، فالسّعيد من اهتبل بركاتها، ومن البلاء والاستدراج تفريغ جوهرها بالشّعارات، والانشغال عن حقيقتها بالاحتفالات التي لا تقدّم ولا تؤخر، وليس فيها تعظيم أو توقير لله ربّ العالمين.
ثمّ إنّها امتازت بهذا الفضل والحضور ببركة نزول القرآن العظيم فيها، أفلا نجعل لنا من كتاب ربّنا نصيبًا يوميًا مفروضًا، كي تستوعبه القلوب والعقول، وتبني بآياته وعظاته ومفاهيمه حواجز سميكة تحول دون طوفان الشّهوات والشّبهات، وهي كثيرة تتناسل من حيث نحتسب أو لا نحتسب.
لذا فما أحرانا على المستوى الفردي بالتّفرغ التّام لها، وعلى المستوى الجماعي بالاحتشاد لاستقبالها، وتشجيع الآخرين على قيامها؛ فهي ليلة عن ألف شهر، ومن أدرك ستين رمضان واستثمرها كسب فضل ستين ألف شهر تعادل خمسة الآف سنة، وما هي إلّا سويعات نحجز فيها أنفسنا، لنحسن استقبال عام بعدها، ونبقي في نفوسنا جذوة منها وقسمًا من روْحها، ونتوقى بها يومًا عند الله كألف سنة.
وحين سألت أمّنا عائشة رضوان الله عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمّا تقوله إذا أدركت ليلة القدر، أجاب معلّمًا زوجه الأثيرة والأمّة من بعدها إلى دعاء مختصر لا تكلّف فيه ولا تنميق : “قولي: الّلهم إنّك عفو كريم تحبّ العفو فاعف عني”، وفيه إرشاد إلى جوامع الدّعاء، وترك الاعتداء، فمن عفي عنه في الدّنيا سلم من العقوبة، ومن فاز بعفو الآخرة نجى من النّار.
يالها من ليلة تُقضى فيها الحاجات، وتُغفر الزّلات والعظائم لمن أناب وتاب بصدق، ويتقارب العبد من طاعة مولاه، ويتزوّد لعام قابل وأيام قادمة، والحصيف من اختلى بربّه، وأفرغ قلبه، وسكب ماء عينيه بين يدي مولاه، وابتهج بضيوف الأرض من ملائكة الكبير المتعال؛ فأيّ أمن، وأيّ اطمئنان؟ وإنّ الخسران في انقضائها دون حيازة أكبر ربح ممكن؛ وكلّها مربح!
وهي ليلة من عشر، أو واحدة من خمسة أوتار، أرجاها ليلة سبع وعشرين دون جزم، وفيها اجتهادات عديدة تتجاوز الثّلاثين قولًا، وذهب آخرون إلى أنّها تنتقل بين الّليالي، وللشّيخ الرّاحل ممدوح الجبرين اجتهاد جريء يحصرها في ليلة الثّلاثاء الفرديّة من العشر استنادًا لحديث فضل يوم الاثنين “ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأُنزل عليّ فيه”، بينما يذهب المفسّرون إلى أنّ نزول القرآن ليلة القدر ينصرف إلى نزوله من الّلوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا؛ وليس إلى نزوله على النّبي عليه السّلام في الغار، والعلم عند الله.
إنّها ليلة سلام، وأنس، وسكون نفس وأجواء، ليلة نفحات مَنْ ظفر منها بنفحة قد تنجيه من لفح لهيب يتلّظى، ومن فاز بنفحة منها حاز من المِنح ما لا يوصف، ومن غنم نفحة منها كان كمن ارتقى من سفح لقمّة، فكيف نتركها ولا نتسابق إليها، وهي متاحة لأيّ أحد دون أن يُنقص نصيب فرد منها حظّ غيره فيها، وما أكرم الله وأحلمه يوم اختارها في شهر رمضان والنّفوس مقبلة، وصيّرها في أواخره بعد مران على القيام والتّبتل؛ ليجتهد الصّادقون قبل فراقه، مخافة ألّا يعودوا إليه.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
- التصنيف: