المنتقى من روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان(2-4)
والواجب على العاقل الاهتمام بإصلاح سريرته, والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره...وأن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه.
الكريم واللئيم
أكرم الناس من اتقى الله, والكريم التقي, والتقوى هي العزم على إتيان المأمورات, والانزجار عن جميع المزجورات.
الكريم لا يكون حقوداً ولا حسوداً, ولا شامتاً, ولا باغياً, ولا ساهياً, ولا لاهياً, ولا فاجراً, ولا فخوراً, ولا كاذباً, ولا ملوماً, ولا يقطع إلفه, ولا يؤذي إخوانه, ولا يضيع الحفاظ, ولا يجفو في الوداد, يعطي من لا يرجو, ويعفو عن قدرة, ويصل عن قطيعة.
الكريم يلين إذا استعطف, ويجل الكرام, ولا يهين اللئام, ولا يؤذي العاقل, ولا يمازح الأحمق, ولا يعاشر الفاجر, مؤثرا إخوانه على نفسه, باذلاً لهم ما ملك.
الكريم من أعطاه شكره, ومن منعه عذره, ومن قطعه وصله, ومن وصله فضله, ومن سأله أعطاه, ومن لم يسأله ابتدأه, وإذا استضعف أحد رحمه...واللئيم بضد ما وصفنا من الخصال كلها.
أجمع أهل التجارب للدهر, وأهل الفضل في الدين, والراغبون في الجميل : على أن أفضل ما اقتنى الرجل لنفسه في الدنيا وأجل ما يدخر لها في العقبى هو لزوم الكرم, ومعاشرة الكرام, لأن الكرم يحسن الذكر, ويشرف القدر.
الكريم محمود الأثر في الدنيا, مرضى العمل في العقبى, يحبه القريب والقاصي, ويألفه المتسخط والراضي, يفارقه الأعداء واللئام, ويصحبه العقلاء والكرام.
وما رأيت شيئاً أكثر عملاً في نقص كرم الكريم من الفقر, سواء كان ذلك بالقلب أو بالموجود.
شعب العقل
لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة
أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة, لأن من صلح جُوانيه [باطنه] أصلح الله برّانيه [ظاهره], ومن فسد جوانيه أفسد الله برانيه.
والواجب على العاقل الاهتمام بإصلاح سريرته, والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره...وأن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه.
طلب العلم والمداومة عليه
الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يثني بطلب العلم والمداومة عليه, إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه.
والعاقل لا يشتغل في طلب العلم إلا وقصده العمل به, لأن من سعى فيه لغير ما وصفنا ازداد فخراً وتجبراً, وللعمل تركاً وتضيعاً, فيكون فساده في المتأسين به فيه أكثر من فساده في نفسه ويكون مثله كما قال الله تعالى } ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ ألا ساء ما يزرُون { [النحل:25] والواجب على العاقل مجانبة ما يدنس علمه من أسباب هذه الدنيا, مع القصد في لزوم العمل بما قدر عليه.
ويجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله...وفضل العلم قي غير خير مهلكة, كما أن كثرة الأدب في غير رضوان الله موبقة, والعاقل لا يسعى في فنونه إلا بما أجدى عليه نفعاً في الدارين معاً, وإذا رزق منه الحظ لا يبخل بالإفادة, لأن أول بركة العلم الإفادة.
لزوم الصمت وحفظ اللسان
الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه أن يتكلم, فما أكثر من ندم إذا نطق, وأقل من يندم إذا سكت, وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء : من ابتلي بلسان مطلق, وفؤاد مطبق.
والواجب على العاقل أن ينصف أذنيه من فيه, ويعلم أنه إنما جعلت له أذنان وفم واحد ليسمع أكثر مما يقول.
ولسان العاقل يكون وراء قلبه, فإذا أراد القول رجع إلي القلب, فإن كان له قال, وإلا فلا.
والعاقل لا يبتدئ الكلام إلا أن يسال, ولا يقول إلا لمن يقبل, ولا يُجيب إذا شوتم, ولا يجازي إذا أسمع, لأن الابتداء بالصمت وإن كان حسناً, فإن السكوت عند القبيح أحسن منه.
والواجب على العاقل أن يروض نفسه على ترك ما أبيح له من النطق لئلا يقع في المزجورات فيكون حتفه فيما يخرج منه, لأن الكلام إذا كثر منه أورث صاحبه التلذذ بضد الطاعات.
الصدق ينجي, والكذب يُردي, ومن غلب لسانه أمّرهُ قومه, ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئاً يُصدّق به, ولا يكذب إلا من هانت عليه نفسه.
ولو لم يكن للكذب من الشين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صدق لم يُصدق لكان الواجب على الخلق كافة لزوم التثبت بالصدق الدائم, وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسياً.
لزوم المدارة
الواجب على العاقل أن يداري الناس مدارة الرجل السابح في الماء الجاري, ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كدّر على نفسه عيشه, ولم تصف له مودته, لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه, إلا يكون مأثما, فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة.
ومن التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك, ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بدا, وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها, واستقباح أشياء كان يستحسنها – ما لم يكن ماثما – فإن ذلك من المداراة, وما أكثر من دارى فلم يسلم, فكيف توجد السلامة لمن لا يداري.
مؤاخاة الإخوان
الواجب على العاقل أن لا يغفل عن مؤاخاة الإخوان وإعداده إياهم للنوائب والحدثان.والواجب..أن لا يعد في الأدواء إخاء من لم يواسه في الضراء, ولم يشاركه في السراء ورب أخي إخاء خير من أخي ولادة. والعاقل لا يواخي لئيماً, لأن اللئيم كالحية الصماء, لا يوجد عندها إلا اللدغ والسم, ولا يصل اللئيم ولا يواخي إلا عن رغبة أو رهبة, والكريم يود الكريم على لقيةٍ واحدة,ولو لم يلتقيا بعدها أبداً.
عدم معادة الناس
العاقل لا يعادي ما وجد إلى المحبة سبيلاً....ولا يجب على العاقل أن يكافئ الشر بمثله, وأن يتخذ اللعن والشتم على عدوه سلاحاً, إذ لا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب, وتحصين العورات حتى لا يجد العدو إليه سبيلاً...والعاقل لا يغيره إلزاق العدو به العيوب والقبائح, لأن ذلك لا يكون له وقع, ولا لكثرته ثبات.
ترك مصاحبة الحمقى
الواجب على العاقل ترك مصاحبة الحمقى..كما يجب عليه لزوم صحبة العاقل الأريب, وعشرة الفطن اللبيب, لأن العاقل وإن لم يصبك الحظ من عقله أصابك الاعتبار به, والأحمق إن لم يُعدك حمقه تدنّست بعشرته.
ومن علامات الحمق : سرعة الجواب, وترك التثبت, والإفراط في الضحك, وكثرة الالتفات. والوقيعة في الأخيار, والاختلاط بالأشرار, والأحمق إذا أعرضت عنه اغتم, وإن أقبلت عليه اغتر, وإن حلمت عنه جهل عليك, وإن جهلت عليه حلم عنك, وإن أسأت إليه أحسن إليك, وإن أحسنت إليه أساء إليك, وإذا ظلمته انتصفت منه, ويظلمك إذا أنصفته, ومن أعظم أمارات الحمق في الأحمق لسانه, فإنه يكون قلبه في طرف لسانه, ما خطر على قلبه نطق به لسانه.
الأحمق إن صحبته عناك, وإن اعتزلته شتمك, وإن أعطاك منَّ عليك, وإن أعطيته كفرك, وإن أسرَّ إليك اتهمك, وإن أسررت إليه خانك, وإن كان فوقك حقرك, وإن كان دونك غمرك, والأحمق يتوهم أنه أعقل من ركب فيه الروح, وأن الحمق قسم على العالم غيره, والعاقل يجنب عليه مجانبة من هذا نعته, ومخالطة من هذه صفته, فإنهم يجترئون على من عاشرهم
من شيم العاقل : الحلم, والصمت, والوقار, والسكينة, والوفاء, والبذل, والحكمة, والعلم, والورع, والعدل, والقوة, والحزم, والكياسة, والتمييز, والتواضع, والعفو, والإغضاء, والتعفف, والإحسان, فإذا وفق المرء لصحبة العاقل فليشدد يديد به
- التصنيف: