يوم الحديبية: فوائد وعبر

منذ 2019-07-11

إنَّ من أعظمِ الأيَّام النبويَّة: يوم الحديبية، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبرَ أصحابَهُ بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً.

الحمدُ للهِ وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، شهادةَ مَن أخلصَ له قلبُه وانجابت عنه أكدارُ الشركِ وَصَفَا، وأقرَّ له برِقِّ العُبوديةِ واستعاذَ به من شرِّ الشيطان والْهَوَى، وتمسَّكَ بحبلهِ المتينِ المنزَّلِ على رسولهِ الأمينِ محمدٍ خيرِ الوَرَى، صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ دائماً إلى يوم الحشرِ واللِّقا، ورضيَ اللهُ عن أصحابهِ وأزواجهِ وذريَّتهِ وأتباعهِ أجمعينَ أُولي البصائرِ والنُّهَى.

أما بعد:

فإنه لا يَجْمُلُ بأيِّ مُسلمٍ أن يُهْمِلَ معرفةَ الأيامِ النبويَّةِ والتواريخِ الإسلامية، فهيَ مُشتملةٌ على علومٍ جَمَّةٍ وفوائدَ مُهمَّةٍ، لا يستغني عالمٌ عنها، ولا يُعذرُ في العرْوِ منها.

 

ألاَ وإنَّ من أعظمِ الأيَّام النبويَّة: يوم الحديبية، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالبيت، فأخبرَ أصحابَهُ بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].

 

قال العينيُّ: {وكانَ خُرُوجُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِنَ المدينةِ يومَ الاثنينِ لهلال ذِي القَعْدَةِ سنةَ سِتٍّ بلا خلافٍ} انتهى.

 

خَرَجَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ألف وأربعمائةٍ من أصحابه من المهاجرين والأنصار ومَن لَحِقَ بهم من العَرَب، قال البراءُ رضي الله عنه: (كُنَّا يومَ الحُدَيْبيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً) رواه البخاري.

 

فأحرمَ وأصحابُه من ذي الحليفة وساق معه الهدي لتعلم قريشٌ أنه ما أتى إلاَّ للعمرة، ولَما وصل صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أخبره بشر الكعبي أن قريشًا قد استعدَّت لصدِّه عن البيت، فسلك صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ طريقًا آخر وعرًا بين الشعاب، فلما وصل إلى الحديبية حَبَسَ ناقَتَهُ حابس الفيل فبرَكَت، ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «والذي نفسي بيدِهِ، لا يَسأَلُوني خُطَّةً يُعظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللهِ إلا أعطَيْتُهُم إيَّاها»، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثبَتْ» (رواه البخاري).

 

فأرسلَ صلى الله عليه وسلم خِراش الخزاعي إلى قريش فأرادوا قتله.

فأرسلَ عثمانَ بن عفان، فأَبَوا الصُّلْح، وعَرَضوا على عثمان أنْ يطوفَ فأبى حتى يطوفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولقيَ المستضعفين من المؤمنين بمكة فبشَّرَهم بالفتح وقُرب الفَرَج، ولَما تأخَّر رضي الله عنه شاعَ بين الناس أن قريشاً قتلَته، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبيعة، فبايعوه على (ألاَّ يَفِرُّوا)، وفي رواية: (على الموتِ)، (فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بيَدِهِ اليُمْنَى: «هذهِ يَدُ عُثمانَ»، فضَرَبَ بها على يَدِهِ، فقالَ: «هذهِ لعُثمانَ» رواه البخاري،

وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لهم: «أنتُمُ اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ»  (رواه مسلم) ،

وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: {لا يَدْخُلُ النارَ، إنْ شاءَ اللهُ، مِنْ أصحابِ الشَّجَرَةِ أحَدٌ، الذينَ بايعُوا تَحْتَها} (رواه مسلم)،

وفيهم نَزَلَ قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]،

وأتى بديل الخزاعي فأَمَرَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ يَذْهَبَ إلى قريشٍ ويَعْرِضَ عليهم الصُّلْح {وإنْ هُمْ أَبَوْا، فوالذي نفْسي بيدِهِ لأُقاتِلَنَّهُم على أَمْرِي هذا حتى تَنْفَرِدَ سالفَتي، ولَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ} ( رواه البخاري)، فأَبَتْ قريشٌ.

ثمَّ أرسلَتْ قريشٌ الحلس الكناني فرأى تعظيم النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للهدي ورآها مُقلَّدة، ورأى الصحابة يُلبُّون، فرَجَعَ إلى قريشٍ وقال: (يا معشرَ قريش: قدْ رأيتُ ما لا يَحِلُّ صدُّه، فقالوا: اجلسْ فإنما أنتَ أعرابيٌّ لا عِلْمَ لَكَ).

وأرسلَتْ قريشٌ عروة بن مسعود فرَجَعَ إليهم (فقالَ: أيْ قَوْمِ، واللهِ لقدْ وَفَدْتُ على الْمُلُوكِ، ووَفَدْتُ على قَيْصَرَ وكِسْرَى والنَّجاشيِّ، واللهِ إنْ رأيتُ مَلِكاً قَطُّ يُعَظِّمُهُ أصحابُهُ ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ محمَّداً، واللهِ إنْ تَنَخَّمَ نُخامةً إلاَّ وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُمْ، فدلَكَ بهَا وجْهَهُ وجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصواتَهُم عندَهُ، وما يُحِدُّونَ إليهِ النَّظَرَ تعظيماً لهُ، وإنهُ قدْ عَرَضَ عليكُم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقْبَلُوهَا) (رواه البخاري)، فلم يقبلوا قوله.

