الاستعداد للجهاد
إن عندكم شعباً يريد أن يعمل، يريد أن يجاهد، فلا تصبوا على جمرة حماسته كأس ماء؛ فإنكم لا تجدون كل يوم مثل هذه الحماسة!
أحلف لقد خجلت وودت لو اختبأت في بيتي شهراً، مما لقيت من الثناء على هاتين الخطبتين، والإعجاب بهما، والشكر عليهما، من أصدقاء ومن خصوم، وممن أعرف وممن ليس بيني وبينه معرفة، ومن متعلمين ومن عوام، ومن رجال ومن نساء.
ولست أقول هذا لأني زُهيت بهذا الظفر، واغتررت بهذا التشجيع. لأن والله ... ولقد خطبت في مواقف أخطر من هذا الموقف، ولقيت إكراماً أكثر من هذا الإكرام، وعانقت أعواد المنابر أكثر من خمس وعشرين سنة في الشام ومصر والعراق ... ولكن أقوله لأدل أولي الأمر على أن الناس ما اعجبوا بخطبتيّ هاتين لبلاغتهما، ولا لسحر بيانهما، ولا لروعة إلقائهما، بل لأنهما ترجمتا عما في أفئدة الناس جميعاً، وعبرتا عما في قلوبهم.
أفئدة الناس تغلي من الحماسة، وتضطرم بالرجولة، وتشتاق إلى الجهاد. الناس الذين كانوا يجزعون من الجندية أكثر من جزعهم من الموت، وكانوا يخافون «أبا لبادة» أكثر من خوفهم عزرائيل، وكانوا ينادون حينما يطلع من أول السوق: «عباية» ليحذر الفُرّار ويختبئوا حتى لا يداهمهم فيقول لهم كلمته التي كانت تقطع قلوب الرجال: «ناردة وثيقة»؟
هؤلاء الناس قد تبدلوا خلال ثلث قرن حتى صاروا يمطرون الحكومة والصحف بالبرقيات والكتب، يطلبون ويلحون في الطلب، يريدون أن يلبسوا بزة الجند ويحملوا السلاح.
الدماء تشتعل في العروق، حماسة ونجدة وكرهاً باليهود وحباً للثأر، والحكومة لا تبالي فلا تطبق نظام الفتوة، وقد طبقوه في العراق -لما كنا مدرسين فيها- فصارت المدارس ثكنات وإن بقيت بالعلم مدارس، شدت الجندية أعصاب الطلاب، وقوت خلائقهم، وردت الدماء إلى وجوههم، والعزم إلى قلوبهم، وقضت على التفاوت بينهم، فلم يبق غني يأتي المدرسة بأغلى الحلل، وفقير بالرث المهلهل، ولكنهم جميعاً جنود، بلباس الجنود.
ونحن -المدرسين- قد لبسنا يومئذ ثياب الضباط، ووضعنا الأشرطة على الأكتاف. ولا أكتم القراء أنّا كنا نجهل (أنا وأنور العطار) كيف نمشي وكيف نرد تحيات الجنود في الطرقات، ولكني -مع ذلك- لم أكن أستطع أن أمشي منحنياً؛ لأن النطاق يشد بجلدته صدري وظهري، ولا أقدر أن أسير متخاذلاً؛ لأن الحذاء الطويل (الجزمة) يقيم رجلي، ولو لم أستفد إلا هذا لكفاني.
فلماذا لا تطبق الحكومة نظام الفتوة في المدارس؟ ولماذا لا تفتح مراكز التدريب في كل حي كما كانت الحال أيام الاستقلال في سنة 1918، يوم كانت البلد من الحماسة شعلة نار؟ ولماذا يذهب التلاميذ الآن إلى الرحلات بالسيارات، من الباب إلى الباب، فلا يمشون مشية الجند، وينشدون أقوى الأناشيد، وتخفق فوق رؤوسهم الأعلام؟ لقد كنا نمشي في أسواق دمشق وضواحيها ننشد:
نحن لا نرضى الحماية ... لا ولا نرضى الوصاية
فيرددها معنا البائع والشاري والواقف والماشي، حتى الأطفال. ولقد
سمعت -أقسم بالله- أمس طفلاً لا يكاد يبين معه الكلام، ولم يتعلم بعد النطق، يردد: ياوازلفيو (يا عوازل فلفلوا) ... هذه ثمرة من ثمرات الإذاعة التي تكلف الأمة ثلاثة آلاف ليرة كل ليلة!
ولماذا لا تنشر في الناس الكراسات، وفي الصحف المقالات، وفي المذياع الإذاعات، تعلمهم كيف يتقون الهلاك إن كانت غارة؟
أنا لا أدري إن كانت غارة ماذا أصنع: هل أبقى في البيت أم أخرج إلى الشارع؟ وهل أقوم أم أنبطح على الأرض؟ فمن أين أتعلم ذلك: من القانون المدني أم من كتاب البيان والتبيين؟!
أيها الحاكمون:
إن عندكم شعباً يريد أن يعمل، يريد أن يجاهد، فلا تصبوا على جمرة حماسته كأس ماء؛ فإنكم لا تجدون كل يوم مثل هذه الحماسة!
متى كنتم تجدون طلاباً يطلبون أن تخرس هذه الأفواه التي تغني في الإذاعة الأغاني الرخوة المائعة الفاسقة، لتنطلق من الحناجر أناشيد الجهاد والجلاء؟ متى كنتم تجدون طلاباً يطلبون أن تقطع الأيدي التي تعرض هذه الأفلام الداعرة الفاجرة، وأن نستبدل بهز البطون هز الأعلام، وبتحريك الأفخاذ تحريك البنادق؟ متى كنتم تجدون طلاباً يتركون لذائذ الشباب، ومغريات الشباب، ليصيروا جنوداً للوطن يشتغلون بصناعة الموت؟
يا أيها الحاكمون أنتم وحدكم الآن المسؤولون!
علي الطنطاوي
الأديب المشهور المعروف رحمه الله تعالى
- التصنيف:
- المصدر: