المرأة وسيماء النفس والصورة - (2) النفس والروح

منذ 2019-07-03

وقد نجم عن هذه النصوص إشكال بين علماء الإسلام فيمَ خُلِقَ أولا: النفس أم البدن؟ وذلك نظرا لما دلت عليه ظواهرها من مخاطبة الأنفس في استقلال عن الأبدان، ومن إبصار بعضها لبعض في عالم الأرواح.

ومن النصوص العجيبة الدالة على ذلك أيضا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد»،  وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن النفس المخلوقة لكائنة».


وقد نجم عن هذه النصوص إشكال بين علماء الإسلام فيمَ خُلِقَ أولا: النفس أم البدن؟ وذلك نظرا لما دلت عليه ظواهرها من مخاطبة الأنفس في استقلال عن الأبدان، ومن إبصار بعضها لبعض في عالم الأرواح. وهذا خلاف نقله الإمام الرباني ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. قال في شفاء العليل: (وكذلك في خلق الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان).

فقد كان شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى من أبرز القائلين بسبق الجسم على النفس. بينما كان قبله الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي من القائلين بسبق النفس على البدن؛ انسجاما مع ظاهريته. وذلك ما نقله ابن القيم مفصلا في كتاب الروح قال: (وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال: والذي نقول به في مستقرالأرواح، هو ما قاله الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم، لا نتعداه.

فهو البرهان الواضح، وهو أن الله عز وجل قال: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.

وقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف:11].

فصح أن الله تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر أن «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»  وأخذ الله عهدها وشهادتها له بالربوبية، وهي مخلوقة مصورة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد. والأجساد يومئذ تراب وماء! ثم أقرها حيث شاء.

وهو البرزخ، الذي ترجع إليه عند الموت. ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة، فينفخها في الأجساد المتولدة من المني. إلى أن قال: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأغراضها من التعارف والتناكر، وأنها عارفة مميزة، فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء، ثم يتوفاها، فيرجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أسري به عند سماء الدنيا، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره.

وذلك عند منقطع العناصر، ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة. قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه،

قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم. قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام.
إلا أن ابن القيم رحمه الله رد ذلك كله، وذهب إلى ما ذهب إليه أستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في كتابه القيم "أحكام أهل الذمة": (والذين قالوا إن الأرواح خلقت قبل الأجساد ليس معهم نص من كتاب الله ولا سنة رسوله. وغاية ما معهم قوله: "وإذ أخذ ربك من بني آدم" الآية. وقد عُلِم أنها لا تدل على ذلك.

وأما الأحاديث التي فيها أنه أخرجهم مثل الذر؛ فهذا هل هو أشباحهم أو أمثالهم؟ فيه قولان. وليس فيها صريح بأنها أرواحهم. والذي دل عليه القرآن والسنة والاعتبار أن الأرواح إنما خلقت مع الأجساد، أو بعدها. فإن الله سبحانه خلق جسد آدم قبل روحه، فلما سواه وأكمل خلقه نفخ فيه من روحه، فكان تعلق الروح به بعد خلق جسده. ... وكذلك سنته سبحانه في خلق أولاده، كما دل عليه حديث عبد الله بن مسعود المتفق على صحته. قال: "سمعت رسول الله يقول: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح».

وقد غلط بعض الناس حيث ظن أن نفخ الروح إرسال الروح وبعثها إليه، وأنها كانت موجودة قبل ذلك، ونفخها تعلقها به. وليس ذلك مراد الحديث! بل إذا تكامل خلق الجنين أرسل الله إليه الملك، فنفخ فيه نفخة فتحدث الروح بتلك النفخة، فحينئذ حدثت له الروح بواسطة النفخة!) 
إلا أن المتحصل من ذلك كله، والذي عليه العمل في ورقتنا هذه؛ أنه لا خلاف بين المذهبين في أن النفس أو الروح مخلوقة، سواء كان ذلك قبل البدن أو بعده أو معه.

وأنه لا يقول بقدمها إلا أصحاب المقالات الإلحادية. وأنها جوهر كينونة الإنسان، وأنها مفارقة للبدن. وأنها محل الوعي الإنساني. فالوجود البرزخي إذن؛ إنما هو وجود نفساني؛ لأن الجسم يأكله التراب، لكنه وجود عاقل واع. قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]،

وفي الحديث: عن أنس بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا. ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال «يا أبا جهل بن هشام! يا أمية بن خلف! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا»  فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا؟

قال «والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم. ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» ثم أمر بهم فسحبوا. فألقوا في قليب بدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: «إنَّهُما يُعَذَّبانِ ومَا يُعَذَّبانِ في كَبير»  قال: وفي رواية البخاري: «بلى إنَّه كَبيرٌ، أمَّا أحَدُهُما فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، وأما الآخَرُ فَكانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِه» ).


ومن النصوص الدالة على السيماء الخاصة بالنفس الإنسانية، بمعزل عن البدن، هذا الحديث العجيب، الذي يصور حركة النفس بعد مفارقة الجسد بالموت مباشرة. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب! اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان! فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقول: فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب! ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان! فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى. فإذا كان الرجل السوء، قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث! اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق! وآخر من شكله أزواج! فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث! ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك أبواب السماء! فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر؛ فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع، ولا مشعوف، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه، فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج له فرجة قِبَلَ النار، فينظر إليها، يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله تعالى! ثم يفرج له فرجة قِبَلَ الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك! ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله؛ ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفا! فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري! فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته! فيفرج له فرجة قِبَلَ الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك! ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا! فيقال: هذا مقعدك! على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله»


فالوجود البرزخي إذن هو وجود نفساني واع، وإنما البدن في الإنسان لباس طيني فان!
ومن هنا فإنما خاطب الخالق جل وعلا الإنسان باعتباره (نفسا) على سبيل الاشتراك. أي بلا تمييز جنسي في الأصل. سواء كان الخطاب متعلقا بالتكوين أو كان متعلقا بالتكليف. قال تعالى مثلا: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53].

وقال سبحانه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]

وقال أيضا: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]

وقال أيضا: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 233] وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وقال أيضا: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمرن:25]، وقال أيضا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} [آل عمران: 185]
وقال أيضا: {يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل:111]

 وقال أيضا: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] وقال أيضا: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:21 - 22]  

وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]
وقال أيضا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
 

فريد الأنصاري

عالم دين وأديب مغربي، حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصص أصول الفقه.

المقال السابق
(1) المرأة والنفس الواحدة
المقال التالي
(3) جمالية الأمومة