ثمَّ أرسلوا مِكْرَز بن حفص، (فلمَّا أشْرَفَ عليهِم قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «هذا مِكْرَزٌ، وهُوَ رجُلٌ فاجرٌ»، فجَعَلَ يُكَلِّمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فبَيْنَما هوَ يُكَلِّمُهُ إذْ جاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لقدْ سَهُلَ لكُم مِنْ أمرِكُمْ" (رواه البخاري) .

وجَرَى بينهما الصُّلْح: على أنْ تتوقفَ الحربَ عشر سنين، ويعود المسلمون إلى المدينةِ على أنْ يَعْتَمِرُوا العامَ القادم، ومَنْ أتى إلى المسلمين من قريشٍ بدون إذن وليِّه فيُرد، ومَن جاء قريشاً فلا يُرد، إلى آخر الشروط.

♦♦ ♦ ♦♦

أيها المسلمون:

لقد سمَّى اللهُ صُلْح الحديبية فتحاً، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وفي هذا الصُّلْح من الفوائدِ والأحكامِ والعِبَرِ ما لا يُحصيهِ إلاَّ الله تعالى، وذكَرَ الإمام ابن القيم في كتابه العظيم (زاد المعاد) شيئاً منها، واستنبطَ شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله منه مائة وتسعة وثلاثين فائدة،

فقال: (ذكر بعض الفوائد التي في قصَّة الحديبية، منها وهي أعظمها: تسمية الله تعالى «لا إله إلا الله» كلمة التقوى، وجَعَلَها أعداءُ اللهِ كلمة الفجور، ومنها: تفسير شيء من شهادة أن محمداً رسول الله، لاستدلال أبي بكرٍ على عمرَ لَمَّا أشكل عليه مسألة مِنْ أشكلِ المسائل، ومنها: عَظَمة أعمال القلوب عند الله، لأن أهل الشجرة لم يبلغوا ذلك إلا بأعمال الله في قلوبهم،

ومنها: الخطر العظيم في أعمال القلوب، لقوله: «كادوا يهلكون»،

ومنها: أنهم مع ذلك مجاهدون في الدِّينِ لم يغضبوا إلاَّ لله فلم تنفعهم النيَّة الخالصة، ومنها: حاجتهم إلى الْمَدَد الجديد، فلولا أنَّ الله أنزلَ السكينة عليهم لم يَقْوَ إيمانُهم على تلكَ الفتنة، ومنها: أنَّ هذا من أعظمِ ما يُعرِّفكَ حاجتك إلى الله في تثبيت القلبِ على الإيمان كلَّ وقتٍ، بل تُعرِّفُكَ حاجة الكمال إلى ذلك، ومنها: أنَّ ذلكَ الكلام محسوبٌ من السيِّئات العظيمة لقول عمر: «فعملتُ لذلكَ أعمالاً»، ومنها: اجتماع الأضداد حتى في قلوبِ الكُمَّلِ بعض الأحيان لقوله: «وأنا أشهدُ أنه رسولُ الله»، ومنها: أنَّ أعلمَ الناس قد يفهم من النصِّ ما لا يَدُلُّ عليه لقوله: «تُحدِّثنا أنا نأتي البيت»، ومنها: معرفةُ أنه يُتصوَّر أن أعلمَ الناس وأتقاهم قد يَعْصي النصَّ الصريح ديانةً، لقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «قُوموا فانحروا» فلم يفعلوا،

ومنها: معرفة قوله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}  [البقرة: 216]، إلى آخر ما قاله رحمه الله.

ومنها كما قال ابن القيم: (إنَّ هذهِ الهُدْنةَ كانتْ مِنْ أعظَمِ الفُتُوحِ، فإنَّ الناسَ أَمِنَ بعضُهُمْ بَعْضاً، واخْتَلَطَ المسلمونَ بالكُفَّارِ، وبادَؤوهُم بالدَّعوةِ وأَسْمَعُوهُمُ القُرآنَ، وناظَرُوهُم على الإسلامِ جَهْرَةً آمِنينَ، وظَهَرَ مَنْ كانَ مُخْتَفِياً بالإسلامِ، ودَخَلَ فيهِ في مُدَّةَ الهُدْنةِ مَنْ شاءَ اللهُ أنْ يَدْخُلَ، ولهذا سَمَّاهُ اللهُ فَتْحاً مُبيناً) انتهى.

 

وقال النوويُّ: (قالَ العلماءُ: والمصلحةُ الْمُتَرتِّبةُ على إتمامِ هذا الصُّلْحِ ما ظَهَرَ مِنْ ثَمَراتهِ الباهرةِ وفوائدهِ الْمُتَظاهِرَةِ التي كانتْ عاقِبَتُها فتْحَ مكَّةَ وإسلامَ أهلِها كُلِّها، ودُخُولَ الناسِ في دِينِ اللهِ أفواجاً) انتهى.


 

سعد بن ناصر الشثري

دكتوراه من جامعة الإمام بالرياض، وعضو بهيئة التدريس بكلية لشريعة وهيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء