دروس عن الهجرة - (1) الهجرة من دار الاستضعاف إلى دار التمكين والعزة
هكذا كان حال كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يعانون الأذى الشديد والتعذيب من هؤلاء الكفار الفجار، ولم يسلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا النبي الكريم الذي ما آذى أحداً، ولا منه الناس كلمة لاغية، ولا لفظة فاحشة، فقد ناله عليه الصلاة والسلام شيء عظيم من الأذى..
أما بعد: أيها الإخوة الكرام! في هذا المقال -إن شاء الله- نتناول طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهجرته المباركة التي كانت انتقالاً من دار الكفر إلى دار الإسلام، وانتقالاً من مرحلة الاستضعاف والقلة إلى مرحلة العزة والكثرة، كما قال الله عز وجل في معرض الامتنان على نبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
أنواع العذاب الذي صبر عليه المصطفى وأصحابه
لقد أرسل الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله، وكان يقول: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، قولوا: لا إله إلا الله كلمة أشهد لكم بها عند الله} )، ولكن القوم: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وكانوا يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وكانوا يقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، وكانوا يقولون: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]
ونحو ذلك من أنواع السخرية والاستهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام. ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل سلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضوان الله عليهم نوعين من الحروب المؤذية الفتاكة: النوع الأول: الحرب الاقتصادية، وذلك حين كتبوا تلك الصحيفة الظالمة الخاطئة، وعلقوها في جوف الكعبة: ألا يبيعوا للمسلمين ولا يبتاعوا منهم، وألا يزوجوهم ولا يتزوجوا منهم، فحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في شعب بني هاشم ثلاث سنوات حتى اضطروا إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان أحدنا يضع كما تضع الشاة! فإذا أراد أحدهم أن يقضي حاجته فإنه يخرج منه كالبعر الذي يخرج من الشاة من شدة الجوع وقسوة العيش التي كانوا يعانونها، وكل ذلك من أجل أن يردوهم عن دينهم! النوع الثاني: حرب التصفية الجسدية، فقد كانوا يأتون بالرجل ويجوعونه ويعطشونه، يلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويضربونه بالسياط، ويدفعونه إلى صبيان مكة يتقاذفونه، ويقولون له: واللات والعزى! لا ندعك حتى تكفر بمحمد وإله محمد، حتى إن بعض الصحابة فقد بصره من شدة التعذيب والأذى، مثل زنيرة جارية رومية فقدت بصرها، فقال المشركون: أذهب بصرها اللات والعزى، فقالت رضي الله عنها: كذبتم وبيت الله! ما تنفع اللات والعزى وما تضر، ما أذهب بصري إلا الله وهو قادر على أن يرده إلي، فرد الله عليها بصرها.
وسمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما كانوا يعذبونها، حتى دخل عليها عدو الله أبو جهل وأفحش لها في القول، وقال لها: ما أسلمت إلا من أجل الرجال، فما ردت عليه وما أجابت؛ لأنها من عباد الرحمن الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فعمد عدو الله إلى حربته فطعنها في فرجها، فمضت شهيدة إلى ربها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مواسياً لـ عمار: «قتل الله قاتل أمك يا عمار».
وهكذا كان حال كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يعانون الأذى الشديد والتعذيب من هؤلاء الكفار الفجار، ولم يسلم من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا النبي الكريم الذي ما آذى أحداً، ولا منه الناس كلمة لاغية، ولا لفظة فاحشة، فقد ناله عليه الصلاة والسلام شيء عظيم من الأذى، ومن ذلك: أنه كان ساجداً عند الكعبة، فقال المشركون بعضهم لبعض: من ينطلق إلى جزور بني فلان فيأتي بسلاها فيطرحه على رأس محمد، فانبعث أشقاهم وهو: عقبة بن أبي معيط، فأتى بالقذر والنتن وطرحه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.
وأحياناً يكون ساجداً فيأتي المشركون بالتراب فيضعونه على رأسه.
وأحياناً يكون ساجداً صلوات ربي وسلامه عليه فيأتي أحد المشركين فيضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت عيناه تندران، أي: تخرجان.
ومرة أخرى يأتي الطارق إلى أبي بكر ويقول له: أدرك صاحبك فإن القوم قاتلوه، فيخرج أبو بكر رضي الله عنه الله عنه يجر إزاره، فيجد المشركين قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: فهذا يشتمه، وذاك يصفعه، وهذا يجذبه، فجاء أبو بكر مسرعاً فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، فردد الكلمات التي قالها مؤمن آل فرعون، فترك القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر يصفعونه ويضربونه، حتى كان عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بالنعل على وجهه، حتى دمى وجه أبي بكر، وأغشي عليه رضي الله عنه، وحمل إلى بيته وهو لا يعقل شيئاً، فلما أفاق فتح عينيه فقُرب إليه طعام، فكان أول كلام نطق به أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أبا بكر! قال: والله! لا أذوق ذواقاً ولا أطعم طعاماً، حتى آتيه فأنظر إليه.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مثل هذا الجو المشحون بالأذى والكيد والمكر، فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بأن يخرجوا إلى الحبشة، فخرجوا رضوان الله عليهم بالهجرة الأولى، ثم خرجوا بالهجرة الثانية، وما زال الأذى يشتد ويتفاقم، وما زال الكيد يعظم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر مداه، وذلك حين اجتمع القوم ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
ومكر الله عز وجل هو بطشه وأخذه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:102 - 103].
فلما بلغ الأمر بالنبي عليه الصلاة والسلام ذلك المبلغ، أذن لأصحابه بأن يخرجوا إلى المدينة، وإلى خير دار مع خير جيران، وهذا كله بوحي وبأمر وبتدبير الله، فإن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في التوراة والإنجيل هي: عبدي ونبيي محمد، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أميته حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر إلى أرض سبخة، كثيرة الحجارة بين حرتين.
وهذا الوصف ينطبق على المدينة المنورة التي كانت تسمى يثرب، فقد قيض الله عز وجل لبنيه صلى الله عليه وسلم جماعة أخياراً من الأوس والخزرج، فبايعوه البيعة الأولى وهي التي تسمى ببيعة النساء، والتي فيها الأمور الستة: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف، هكذا كانت البيعة الأولى.
ثم كانت البيعة الثانية التي شهدها ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهي بيعة العقبة الثانية، وهي التي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج مهاجراً إليهم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن يدافعوا عنه بكل ما أوتوا.
فلما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليبايع القوم حرص عمه العباس أن يشهد تلك البيعة رضي الله عنه، وكان إذ ذاك على دين قومه، فقال للأنصار: (يا معشر الأوس والخزرج! إن محمداً ابن أخي منا حيث قد علمتم، قد فارق ديننا وعاب آلهتنا، لكنه منا بمقام عظيم، فإن كنتم مسلميه إن عضتكم الحرب فمن الآن فدعوه، فالتفت القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! اشترط لنفسك ولربك، فاشترط صلى الله عليه وسلم لربه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، قالوا: فما لنا إن وفينا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل).
فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تلك البيعة العظيمة التي ترتبت عليها الهجرة المباركة، كما يأتي تفصيله في درس آخر.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد الحي يوسف
رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم
- التصنيف:
- المصدر: