القليل يصنع الكثير!

منذ 2019-07-08

ما أكثر الأموال التي ننفقها جزافاً، والوطن يحتاج إلى جزء منها: الأموال التي تنفق على الزهر والورد الذي يلقى بعد يومين على المزابل ...

حدثنا الأستاذ الحوماني أن جامعة عليكرة في الهند إنما أنشئت بآنة، والآنة أصغر قطعة من النقد الهندي! وذلك أنهم اتفقوا على أن يعطي صاحب الدار ضيفه آنة بدلاً من فنجان القهوة أو حبة السكر، وهذا يضعها في صندوق معدٍ لذلك، فاجتمع من هذه الصناديق المالُ الذي أقيمت به جامعة عليكرة؛ أكبر جامعة في ديار الإسلام ومن أكبر جامعات الأرض.
قال أحد الحاضرين: "وعلى أن لا يكون المفتاح مع صاحب البيت"! وقصّ علينا قصة موظف استحل الرشوات وتعوّد أخذ المال الحرام، فوضعوه في عمل لا يستطيع معه أن يحتال على الناس، فعلّق في غرفته صندوقاً كتب عليه «صندوق فلسطين» وصار يلزم كل مراجع أن يلقي فيه شيئاً، ثم يلقي هو آخر النهار كل شيء في الصندوق في جيبه.
...
ونحن -إذا أمنا السرقات ووثقنا من نظافة الأيدي التي تجمع- استطعنا أن نحقق أعظم المشروعات، ونجعل سورية في عشر سنين دولة من دول أوربا في حضارتها وعمرانها بلا جهد ولا تعب.
ولقد كتبتُ قديماً في «الرسالة» أن جمعيةً تألفت في السويد (على ما أذكر) اسمها جمعية أكاليل الجنائز، عملها أن تقنع من يريد أن يقدم إكليلاً

لجنازة بأن يدع تقديمه ويعطي الجمعية ثمنه؛ فاجتمع لها من ذلك أموال أقامت بها عشرات الملاجئ للفقراء. وكتبتُ من سنتين في «النصر» أدعو إلى إبطال تقديم السكاكر -في العقود والأعراس- في هذه العلب الفخمة، وتقديمها في قراطيس، وجمع أثمان العلب للبر والخير، وحسبت ما يجتمع من ذلك في دمشق فظهر أنه يمكن أن يُبنى به -في كل سنة- مستشفى كمستشفى المواساة!
وما أكثر الأموال التي ننفقها جزافاً، والوطن يحتاج إلى جزء منها: الأموال التي تنفق على الزهر والورد الذي يلقى بعد يومين على المزابل ... والأموال التي تصرف على بدلة العرس وهي لا تُلبس إلا مرتين أو ثلاثاً ثم تعلق في الخزانة حتى تصفرَّ ويأكلها العث ... وهذه التحف التي توضع في غرف الجهاز فتجعل غرفة الاستقبال كدكان بائع الموبيليا وتدل على ذوق سقيم ... وهذه الثريات البلورية الجديدة التي ننفق فيها كل سنة أكثر من مليون وثلاثمئة ألف ليرة تذهب إلى أيدي الأجانب ثم لا تكون عاقبتها إلا الكسر، مع أن الثريات النحاسية التي تصنع في بلادنا أبهى منظراً وأطول عمراً ... وما ينفق على أدوات الزينة ...
ولو أن الأمة تنبهت وتيقظت وتألفت فيها جمعيات كجمعية أكاليل الجنائز، تقصر كل جمعية جهدها على وجه واحد من هذه الوجوه الكثيرة، لاستطاعت كل جمعية أن تعلّم كل سنة ألف أمي، أو تداوي ألف مريض، أو تضم إليها ألف متشرد.
فهل جاء الوقت الذي تستجاب به هذه الدعوة، أم أنها سابقة أوانها؟ أظن أنها سابقة أوانها!

علي الطنطاوي

الأديب المشهور المعروف رحمه الله تعالى